فَـــنُّ السَّــــرْد

منبـر أدبـي ثقافي

recent

آخر المقالات

recent
recent
جاري التحميل ...

الحدث التاريخي وتبعاته في رواية " أسلاك شائكة " لمصطفى لغتيري I عبد النبي بزاز

 

مجلة فن السرد


الحدث التاريخي وتبعاته في رواية " أسلاك شائكة " لمصطفى لغتيري


تؤسس رواية " أسلاك شائكة " للروائي المغربي مصطفى لغتيري لنسق روائي يستمد مادته من حدث تاريخي تمثل في تهجير مواطنين مغاربة من الجزائر، بدوافع سياسية شكلت قناعة لدى الطغمة الحاكمة التي َرحَّلت أفرادا قادتهم الظروف إلى للإقامة بين ظهرانيهم ، وما أفرزه من معاناة تعددت تجلياتها ، وتنوعت تبعاتها لدى الأسر المُهَجَّرة التي عانت من ألم الفراق ، ولوعة الإبعاد .

 حدث كشفت خلفياته اللاإنسانية ، ومحصلاته المأساوية عن تفكك عرى الوحدة والتضامن بين شعبين يشتركان ويتقاسمان ثوابت تاريخية وثقافية وحضارية، عصفت بقيمها ومقوماتها رؤى سياسية ضيقة تغذت من روافد حقد أعمى ، وضغينة هوجاء مما ساهم في تشتيت شمل أسر ، وتعريضها للضياع والتشريد لتتشكل معالم الرواية  في نسق مجرياتها وسيرورة وقائعها من محورين أساسيين، تمثلا في حدث تهجير احميدة المغربي وإبعاده عن زوجته الزاهية الجزائرية دون مراعاة مشاعرهما، وهما ينتظران قدوم ابنتهما المهدية التي لم تنعم برؤية والدها جراء ما تعرض له من ترحيل تعسفي غاشم ، وأيضا راضية المغربية المتزوجة من جزائري والتي عانت من ويلات التهجير القسري لتتقاطع مع احميدة مصيرا مريرا حافلا بمشاعر يأس اختزله انتظار مأساوي عصف بقيم ومقومات صمودهما أمام أنواء الرغبة وأهوائها، في استسلام صادم لم يجل بخلد ولا بخيال كليهما حين جمعتهما الصدفة في ماخورللدعارة، فلم يصدقا ما حدث خصوصا احميدة الذي ترسخ لديه تصور من نبل و طهارة عن راضية منذ اهتمامه بها إلى تعرفه عليها :

 " كانت دوما تلفت انتباهه امرأة ... كان جمالها ملفتا ... في أوقات معينة كانت نفسه تحن إلى رؤية تلك المرأة، إنها  تشبه الزاهية بشكل مثير، وكأنها هي . " ص 48 ، تطور إلى ألفة اختزلتها ابتسامة من جانبها :

 " أخذت كلما التقيا في الطريق أو تقاطعا على الرصيف ترسم على شفتيها ابتسامة خجلى تجود بها عليه . " ص48 ،ليعرف بعد ذلك أنها هي أيضا ضحية تهجير قسري من الجزائر : " أنا كذلك تعرضت لنفس المصير . زوجي وأبنائي لا يزالون في الجزائر. بينما طردت أنا إلى المغرب. " ص 63 ، فقد جمعهما مصير مأساوي مشترك . تقاسما ويلاته ، وتجرعا مرارة تبعاته : " حكى لها حكايته ، وحكت حكايتها . كان الكثير من اليأس يرفرف على أجواء الحكايتين ، فرغم تشبث كل منهما بالأمل ، بيد أنه أمل متهالك ، متداع ، يوشك أن يصبح حطاما . " ص  64، ليكتمل شكل مأساة جريرة الترحيل ، وتتكامل خطوطها  وأطرافها : " لا أحد يجرؤ على ارتكاب هذا الجرم . الزوجة تنتزع من زوجها وأبنائها والزوج يرحل عن زوجته وأبنائه.. " ص 64 ، فقد فكر فيها إلا أن تفكيره لم يرق إلى مستوى ارتباط يغدو بديلا لزوجته الزاهية لينحصر في دائرة لا تتعدى حدود اهتمام  يكتفي بالتفكيرو الرؤية : " المرأة الوحيدة التي يهتم بها في عالمه الجديد هي راضية . عواطفه نحوها غير واضحة . مرتبكة ، ولا معنى لها ... فكر بأنها تذكره بزوجته لكنه أبدا لم يسع لشيء آخر غير التفكير فيها . كان متأكدا  من أنه تجب رؤيتها.. " ص  74، انجذاب وتصور آل إلى خيبة وإحباط  تجسد في مشهد اختتمت به الرواية فصولها ، وأنهت تفاصيلها حين اكتشف ارتيادها لوكر دعارة جمعتهما في رحابه رغبة عجزا عن مقاومة أهوائها ، وكبح جماحها رغم ما بذلاه من جلد وثبات في قمعها وكبتها لتستسلم لنزوة المحظور ، والإذعان لشيطان غوايته يقفز معه سؤال محير ومقلق لذهنه بخصوص وضعية زوجته : " ترى هل تكون الزاهية قد تعرضت لنفس المصير ؟ " ص 79 ،في مقارنة بين راضية وزوجته الزاهية اللتين عانتا من لوعة الفراق ، واكتوتا بنيران تبعاته وتداعياته .

