فَـــنُّ السَّــــرْد

منبـر أدبـي ثقافي

recent

آخر المقالات

recent
recent
جاري التحميل ...

تحولات الشعرية في قصائد نجاح إبراهيم..ديوان( شهقة البرق) أنموذجاً I عصام شرتح

 

مجلة فن السرد

تحولات  الشعرية في قصائد الشاعرة نجاح إبراهيم

ديوان( شهقة البرق)أنموذجاً

عصام شرتح


الشعرية أفق جمالي مفتوح، ومؤثرات جمالية تنبني على فاعلية الرؤى التشكيلية التي ترسم الصور الشعرية، وتحقق أعلى القيم  والفواعل الجمالية المؤثرة؛ والجمال في الشعر هو ذلك البارقة أو اللمعة الجمالية الخاطفة التي تبرق من ركام الكلمات، وتشكيلها؛ فلا قيمة  للكلمة – في حد ذاتها- في لغة الشعر، وإنما القيمة المثلى لفاعلية التعبير الجمالي عن الحالة الشعرية، ومؤثراتها الجمالية، وهذا ما أشار إليه (رتشاردز)  بقوله:" ليس للكلمات في ذاتها صفات أدبية خاصة، ولا توجد كلمات قبيحة، أو جميلة في ذاتها، أو من طبيعتها أن تبعث على اللذة أو عدمها. ولكن لكل كلمة مجالٌ من التأثيرات الممكنة، يختلف طبقاً للظروف التي توجد فيها... والتأثير الذي تولده الكلمة فعلاً عبارة عن توفيق بين أحد تأثيراتها الممكنة، والظروف الخاصة التي توجد فيها"(1).

وهذا يعني أن فاعلية الكلمة شعرياً أو جمالياً تتأتى من بلاغة تشكيلها، أو من فنية تشكيلها الجمالي، والقدرة على الخلوص من خلالها إلى أنساق تشكيلية غاية في الاستثارة، والفاعلية، واللذة التشكيلية، ولهذا، نقول عن الكلمة أنها كلمة شعرية من خلال نسقها الشعري المثير الذي وضعت فيه، وحققت أعلى قيمها الجمالية؛ ولهذا قال ( مالارميه) مقولته الشهيرة:" الشعر يصنع لا من الكلمات، كتعبير عن الأفكار، ولكن من الكلمات نفسها (الكلمات كأحداث حسية)، باختصار- الكلمات كالأصوات التي تحملها"(2).

والواقع أن الفعل الجمالي الشعري لا يأتي تبعاً لفاعلية الكلمات ووظائفها الشعرية فحسب، وإنما يأتي تبعاً لفاعلية الرؤية الجمالية التي تحقق غايتها الجمالية، وشعريتها، من خلال تنظيم الكلمات في أنساق جمالية أشبه ما تكون بقوالب شعرية فنية تثير المخيلة الجمالية إزاء هذا الشكل الأسلوبي الجمالي أو ذاك؛ مما يدل على فاعلية جمالية، أو قيمة أسلوبية مغايرة في مسعاها الجمالي، وحراكها الإبداعي المثير. ولهذا، تبقى لعبة الشعرية اللعبة الجمالية التي ترتقي فوق الإدراك الحسي، إنها القيمة الروحية العليا التي توجه الذات الشعرية، لتشكل النسق اللغوي الجمالي المثير، والحبكة الشعرية الموفقة في استثارة القارئ في التلقي النصي.

واللافت أن البنية الجمالية التكوينية لقصائد الشاعرة نجاح الإبراهيم، تتمحرق على مثيرات البنى التصويرية المؤثرة، من خلال التشكيلات النصية المباغتة ومثيراتها التكوينية الرومانسية التي تعتمد طابع الحنكة الجمالية، في الانتقال من نسق جمالي تشكيلي إلى آخر؛ فالشاعرة نجاح إبراهيم  تثيرنا في ديوانها( شهقة البرق) بلغة انزياحية خلاقة بمثيراتها النصية من ناحية الحساسية الجمالية، في الانتقال من صورة مشهدية صوفية إلى أخرى، ومن تشكيلات استثارية صادمة، مغرفة في التجريد، والغواية اللغوية؛ وهذه الغواية مردها شعرية اللغة واستثارتها الجمالية بالانزياح من قيمة تشكيلية إلى قيمة؛ مما يخلق المتعة الجمالية في تلقي الجملة الشعرية كقيمة تحفيزية في استثارة المخيلة الجمالية لتلقي مثل هذه الانزياحات الفنية التي تمارس سطوتها بفعل التأثير الرومانسي الذي تفيض به قصائدها الشعرية الصوفية التي تمارس فعل الغواية بصورها ومتخيلاتها الجمالية البراقة كما في قولها:

" أنا التي أنبتُ سنابلَ شقراء،

بلحاً..

