فَـــنُّ السَّــــرْد

منبـر أدبـي ثقافي

recent

آخر المقالات

recent
recent
جاري التحميل ...

من سرق مفاتيح خزائن سعادتنا؟ I ألمى حلواني

مجلة فن السرد
الكاتبة والإعلامية ألمى حلواني



من سرق مفاتيح خزائن سعادتنا؟

 

حديثٌ مضى عليه أكثر من عشرين عاماً، يُراودني يومياً وفي كل مرة أستعيده، تواجهني تفاصيل جديدة تأبى الابتعاد قبل أن أطيل التفكير فيها.

فترة الستينات وماقبلها من القرن المنصرم، قصص وصور على لسان والدي وجدتي لوالدتي /رحمهما الله/ حول حكايا المجتمع الدمشقي وأحلام وأحوال الناس آنذاك، اللافت دوماً بالنسبة لي كان الجزء المتعلق بالشغف والاستقرار والسعادة، وهو الذي لا يبرح حيّز المقارنة من دماغي، فأذكر أنني سألتهما حينها عن أحلام وأمنيات شخص عاش في تلك الحقبة ولديه مدخول شهري ثابت يؤمن له أساسيات الحياة...سكت والدي قليلاً وأطال النظر إلى الأعلى والأسفل لاستجماع ذاكرته، ثم أخبرني أنه ما إن حصل المرء على الاستقرار المادي حتى أصبحت أحلامه محصورة بالصحة والاستقرار الاجتماعي المتمثل في المشاكل ضمن العائلة أو الجوار أو العمل، فقاطعته بسؤال طفولي:

 "ألم يحلم متوسطي الحال بالكثير الذي يمتلكه الأغنياء؟" 

لتأتي إجابة جدتي ممزوجة بابتسامة : "الفروق آنذاك بين الغني والفقير كانت ضئيلة بل محدودة للغاية، فلا أجهزة كهربائية ولا تكنولوجية، كل ما قد يتباهى به الأثرياء ملابس بقماش أفخر، منازل أجمل بأثاث ذي جودة أعلى، كميات من الذهب والحليّ، طعام دسم على مدار الشهر"!!

إذن ليس هناك أطفال يحملون ألعاباً تعمل  بالبطارية وتصدر أصواتاً جميلة أو تتحرك كالرجل الآلي، لا يملك أي طفل جهاز ألعاب الكترونية في منزله مهما كان غنياً، ليس هناك تلفاز بجهاز تحكم وقنوات فضائية، مطبخ السيدات خالٍ من الثلاجة والفرن، كلما مضت فترة زمنية كنت أُعيد طرح هذا السؤال على نفسي، فأجد عشرات من الفروق الجديدة قد ظهرت، داخل المطبخ وخارجه في غرفة الأطفال وفي حديقة المنزل.. في وسيلة النقل الخاصة بالعائلة ووو. باتت الأشياء المتاحة للأغنياء تفوق العشرات، إلى أن وصلنا لزمننا الحالي فعجزتُ عن إحصائها وعجزتُ عن فهم ما يجري من تطوّر.. المفروض أنه صُنع لمزيد من الرفاهية لكنه جلب المزيد من القهر للفقير والكآبة للغني.

من هنا بدأنا بفقد السعادة من لحظة ولادة الفروق الهائلة التي أحبطت من لا يُطاولها، وأتعبت من يبحث عنها وأوصلت القادر عليها لعقدة الكمال، دراسات كثيرة أُجريت تؤكد أن معدل الرضا الذاتي في انخفاض مستمر والسبب الرئيسي حسب التقارير هو الوجه السلبي لتطوّر التكنولوجيا، والآن من فضلكم دعوني أطرح عليكم سؤالاً: ما هو عدد الأشياء غير الأساسية حولكم وما هو عدد الأشياء التي تتمنون الحصول عليها؟

