فَـــنُّ السَّــــرْد

منبـر أدبـي ثقافي

recent

آخر المقالات

recent
recent
جاري التحميل ...

" أم ميمي " البيئة وتجلياتها في السرد الروائي I أحمد خضر أبو إسماعيل

 

أم ميمي


يعتبر الفضاء السردي أو البنية المكانية للسرد عنصراً هاماً في صناعة السرد الروائي ، حيث يعمل الكاتب على استحضار بيئة ملائمة للأحداث وضبط الشخوص بشكل يلائم المكان ، و ما سبق  ليس حكراً على الرواية الواقعية وحسب، بل هو جزء أصيل في قواعد الكتابة ، وعليه يسعى العمل الروائي دائماً على خلق توازن فني بين ثلاثة عناصر رئيسية متفق عليها – الزمان ، المكان ، الشخوص _ .

وعادة ما يسقط الكتّاب في فخ  الإنفصال  بين الزمان والمكان فترى حدثاً أصيلاً في بناء الحبكة إلا أنه لا يتوافق مع زمن السرد، فيجلس السارد أمام معضلة سردية بحاجة لحل إما معتمداً على استرجاعات خارجية  أو داخلية لينقذ ما يمكن إنقاذه .

أما ما فعله الروائي " بلال فضل " في سرديته " أم ميمي " _الصادرة عن دار المدى للنشر والتوزيع / 2021

 والتي اقتنصت مكاناً لها في القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية 2022م _فهو تطويع اللغة في سبيل إبراز معالم البيئة التي تدور فيها أحداث الرواية ، فالكثير  من النّقاد اعتبروا الجرأة غير المسبوقة في حوارات السرد خدش للحياء العام من خلال الألفاظ السوقية البحتة، دون مواربة أو تورية أو تشفير، فحين تقرأ تشعر وكأنك أحد قاطني شقة أم ميمي المشبوهة خلف الكازينو .

وقد نوه " فضل " لهذه النقطة من خلال عتبة نصية قبل الإنغماس في السرد بطريقة ساخرة نوعاً ما " جميع الشخصيات والأحداث والأماكن  والوقائع والألفاظ الواردة في هذه الرواية لا علاقة لها بواقعنا الذي هو _ كما تعلم _ أرقى وأطهر وأجمل من أن ترد فيه مثل هذه الشخصيات والأحداث والوقائع والألفاظ ...لذا لزم التنويه "1

لاحظنا أن نية الروائي كانت واضحة منذ البداية في بناء عمل يعتمد بقوة على استحضار الواقع ، فكان يعمل على تمكين الشخصيات من خلال لغتها وبالإضافة إلى تعدد خطوط السرد التي جعلت من النص مزيجاً من السخط والغضب ومحاولة التغيير ، حيث فهمنا من التمهيد أن الروائي لا يود أن يترك الباب موارباً بل يريد أن يسقط ورقة التوت الأخيرة إن صح التعبير وذلك بأسلوب ساخر لمسناها كثيراً في مواطن عديدة من السرد .

الفكرة المكررة وكسر النمط عند الروائي بلال فضل

في اللحظة التي تبدأ فيها بالقراءة ستدرك أن القصة المحورية التي بُني عليها السرد القصصي مكررة للغاية ، فمشهد الطالب الجامعي الباحث عن غرفة ليستقر فيها خلال دراسته في العاصمة مشهد يمكن أن تكون رأيته في السينما وطالعته في العديد من السرود الواقعية ، فتلك الشخصية المتحدية للواقع والمندفعة لصناعة المجد من أضيق الأبواب هي السمات التي عادة ما تبشر بكوكبة من الأحداث غير المتوقعة التي ستواجه البطل الإشكالي .

لماذا حكمنا على البطل بأنه إشكالي ...؟

سؤال بسيط تبادر لذهن أي قارئ ، إلا أن الروائي بلال فضل مهد لنا  بإيجاز عوالم الشخصية النفسية والاجتماعية فعليه كنا على استعداد لمتابعة الرحلة نحو شقة " أم ميمي " التي ساقت الأقدار بطل السرد إليها وفق مجموعة من المواقف المرتبة بشكل مقنع ومنظم .

ومن الجماليات السردية التي كسرت النمط اعتماد الروائي على شخصية رئيسية " دون ذكر أسمها " بقصد ابراز الضعف والتهميش الذي عايشهما البطل طوال عامه الأول في الجامعة ، وبنفس الوقت هاذا النوع من " التنكير " يمنح البطل صفة العموم ، وكأن الروائي من خلال هذه الشخصية أراد أن يقول أنها معاناة عامة ليست مقتصرة على فرد بعينه أو فئة بعينها وهنا تعتبر علامة فارقة في كسر نمط السرد الروتيني الذي يجعل من البطل محوراً بحد ذاته .

