فَـــنُّ السَّــــرْد

منبـر أدبـي ثقافي

recent

آخر المقالات

recent
recent
جاري التحميل ...

صراع الطبقات والهويات البديلة في رواية " أيام الشمس المشرقة" لميرال الطحاوي I محمود بكري الأمين

 

مجلة فن السرد

صراع الطبقات والهويات البديلة

قراءة في رواية " أيام الشمس المشرقة" للدكتورة/ ميرال الطحاوي

مجلة فن السرد

بقلم د. محمود بكري الأمين

ناقد أدبي ـــــ مصر




في واحدة من أهم الروايات التي كُتِبَتْ في العقود الأخيرة، تطرق رواية "أبواب الشمس المشرقة" للكاتبة د.ميرال الطحاوي أبوابًا عدة، فهي تخلق عالمًا متخيلًا يعيش على هامش الحياة، تركض فيه الطبقات في صراع بدأ منذ شرع الإنسان في البحث عن وضع أفضل لحياته، ففي هذا العالم المتخيل طبقات مكانية ثلاث تعيش فيها ثلاث فئات من الناس، في الدرك في منطقة "الشمس المشرقة" تعيش الفئة التعيسة في مستنقع الحياة، يركضون حول لقمة العيش، بعد أن هربوا من بلادهم المنهكة، وتقطعت بهم السبل، إنهم يمثلون الفئة المغلوبة المستضعفة، وفي الأعلى يعيش المترفون في جنتهم الأبدية، ولا تتوغل الرواية في الحديث عنهم؛ لأنها تُعنى بالمهمشين ملح الأرض، الذين يُصنع التاريخ فوق كاهلهم، ثم يطويهم النسيان، ومن العنوان تنحاز الرواية إليهم، بينما في الوسط منطقة "سنام الجمل" أعراف هذا العالم المتخيل، حيث أناس يتطلعون إلى أعلى حيث المترفون، لم يدخلوها وهم يطمعون، ويزيحون وجههم عن أهل الشمس المشرقة، بينما يبحث الجميع عن هويته الضائعة بعد أن ألقته الأيام بعيدًا عن الوطن الأم وجرفه متن العالم إلى هامشه في تلك البقعة القاسية.


حتى في محاولة بحثهم عما يخفف من وطأة حياتهم يتواطأ المكان ضدهم، لكنهم يبحثون في القبح عن شيء مغاير، يحكي السارد عنهم: "فما زال سكان الشمس المشرقة يحتفلون بامتلاء هذه البحيرة ونضوبها باعتباره أحد طقوس التجدد وتغيُّر الفصول، ويعتقد البعض أن تلك البحيرات تلطف حر الصيف القائظ، وأن الطبيعة لم تحرمهم من بعض المناظر الطبيعية؛ فذلك الماء الراكض يشبه في النهاية بشكلٍ ما تلك البحيرات الصناعية التي تنتشر بين البيوت الجبلية فوق في الجنة الأبدية" فهم يتطلعون إلى الجنة الأبدية، ويتقوَّتون على فتات ما تمنحهم الطبيعة القاسية عليهم، ولأن حياتهم هذه ثابتة لا تتغير، وهم يبحثون بين ثناياها عن متنفس يجدون في تغير البحيرات بين الماء الراكد وجفافه نوعًا من أنواع التغيير ينعش أرواحهم المنهكة.

 

وعلى مستوى الشخصيات استطاعت الكاتبة أن تضفر عددًا من الصفات لبطلة الرواية جعلتها أقرب إلى الملامح العامة التي قد تسكن أي إنسان، رامزةً بها لكل المغتربين الذين فقدوا حيواتهم الأولى، واضطروا إلى العيش على هامش الوجود الإنساني، حتى علاقاتها بالآخرين سواء المتوترة أم السليمة فهي علاقات يغلفها اللايقين الإنساني، فالرجال الثلاثة الذين أحبتهم: زوجها، وابناها فقدتهم، فقدت جذورها الممتدة في الوطن المتروك المهروب منه، وفقدت فروعها بين ابن انتحر _ والذي بدأت به الرواية سرد الأحداث _ وابن آخر لفظها وفر هاربًا، إنها تمثل حالة الاغتراب المكتمل بالفقد والمعاناة.