حقولَ رؤى تشي بالغوايةِ

المدنُ تصيرُ مواويلاً

على خدي

فراشاتٍ من البرق البهي"(3).

لابد من الإشارة بداية إلى أن الشعرية –عند نجاح إبراهيم – شعرية اقتناص التشكيلات الرومانسية الاستثارية البليغة التي تبرز أٌقصى درجات تفعيلها الرومانسي للصور الشعرية لتسمو جمالياً بالقارئ؛ كما في قولها:[سنابل شقراء- حقول رؤى، فراشات من البرق البهي]؛فلو تأمل القارئ الحراك الأسلوبي التخييلي لقولها :[ حقول رؤى]؛ لأدرك أن كلماتها الشعرية عميقة الدلالات والرؤى ؛ فهو تجمع حزماً من المعاني والرؤى التي تجمع بين تشظي الذات في رؤاها الغزلية واغترابها الوجودي العاطفي؛ لتشي بفعل غوايتها الانثوية بكل متطلبات كشف الذات الشاعرة عما تضمره من تطلعات وجودية وأحلام؛ وهذا يعني أن فعل الغواية –عندها - يتجلى في رهافة الصور الصوفية التي تشي بها الصور، لتحقق فعلها الجمالي التأثيري، كما في قولها:[أنا التي أنبتت سنابلَ شقراء، بلحاً.. حقول رؤى تشي بالغواية]، وهذا يعني أن فعل الغواية –هنا - فعل شعري، أو شاعري يقوم على تحقيق فاعلية لغوية تصويرية؛ تجمع الصورة الصوفية بفيوضاتها الجمالية، عبر رهافة التشكيل، والإحساس الصوفي العميق، وهذا يعيدنا إلى الفكر الصوفي والرموز الصوفية في التجلي، وفعل الغواية، والتوق، والوله الصوفي، وما يقع ضمن نطاقها من مصطلحات تحقق فعل غوايتها الصوفي في التجلي الأسمى. ولهذا تحقق قصائد نجاح إبراهيم إيقاعها الصوفي من خلال فعل التجلي الجمالي، وطاقة التخييل العميقة،والرموز  التي تشي بها

 وهذا ما يظهره قولها في هذه التقليعة الصوفية المثيرة:

" عبرت يباسَ القلب

حين جالَ ورقُ همسه في

دمائيا

فكساهُ ورداً وندىً

وأقاحيا

يا للتسابيح!

كم صداها في القلب الطهورِ

يُرغبُ؟

رحتُ أتبعُ أثرَ العطر

أغذُّ السيرَ من شغفٍ

وجنونٍ..."(4).

إن القارئ ،هنا، ليس أمام صور صوفية تحقق فعل غوايتها جمالياً فحسب، وإنما أمام طقس صوفي تأخذنا إليه الشاعرة لتمارس فعل غوايتها جمالياً، وهذا ما عبرت عنه في التساؤل الصوفي المفتوح في تجلياته وألقه الروحي:[ كم صداها في القلب الطهور يرغب ؟]،ثم تباغتنا بحساسية الرؤية الشعرية، وتوق  الحالة الصوفية بكل ألق اللحظة الشعورية المحمومة، وفعل غوايتها المثير:[ رحتُ أتبعُ أثر العطر/ أغذُّ السيرَ من شغفٍ وجنون...]، فالقارئ يلحظ هذا الألق الجمالي في النسق الشعري عبر الانزياحات  التشكيلية البليغة في وقعها الصوفي العميق :[ِشغف وجنون]؛وهذا يدلنا على أن فعل الغواية صوفياً هو طقس إبداعي تنقلنا إليه الشاعرة من حالة صوفية إلى حالة صوفية  أكثر استثارة وشعرية؛ مسكونة بتوق اللحظة، وفعل غوايتها المثير، كما في قولها:

"وكيف تنفلتُ غاباتُ الفرحِ

من حنجرتها

وتبدأ فاتحةَ نشيدها

فينهمرُ الندى"(5).

لابد من الإشارة بداية إلى أن فعل الغواية صوفياً- في قصائد نجاح إبراهيم- هو فعل شعري جمالي تستثير أرقى الصور الصوفية في توصيف الحالة الشعورية المحمومة بتجلياتها ورؤاها الجمالية، وهنا تمارس فعل غوايتها جمالياً عبر التساؤلات الصوفية المثيرة في توقها الروحي، كما في هذا التساؤل الصوفي التوصيفي للحالة الغزلية، بكل دفق وحراكها الروحي الذي يعتمر في الذات في قرارها العميق؛ وكأن توق الحالة، هو الذي يحرك الشعرية، ويحرك إيقاعاتها الجمالية، ففي كل تساؤل ثمة انفتاح جمالي تحفيزي في أفق الرؤيا الصوفية عند الشاعرة، كما في قولها:

" كيف ينجو المصلوب من وخز الصلب؟

ويتفتقُ الطينُ عن برارٍ

من برقٍ ووجد؟"(6).