حيث لمسنا البطل جزء من فوضى إجتماعية عامة هو ليس سوى عنصر محرك للأحداث فجاء السرد على رغم تعقيداته بسيطاً أشبه بصديق يروي حكايته في سهرة شبابية ممتعة .

السارد العليم بكل شيء

" رغبتي الأكثر وضوحاً كانت مفارقة العيش في جحيم أبي بأي شكل " ٢

كما أسلفنا أن بطل الرواية هو بطل معروف من جميع النواحي ، حيث لأي قارئ أن يدرك حجم الصراع النفسي الذي يعيشه وهذا ما يجعل الرواية أكثر جذباً ، فحبن تدرك نوايا البطل الجلية ستدرك الثمن الذي سيدفعه ، فالمجازفة والمغامرة وربما المقامرة بسمعته كانت أشياء بسيطة اعتبرها البطل لنيل " استقلاله " ، وهذه الشخصية المتمردة زادت من احتمال ظهور أحداث غير متوقعة وهذا يمكن تصنيفه كعنصر مشوق نجح " فضل " بأن يصل إلى القارئ بمنتهى السلاسة ، فبناء شخصية السارد الأوحد كان ذكياً والهدف هو " سرد " القصة بكل جوانبها من جهة واحدة عايشت الأحداث وحاولت تستنتج سبب حدوثها ، وهنا نؤكد على أن " الشخصية المثقفة " كما وصلتنا على الورق كانت اختياراً موفقاً من بلال فضل ليزجها في عمق البيئة الشعبية المظلمة إن صح التعبير .

واعتبرنا أن البيئة مظلمة لعدة أسباب أهمها ، ان فضل أراد من خلال السرد التوغل أكثر في عمق المجتمع المصري واللعب على التابوهات المسكوت عنها " الجنس ، الدعارة ، تسليع المرأة واستخدامها في سبيل جمع الثروة " كل ما سبق كان يحتاج لسارد متمكن يدرك أهمية المرأة في المجتمع وبالمقابل مراهق في مرحلة النضوج حتى يستثمر افكاره وغرائزه وحتى وعيه وإدراكه في ربط خيوط القصة التي أقل ما يمكن وصفها بالمتشعبة ، وكان الطالب الجامعي هو الخيار الأمثل .

الأنا والآخر وتجلياتها في رواية " أم ميمي "

عمل " فضل " على ابراز عدة متناقضات من خلال سرده ولعل ابرزها الفوارق بين الشخصية " المتدينة المتزمتة " و الشخصية " المنحلة أخلاقياً " ، وعليه كان النص رافضاً ناقماً على كلتا الحالتين وكأن الروائي يبحث عن حلول وسطى وليس فقط وصف الواقع كما هو ، بل حاول سبر أغوار النفس البشرية ليبرهن للقارئ أن التطرف في كل أحواله حال مرضية وهناك دائما أسباب تدفع الإنسان لإظهار خلاف ما يضمر.

" لم أكن أعلم أن ذلك الشاب " الصالح " يحب التردد من حين لآخر على مطعم مجاور لسينما روكسي " ٣

فكرة الفضل حين طُرد بطل القصة من " شقة الصالحين كما كان يسميها ، هي فكرة عدم تقبل الآخر ، فالطالب الذي عشق مهرجان القاهرة السينمائي وكان يدخر مصروفه ويقتر على نفسه لحضور أفلامه ، جعلت منه إنساناً منحرفاً في نظر مجموعة من الطلبة المتدينين الذين شاركهم العيش في شقتهم ، وعن طريق أحد الشباب نفسهم اهتدى إلى شقة أم ميمي ، وعليه هذا الرسم المتقن لعوالم الشخصية النفسية جعلت من القصة أكثر تشويقاً على المستوى الأدبي وأكثر محاكاة للواقع .