فإن كان حدث تهجير السلطات الجزائرية للمغاربة المقيمين ببلدهم بشكل ينم عن حقد دفين وكراهية مقيتة من خلال سلوك العسكر الشائن : " اسكت يا ابن العاهرة ... أمامي وإلا جلدتك هنا أمام الملأ . " ص 27، وهو ما عانى منه احميدة كباقي أبناء وطنه المرحلين : " لكزه في ظهره ، ثم خاطبه بلهجة صارمة تفوح منها رائحة حقد وليد ... " ص 28 ، الذين رددوا عبارات من قبيل : " سيرحلوننا نحو المغرب .. يعتبروننا الآن أعداءهم . " ص 29، في سلوك يعكس ما تمور به دواخلهم من حقد وكراهية : " العساكر ينهرون الركاب. يحرضونهم على لزوم الصمت ، ثم ما يلبثون أن يشتموهم بأحط النعوت والأوصاف ... " ص 31 ، ليشيع صدى المقت والعداء داخل صفوف الجزائريين كما حصل مع لخضر جار احميدة ، وما صدر عنه من تنكر لسابق علاقتهما حيث خاطبه : " ألا تعرف ما حدث ؟ أنتم غادرون . لقد هاجمتم بلادنا ، وهي لم تتعاف بعد مما ألحقه الكفار الفرنسيس . " ص 16 ، فانقلبت علاقته بجاره المغربي ، وغد ت مشحونة بالمقت والضغينة ، وأرخى الحدث بظلاله على أوضاع أسر مغربية هُجِّرت  ظلما وعدوان عكس السلطات المغربية التي لم تعاملهم بالمثل : " الشيء المختلف هنا هو أن الإذاعة حملت المسؤولية للجزائر في بدء الحرب .. كما أنها أشارت إلى أن السلطات المغربية لم تعمد إلى طرد أي جزائري أو جزائرية من ترابها الوطني . ص 33 ،وما عاشته أسرة احميدة من معاناة من خلال زوجته ، قبل أن تقضي نحبها ، وابنتهما المهدية في ترددهما على النقطة  الحدودية ( جوج بغال ) للظفر بلقاء ولو اقتصر على الرؤية والمشاهدة فقط  الشيء الذي عز تحقيقه، نفس الحالة عاشتها المغربية راضية دون جدوى . ليرتميا في أحضان رذيلة  لطالما عملا جاهدَيْن  على عدم الانسياق وراء غوايتها وجاذبيتها .

ورغم سيطرة مِحورَيْ الحدث التاريخي والتباعد الأسري على متن الرواية وما عرفاه من تقاطع وتماه عبر هواجس محملة بمشاعر الحلم والأسى ، الأمل واليأس إلا أن هناك موضوعات بحمولات دلالية ورمزية ، وعناصر سردية أثرت نسيجها فغدا أكثر تنوعا وعمقا وتشعبا ؛ كموضوع التحول الذي ارتبط بشخصية احميدة داخل نسق محوري ، وما عرفه من تجاذب وتنابذ على مستوى سير الوقائع ، وتواتر الأحداث : " ما إن تقاطعت طريقه بطريق الزاهية حتى انقلب رأسا على عقب .. حياته تغيرت بشكل جذري ... " ص 7 ، بل إن حياته ، حين اقترن بالزاهية طالها تغيير في الطبع والسلوك  : " لقد تغير كثيرا . أصبح بدوي الطبع والخلال .. " ص 22 ، فتحول من مهنة التجارة : " برع في تجارته ، وإن كان المال دوما يتسرب من بين يديه بشكل لا يكاد يصدقه هو نفسه ..  " ص 8،إلى الاشتغال بالفلاحة التي امتدت بينه وبينها خيوط عشق وشغف : ؟" لم يعد يتصور حياته بعيدا عنه ( الحقل ) ، دون أن ينهمك في أشغاله . في رحابه يقلب التربة ، ويشق الطريق للماء ليمر نحو النباتات والخضراوات ... " ص 15، مما حذا به ، بل حتم عليه تغيير العديد من طباعه وعاداته : " طال حياته تغيير جذري ، وأصبح ضروريا أن يغير الكثير مما اعتاد عليه سابقا .. " ص  58، حين انتقل إلى مهمة سياقة شاحنة نقل مواد البناء المصنعة.