قد تتفاوت الإجابات، لكن حتماً البعض ستكون لديه قائمة أمنيات طويلة للغاية.. هذا بالضبط ما يجعلنا غير سعداء، الكمّ الكبير من الاختراعات والإغراءات التي نتعرّض لها يومياً عبر أحاديث أو قراءات أو مشاهدات.. والأخيرة هي الأخطر حسب إحصائيات حديثة لمنظمة الصحة العالمية؛ أقرّت مدى تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على استقرارنا النفسي وشعورنا بالرضا والاطمئنان، فالكثير من حالات الاضطراب النفسي المؤدي إلى الانتحار ناجم عن سهولة أو صعوبة الامتلاك، فطرفي النقيض يسببان أذى نفسيا وربما جسديا بالشدة ذاتها.

 في لقاء لي مع أحد الأطباء الألمان حدّثني عن التحديات التي يواجهها جيلنا الحالي، وأبرزها التحكم وضبط النفس والتوقف عن الانغماس في العالم الافتراضي، فقد عالج منذ سنوات شابة كادت أن تنهي حياتها بسبب هوس شراء الجديد من المواقع الالكترونية و هذا الجديد لا ينتهي ولا يتوقف ودائم التدفق، الأمر الذي أفقدها صوابها حتى جعلها مكتوفة الأيدي وقليلة الحيلة تماماً كمن لا تمتلك ثمن الحليب لأطفالها!!

  لعل ذلك ما يفسر ولع جيل السبعينات والثمانينات وحتى التسعينات بكل ما هو قديم، والانضمام لصفحات ومنصات تقدّم مسلسلات أطفال وأفلام كرتونية وأغاني وإعلانات تلفزيونية قديمة، أنا عن نفسي أجد راحة بالنظر لصور الديكورات القديمة من ورق الجدران ذي النقوش الكبيرة، أو الأريكة الذهبية المزخرفة.. توق الأشخاص لتلك الأيام دفع البعض لتخصيص قنوات تعرض كل ما هو قديم فيشاهد الجمهور ما شاهده عشرات المرات سابقاً غير مبالٍ بكمّ الانتاجات الحديثة الحالية، كل هذا يقدّم لنا دليلاً إضافياً على أن التخمة التكنولوجية هي المُدانة الحقيقية في جريمة سرقة السعادة من مجتمعنا، لكن هل هناك حلّ؟ 

في إحدى حلقات مسلسل "مرايا" الساخر وجد الرجل حلاً لخلافات زوجاته الأربع المتكررة وذلك بتحريم شراء أي شيء من شأنه تخفيف أعباء العمل في المنزل وفي أول القائمة كانت "آلة فرم اللحوم" واستبدلها ب"جرن الكبّة" والسبب الذي فسّره لاحقاً أن انشغال الزوجات في العمل بواسطة ذلك الشيء القديم لن يتيح الفرصة لهن بإيجاد وقت لافتعال المشاكل!! رغم عدم اتفاقي معه لكن في الحقيقة يُقال في وسط الطب النفسي أن سهولة الحياة التي يعيشها معظمنا لا تؤثر إيحابياً على صحتنا النفسية بل تُذهب لذة التعب وتُفقدنا الشعور بمتعة لحظة النجاح، هل الحلّ أن نعود للوراء تاركين كل الاختراعات التي تختصر علينا المشقة والوقت خلف ظهورنا؟! بالطبع لا.. فالسر يكمن في محاولة إمساك العصا من المنتصف ما استطعنا، أي الموازنة وأخذ الأفضل من كل ما نراه، والأهم إخراج أنفسنا من ضغوط المثلث الهدّام بزوياه الحادّة الثلاثة "المقارنة، المثالية، المحاكاة".

 للأسف ضمن نظام حياتنا المعاصر حتى مقولة " لا تصدّق كل ما تسمع وصدّق نصف ما ترى" أضحت غير مجدية، فالأفضل ألاّ تصدّق ما تسمعه وما تراه وتجعل الحكم النهائي لعقلك.


مجلة فن السرد/ زوايا




عن الكاتب

مجلة فن السرد

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

فَـــنُّ السَّــــرْد