فالروائي لم يبحث عن صناعة شخصية مثالية ملتزمة بل اراد شخصية مرنة قادرة على التأقلم وهذا ما لمسناه في الشخصية التي قادها القدر لتدخل شقة أم ميمي التي كانت في زمن ما سبق شقة لممارسة الرذيلة ، ودون الخوض في تفاصيل السرد أبرز فضل شخصية ام ميمي المرأة المسنة المفعمة بالحكايات والتجارب فهي شخصية ذات ماضي معقد وحاضر أضفت عليه التجربة الكثير من الحكمة ، بالتالي استطاع فضل أن يضعنا أمام حكم منطقي و واقعي بطريقة بارعة وهو عدم اتباع المظاهر فحسب فدائماً هناك أشياء مسكوت عنها وهذا في اعتقادي ما جعل من الرواية عملاً متكاملاً من حيث البناء الدرامي للقصة فلم تكن الأحكام والاستنتاجات عرفية لكل الشخوص بل على القارئ أن يتتبع خيط السرد بروية حتى يصل إلى جوهر الشخصية التي أمامه .

" أم ميمي " بين العنوان وبناء الشخصية

عادة ما يختار الروائي عنوانا غريبا للسرد ، لكن العنوان هنا هو الغرابة عينها ، حيث أن البساطة في الكثير من الأحيان تكون أكثر جذباً للقارئ وعليه يعتبر العنوان متعالية نصية وعتبة جد موفقة عند فضل ، فالقارئ ارتبط بكل تفاصيل أم ميمي من بداية السرد حتى النهاية ، ونجح الفضل في ربط أحداث القصة وعقدها بحبكة موفقة حيث كانت " كل الطرق تؤدي إلى أم ميمي " .

فكانت ام ميمي عالماً غنياً من القصص والحكايات وعثرة إشكالية في سرد القصة فكلما ظننت أن النهاية قد اقتربت يبعث الروائي بأم ميمي من جديد ليظهر جانباً آخر كان قد مهد له ، ولعل هذه الشخصية التي تحمل في طياتها الكثير من المتناقضات جعلت من السرد أكثر إمتاعاً فأنت في سرد يعتمد على عنصر المفاجأة في كل لحظة وهذا اعتبره بشكل شخصي ذكاء حاد من الروائي بلال فضل الذي حاول جاهداً أن يجعل أم ميمي عالماً سردياً متجاوزاً تقييده داخل حدود الشخصية .

لغة السرد إيجابياتها  وسلبياتها

الكثيرون اعتبروا أن ما ورد من ألفاظ خارجة عن الآداب العامة عملاً لا أخلاقياً ويتنافى مع رسالة الأدب ، وهذا حق لا يمكن لي أن أنكر كم الشتائم والكلمات النابية كان كثيراً لدرجة مبالغ فيها ، لدرجة أنني ومن خلال هذا المقال لا يمكنني استعراض جزئيات من السرد بسبب أن الألفاظ سيئة للغاية .

لكن وعلى الطرف الآخر جعلنا بلال فضل نعيش الرواية أكثر من قراءتها بصفتها عملاً أدبياً مكتوباً فالعامية بحد ذاتها تكسر حاجزاً جليدياً بين القارئ وعالم الرواية فما بالك اذا كان عالم الرواية مشبع بالشتائم في بيئة يقض الفقر والجهل مضاجعها ، هل كان فضل موفقاً ...؟

نعم في الكثير من الأحيان كانت اللغة ترسم معالم المكان وتقربنا من شخوصه وتجعلنا جزء لا يتجزأ من الحكاية لدرجة يمكن ان تجد " شقة أم ميمي " في أي مكان في العالم ليس لشيء وإنما لأن هذه النماذج البشرية المنتقاة بعناية نماذج وجب تسليط الضوء عليها لإنها جزء من صورة مجتمعنا ، فتلك الطبقات الهشة الغارقة في ظلام الصورة مهما كانت مُغيبة عن المشهد إلا وأنها جزء اصيل من الواجب الكتابة عنه وعدم تجاهله .

في الخلاصة

اعتقد أن بلال فضل ورغم الإنتقادات التي وجهت له بعد هذه الرواية إلا أنه أثبت للمشهد الثقافي العربي أن هناك أدباء يتحدون الواقع ويغامرون بنشر سرد كامل ومتكامل عن فئات إجتماعية يعتبروها الجميع خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه ، إلا ان فضل خاض غمار هذه الحرب وغاص في أعماق القاع المصري ليستخرج سرده المتميز " أم ميمي " .

المصادر :

1-   أم ميمي / دار المدى للنشر والتوزيع / ٢٠٢١- ص ٢

2-   نفس المصدر _ ص٣-٤

3-   نفس المصدر ص ١٠

 بقلم أحمد خضر أبو إسماعيل 


مجلة فن السرد/ قراءات ودراسات

عن الكاتب

مجلة فن السرد

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

فَـــنُّ السَّــــرْد