فَـــنُّ السَّــــرْد

منبـر أدبـي ثقافي

recent

آخر المقالات

recent
recent
جاري التحميل ...

نورالدين بنبلا I الشبيهان

مجلة فن السرد
نور الدين بنبلا

 

الشبيهان

في حي شعبي وسط المدينة العتيقة، وقف المتشرد منتصبا أمام باب مطعم بلدي، وقد عمّت داخله ضوضاء تشابكت فيها النبرات، وتناثرت خلالها حروف الكلمات. وأصدرت فيها الملاعق والسكاكين والشوكات أصوات كأصوات الأسنة والسيوف ، وهي ترتفع وترتقي. وتطايرت الصحون المتنوعة الحمولة فوق الرؤوس، تسبقها إنذارات النادلين لتلبية طلبات الزبائن .. "واحد بيصارة وكأس تاع أتاي وكثر الزيت"، "واحد لوبيا وزيد لمرقا"ّ*.. إنه ميدان معركة تلتقي فيه الجموع ! ليس في سبيل نشر معتقد، ولا لإخراج مستعمر غاشم، لكن في اتحاد شامل لضرب عدو واحد مشترك، أقسى وأشد، هو الجوع.

 المسكين تغرغرت بطنه و زغردت ، فنسجت مقطوعة موسيقية تشبه دقات طبول بداية الحرب ، لا يكاد يسمعها سواه.. راودته رغبة "جان فلجان" صاحب "فيكتور هوغو" حين نظر من زجاج نافذة المخبزة. رغيف خبز لا غير. انتابه شعور في لحظة وجود. جاحظ العينين،  رث الملبس،  حافي القدمين كأنه جندي جُرّد من هويته وتعريفه في انتظار موعد النطق بالحكم عليه، وقد سلب حقه في اختيار طريقة لوضع حد لحياة البؤس والتسكع التي انغمس فيها.

لم يصبر، وقد اشتد الحال عليه. فتقدم خطوة داخل المطعم وأمله أن يلتقط فضلة من بقايا إحدى الموائد، أو أن تجد الرحمة والشفقة سبيلا إلى قلب أحد الزبائن ويجود بما يسد به الرمق، غير أن صاحب المطعم اعتزم طرده لأنه لا يرى فيه كائنا بشريا، وإنما حثالة قذرة يمكن لها أن تلوث المحل وتؤثر على شهية زواره، فمنعه من الدخول لولا توسل أحد قدماء الزبائن وهو رجل مسن، يظهر على محياه التدين والورع، وعلى جبهته طبع "دينار الصلاة". أقعده بجانبه وهو يقول بصوت خافت:

-  تفضل، اجلس ولا تأبه لأحد.. ماذا تطلب؟

 نظر المتشرد في وجه الرجل نظرة تعجب وقال بصوت مثقل بمرارة القسوة التي تخيم على روحه:

 - تسمح لي بأن أشاركك هذه المائدة ولا تدري ما الطلب ؟ كسرة خبز وجرعة ماء.. أريد أن أعيش!

نزل جوابه على الرجل المسن كالصاعقة، فتاه بين الحسرة والدهشة وهو يدرك أن ضيفه يتمتع بعقل كامل، ووعي كامن مرتبط بنفسه المفعمة و بأحلامه الممزقة التي تتوق إلى تكسير الجدار الوهمي، الذي يفصله عن العيش كمواطن، وكإنسان مكفول الحقوق بقوة القانون التي تخول له الاندماج في المجتمع.

انكب المتشرد على الطبق المقدم له ينهم منه وقد امتلأت أشداقه بمضغات كبيرة و متتالية، تكاد تحبس أنفاسه، اتبعها برشفات من الشاي الأخضر المنعنع الساخن لتسريع المضغ والابتلاع فسبق كل الأكولين في المطعم بسرعة أظهرت خجله، وعدم ألفته لمثل هذه الفضاءات  التي تدغدغ وجدانه وتخترق وحدته الساكنة في أعماقه.. حين رفع رأسه إلى أعلى و مسح ما علق على دقنه من دسم، وجد الرجل المسن ينظر إليه مبتسما، ثم قال له:

 - أتريد المزيد؟

  لم ينطق المتسكع ببنت شفة واستعد للخروج، إلا أن الرجل شده من كتفه وأجبره على الجلوس، قائلا:

- أعلم أنك منزعج من صخب المكان ومن ألم النظرات الموجهة إليك، والتي تضيق الخناق عليك وتذكرك بمرارة واقعك المؤلم. لكن لا أخفيك سرا، أنا و أنت شبيهان، ووجهان لعملة واحدة. أنت متسكع بدون مأوى وأنا متقاعد منسي، تحلق همومه في سماء ريحها، يمزق كل ما راكمه لزمانه ومكانه..

انسحب المتشرد في صمت وهو يحك فروة رأسه ،عائدا إلى جحيم قدره يتفحص الأفق لعل باب الخلاص يفتح له..

*- عبارات بالعامية المغربية

مجلة فن السرد/ محاكاة

عن الكاتب

مجلة فن السرد

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

فَـــنُّ السَّــــرْد