إن فعل الغواية صوفياً يبرز من خلال متحوله الجمالي المثير الذي تحركه الشاعرة من تساؤل صوفي توصيفي يصف الحالة الشعورية، وإيقاعها الروحي المتوتر صوفياً، إلى تساؤل محموم يشي بوهج الحالة الصوفية وإيقاعها المتوتر، وهذا يعني أن فعل الغواية صوفياً هو الذي يحرك الرؤى الشعرية، لتتفتق عنها هذه الشعرية، التي تأخذنا إليها بعين لاقطة تفجر عمق الإحساس الصوفي، لتفتح أفق الغواية على التلاعب اللغوي من خلال صياغة الأسئلة الصوفية الوجودية، لتمارس فعل غويتها الصوفي جمالياً، كما في قولها:

"كنتُ أخطط لرسم مدائن جديدة

أرتديها عطراً

وترتديني غمامة ً

تصبُّ دنان خمرها

في دمي

فأسقي العطاش

من شراييني

مدائن!!

تضمنا بأخضرها

بعد يباسِ اغتراب"(7).

هنا، يبرز  فعل الغواية جمالياً من خلال حساسية اللغة جمالياً، وبعد الصورة في تحقيق النشوة الجمالية في توصيف الحالة الشعورية، فترسم الصورة التي تفيض بمواجدها، وإحساسها الصوفي المتوهج:[تصب دنان خمرها في دمي/ فأسقي العطاش/ من شراييني]، وهذا يقودنا للقول:

إن فعل الغواية شعرياً أو جمالياً تؤسسه الشاعرة على مثيرات الرؤيا الصوفية التي تتوخى أعلى درجات الاستثارة والشعرية في الانتقال من رؤية جمالية صوفية إلى رؤية صوفية أكثر استثارة ولذة في ترسيم الحالة، وتأسيسها جمالياً، وهذا ما يضمن لقصائدها  فعل غوايتها الشعري الجمالي لالتقاط ماهو مثير في الصورة، والرؤية، والموقف، والحالة الصوفية في أوج تفتقها الجمالي وفعل غوايتها الشاعري المؤثر.

نتائج أخيرة:

1-إن شعرية اللغة- في ديوان( شهقة البرق)- تتبدى في تحولات الرؤى الصوفية واستثارة إيقاعاتها الجمالية؛ فكل رمز صوفي يحرك النسق الشعري عبر حرارة الرؤية الصوفية والتعبير الجمالي الاستثاري عن وقع الحالة وصداها الجمالي المفتوح.

2-إن شعرية اللغة – في ديوان (شهقة برق)- تبدو في التشكيلات اللغوية المثيرة التي تظهر في سياقات تصويرية مراوغة تكشف جاذبية التعبير الأنثوي الصوفي؛ وحراك الرؤى التي تجسدها في سياقات ملتهبة عاطفياً في إيقاعها وحراكها الجمالي.

3-إن تحولات الشعرية – في ديوان ( شهقة البرق) يعتمد استثارة النسق التجاذبي الفني من حيث التآلفات الصوتية المموسقة وإيقاعها الفني الجذاب؛ وكأن الشاعرة تركز تشكيلاتها النصية في فاصلة الختام لتكون أكثر تأثيراً في القارئ بفضائها الجمالي؛ وتنوع أساليبها الشعرية.

  

هوامش:

(1)رتشاردز،1961- مبادئ النقد الأدبي، تر: مصطفى بدوي، ولويس عوض،وزارة الثقافي والإرشاد القومي، المؤسسة المصرية العامة، ص190-191.

(2) مكليش،أرشيبالد،1963- الشعر والتجربة، تر: سلمى خضراء الجيوسي، مرا: توفيق صايغ، دار اليقظة العربية، ومؤسسة فرانكلين، بيروت، ص23.

(3)إبراهيم، نجاح،2017- شهقة البرق، دار محمد سلامة، مصر، ط1، ص11.

(4) المصدر نفسه، ص6.

(5)المصدر نفسه، ص10.

(6)المصدر نفسه، ص11.

(7) المصدر نفسه، ص15.

مجلة فن السرد/ قراءات ودراسات

عن الكاتب

مجلة فن السرد

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

فَـــنُّ السَّــــرْد