كما توسلت الرواية بعناصر السرد المعروفة من استرجاع : " يرجع به القهقرى إلى طفولته البعيدة ، يتذكر نفسه وهو يركض هنا وهناك ..." ص  23، في استحضار للمكان ( فاس ) ، والزمن ( الطفولة ) ، والأهل ( الأم ) : " كانت الإذاعة تبث أغنية مغربية ذكرته بالماضي البعيد ، تماهى معها محاولا أن يسترد بعضا من ذكرياته البعيدة ، ساحت به الذاكرة في أزقة فاس ، تستفز الحنين إلى الطفولة ... حضر وجه أمه قويا .. تراءت له ملامح وجهها وابتسامتها التي كانت دائما تأسره ... " ص 33، واستباق : " سيكون ابنه ورفيقه في الحياة ... سيلاعبه ويناغيه ... لن يسمح أبدا بأن تفوت ابنه فرصة أن يكون مختلفا عنه ، ويكون مصيره أفضل مما كتب له هو في الحياة . " ص 23 ، فضلا عن باقي العناصر من حوار ، وشخوص ، وأحداث . كما عمد الروائي إلى التنويع في ثوابت إبداعه عبر نسق مكونات الرواية وسياقاتها ، بحيث انزاح عن الحدث ( التاريخي ) الذي تمحورت حوله الرواية، وما نجم عنه من حالات إنسانية ( تفكك أسري ناتج عن تباعد تعسفي ) ، وما صاحبه من هزات سيكولوجية ، ومآسي اجتماعية طالت أسرا وعائلات مغربية بالجزائر إلى ما يحدث في فلسطين ، خصوصا نكبة 67   : " كانت تستوقفه أخبار فلسطين بعد حرب سبعة وستين . " ص 59 ، في تساوق مع ما يقع بسوريا ولبنان والأردن ومصر: " فبعد استيلاء إسرائيل على الكثير من الأراضي العربية في فلسطين وسوريا ولبنان والأردن ومصر ... ؟ ص 59، في إشارة للصراع العربي الإسرائيلي الذي ما فتئت رقعته تتسع ، وشرارته تتأجج وتشتعل ، وهو انزياح يروم تنويع محورية الحدث ، وتوسيع دائرته في تكريس لمفارقة طرفاها دولتان  جارتان  ( المغرب والجزائر )ما يجمع بينهما أكثر مما يفرق ، بل تعاونا على مقاومة الاحتلال الفرنسي والتخلص من نير تسلطه وتحكمه : " فإلى وقت قريب كانت أصداء التعاون فيما بينهما ضد المستعمر ..حتى أن الناس صنعوا من مثل هذه الأخبار خرافات وأساطير ما يزال تأثيرها ساريا إلى اليوم."  ص14 .

فرواية " أسلاك شائكة " التي استمدت موضوعاتها ووقائعها من حدث تاريخي ( ترحيل المغاربة من الجزائر ) تمت صياغته في نمط إبداعي ( رواية ) يمتلك سلطة سبق أدبي غني بأبعاده الرمزية  والدلالية والفنية ينضاف إلى أعمال الكاتب السردية بالخصوص ، مثريا " ريبرطاره " الإبداعي الخاص ، والخزانة المغربية والعربية بشكل عام.

عبد النبي بزاز

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ـ رواية أسلاك شائكة لمصطفى لغتيري / مطبعة بلال ـ فاس  ( طبعة ثالثة ) 2018

 مجلة فن السرد/ قراءات ودراسات

عن الكاتب

مجلة فن السرد

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

فَـــنُّ السَّــــرْد