وعلى الرغم من كل ما قاسته نعم الخباز إلا أنها تملك روحًا تنشد الرحمة بين حطام أيامها، فهي ترعى العجائز، بل تعلمت كيف كيف تقوم بتركيب القسطرة، وتبديل المحاليل، والعناية بقرح الفراش، واعتادت على رؤية الموت يخطف هؤلاء العجائز لكنها كانت "تخاف النهايات التراجيدية للمسنِّين الذين ينادون على أبنائهم وحين يتأكدون من انشغال الأحياء بأمور دنياهم، يقتنع العجائز بعدم جدوى تلك الاستغاثات، فيتحولون إلى مناجاة موتاهم، يتحدثون إلى تلك الكائنات البعيدة عن الأوجاع والخلاص"، وهنا ترمز بهؤلاء العجائز واستغاثاتهم بأبنائهم بكل مغترب لا يستطيع العودة لوطنه، يبكي حاضرًا لا يلين، فيجتر ماضيًا لن يعود، يستأنس به من وحشة الاغتراب بحلم العودة.


كما أن الشخصيات مثل نعم الخباز، وأحمد المتوكل وسليم النجار ونجوى كلها شخصيات تكدح في الحياة بحثَا عن هويتها الضائعة، وتطمح في الخروج من قمقم طبقتها المطحونة، وفي تقنية الاسترجاع الزمني (فلاش باك) تجتر الرواية ذكرياتِ أشخاص طحنتهم الحياة وهم يكافحون في صراع الطبقات/ فمثلًا أم نجوى ومحاولاتها المضنية للفكاك من فخ الطبقة الدنيا والانزلاق في الطبقة المتوسطة، لكنها لم تستطع الفكاك من ربقة هذه الحياة، وكذلك حديث جدة نجوى عن تاريخ أسرتها التليد ولم تحصل على حياة كريمة ولا دُفنت في مدافن أسرتها العريقة بل دفنت في قرية والد نجوى والتي طالما سخرت منها وتعالت عليها.


ولقد استخدمت الرواية مجتمع كلاب البحر كمعادل موضوعي لقسوة ما تعانيه الأسر المغترب ربها، حيث تلقح ذكور كلب البحر إناثها وترحل، وتبقى الإناث تواجه المخاض وفطام الصغار ودفعها إلى الماء في الخليج لتبدأ رحلة أخرى من المعاناة والشقاء المستمر، وتنفق الإناث الأمات على شاطئ الخليج، ويعود من الذكور ما يعود لكي تنتهي رحلته من نفس المكان الذي بدأت فيه بعد انتهاء غربتها، كما استخدمتها أيضًا حين مزجت في مشهد واحد بين صراخ جراء كلاب البحر التي بلغت وآن أوان تركها لتشق حياتها بمفردها، وصراخ الأطفال الذين تركتهم أمهاتهم على الشاطئ بعد أن رفضت السلطات قبولهم كلاجئين، فيصف السارد هذا المشهد قائلًا :"غابت "عين الحياة" في تيارات الماء تاركةً فرق الإنقاذ أمام المشهد الذي لم يتوقعه أحد، أجساد صغيرة تطفو في سُترات النجاة الصفراء مثل فقاعات بالونية يقذفها المَدُّ والجَزْر بعيدًا عن الشاطئ، يختلط صراخ الصغار بنُوَاح كلاب البحر وهي تطرد جراءها وتتعمد إلقاءها قسرًا في الماء، يستمر العويل الحزين الذي يتكرر صداه في صمتٍ لعدة دقائق، قبل أن يتم انتشال الأطفال السبعة" وهكذا فقد عادوا أدراجهم وكما تترك كلاب البحر صغارها يتكبدون مشقة الحياة في البحر بمفردهم، تركوا أطفالهم يتكبدون مشقة الحياة في البر بمفردهم، فيعيدون الكرَّة من جديد لتبدأ حكاية أخرى من حكايات أيام الشمس المشرقة.

وقد تشظى السرد في الرواية وكأنه يبني تشظيه مع تشظي الشخصيات والأحداث، يتقاطع معها، وينطلق منها، فتتكسر نهاياته فوق شاطئ البنية الفنية، كما تتكسر الأمواج تحت أقدام أهل الشمس المشرقة، وكأنه يكمل صورة التفكك التي يعيشونها.


مجلة فن السرد/ قراءات ودراسات

عن الكاتب

مجلة فن السرد

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

فَـــنُّ السَّــــرْد