فَـــنُّ السَّــــرْد

منبـر أدبـي ثقافي

recent

آخر المقالات

recent
recent
جاري التحميل ...

معاناة الدهر I آمنة الزلماطي I مشاتل

 

مجلة فن السرد


قصة قصيرة : "معاناة الدهر "                                                             


 

عندما كنت في الخامسة من عمري، كنت في كل عشية أجلس أمام النافذة المطلة على شرفة المنزل وأراقب ذلك الرجل العجوز؛ الذي كان يعود من العمل على دراجته القديمة المهترئة، التي يظهر عليها بعض الصدأ بسبب استعمالها المتواصل، وما زلت أذكر ملابسه القديمة التي كان يرتديها كل يوم، وكان دائما يعود ومعه كيس طعام لا يكفي إلا لشخص أو شخصين.

وذات يوم سألت أبي:

-لماذا هذا الرجل يرتدي ملابس قديمة ولا يغيرها؟ ولماذا لديه دراجة قديمة؟

-إنها المعاناة يا بنتي؟

-وما هي المعاناة يا أبي؟

-المعاناة يا بنتي هي قسوة الحياة.

- لم أفهم يا أبي؟ هل تقصد أنها جسم صلب؟

-لا يا بنتي؛ ليس كذلك، لن تفهمي هذا الآن، يجب أن تكبري لتفهمي.

-حسنا أبي

زاد فضولي لأعرف ما هي المعاناة؟ وما قصة ذلك الرجل المسكين؟ وفي إحدى عشيات يوم الخميس، بينما كان ذلك الرجل عائدا من عمله بنفس الحالة وتظهر عليه ملامح التعب والمشقة، ارتديت معطفي وحذائي وخرجت من المنزل مقتفية آثاره نحو سكناه، فاستدار إلي وقال: 

-مرحبا أيتها الطفلة، ما اسمك؟ وماذا تفعلين في هذا الجو الماطر؟

أجبته وأنا في توتر:

 -لا شيء سيدي، واسمي ياسمين.

رد علي قائلا: 

-اسم جميل، ادخلي يا بنتي لشرب كأس شاي معنا.

رفضت ذلك، ولكنه أصر عليّ فدخلت إلى البيت، فإذا بمنزل قديم وسقف شبه عاري، تتسرب منه بعض قطرات الماء، التي يضعون تحتها سطولا نحاسية.

وقال لي: -تفضلي يا ياسمين إلى غرفة الجلوس.

فإذا بفراش قديم وطاولة على وشك الانكسار، فرحبت بي زوجته، ثم قدمت لي خبزا يابسا وكأس شاي، مردفة: 

- اقبلي بساطتنا يا بنتي.

رددت عليها : -لا بأس، شكرا لك.

وفجأة إذا بابنته الصغيرة قادمة إليه تسأله:

 - أبي هل أحضرت لي لعبة؟ ومن هذه الفتاة الغريبة؟

رد عليها: 

- لا يا بنتي؛ لم أحضر لك شيئا.

- لماذا يا أبي؟

أجابها قائلا: 

-لأن راتبي قد نقص منه ولم يعد يكفي إلا لشراء الطعام وهذه الفتاة اسمها ياسمين. 

-وهل ستعيش معنا يا أبي؟

- لا يا بنتي، إنها ضيفتنا الآن فقط.

 وبعد مدة قصيرة إذا بثلاثة أولاد وخمس فتيات يخرجن إلى الغرفة التي كنت أجلس فيها، فوجئت مما حدث؛ لم أكن أظن أن له هذا العدد الكبير من الأبناء، فقلت في نفسي يبدو أن هذه هي المعاناة، وعندما خرجت من منزله سألته: 

-سيدي ما هي المعاناة؟

فابتسم وردَّ عليَّ قائلا: 

-المعاناة هي أن تعيش حياتك في صعوبات كثيرة، وضيق شديد ومشاكل كثيرة.

-وما هو العيش الرغيد إذا؟

- العيش الرغيد هو العيش في النعيم والخير دون مشاكل ودون معاناة.

-سيدي، من فضلك سؤال آخر.

- تفضلي يا بنتي.

-لماذا الله لا يجعل الجميع يعيش حياة رغيدة؟

-سؤال ذكي يا بنتي، أتعلمين يا ابنتي، أن هذه الحياة لعبة.

-حقا هذا؟

-أجل؛ أي أنّ هذه الحياة امتحان لا أكثر.

-امتحان، كيف ذلك؟

-سأشرح لك هذا، الله جعل هذه الأرض مأوى لنا لنعيش فيها، صحيح؟

-صحيح؛

-فهذه الحياة هي اختبار، يريد الله أن يختبر مَن مِنَّا الأشد صبرا، ومَن مِنا الخائن، ومَن مِنا المطيع، ومَن مِنا الصادق، وهكذا...

- ولكن يا سيدي نحن نصوم ونصلي ونعبد الله، وهو لا يكافئنا بشيء؟

- لا يا بنتي؛ الله يكافئ المؤمن المسلم في الدنيا والآخرة.

- لم أفهم شيئا يا سيدي.

-تمهلي، الله يعطينا الفواكه، والخضر، والماء، وكل ما يحمينا من الموت، وفي الآخرة يكافئنا بالجنة، وما أدراكِ من الجنة.

- وما هي الجنة يا سيدي؟

- الجنة يا بنتي هي بيت في السماوات العلى.

- هل هو قصر؟ وهل يوجد الكثير من السماوات؟

-ههه، ليس قصرا، ولكنه مكان كبير جدا وفسيح وأكبر بكثير من هذا الكون، وفي هذه الجنة ما لذَّ وطابَ وما تشتهيه كل نفس، وتوجد سبع سماوات.

-أحقا هذا، وكيف سنصعد إلى هناك؟

-هذا سؤال رائع؟ الله سيدخلنا إلى الجنة بطريقة لا يعلمها إلا هو سبحانه.

-ولكن يا سيدي، ما مصير أولئك الذين يعبدون الأصنام؟ ولا يصومون ولا يصلون؟

- آه يا بنتي، أولئك لهم عذاب أليم، أولئك سيدخلهم الله إلى مكان كبير مملوء بالنيران، وليست كالنار العادية، بل أشدّ منها؟

- لقد أخفتني.

-أعلم أن هذا مخيف؛ ولكن يجب أن تعرفي ذلك، لتتجنبي الأخطاء التي تؤدي إلى ذلك المصير.

-حسنا يا سيدي، كيف أتجنب هذا المصير وأدخل الجنة؟

-أنت حقا طفلة رائعة، سأجيبك عن سؤالك: يجب أن تصومي عندما تبلغين، وتصلي، وتزكي، ولا تسرقي، ولا تقولي الكلام الفاحش وغير ذلك من الأخلاق الذميمة.

- شكرا لك يا سيدي، لن أنسى ما قلته لي في هذا اليوم، سأتتبّع نصائحك كلها لأدخل الجنة إن شاء الله، إلى اللقاء.

ابتسم الرجل وقال: -إلى اللقاء يا بنتي، تسرني مساعدتك.

 وفي طريق عودتي، خطرت ببالي فكرة مساعدة ذلك الرجل المسكين، لأنه رجل طيب ومحتاج، وعندما فتحت باب منزلنا ناديت والديَّ قائلة:

 -أمي، أبي، لقد عدت.

 ركضت أمي نحوي مسرعة وقالت: -ابنتي العزيزة، هل أصابك أي مكروه؟ هل أنت بخير؟

فوجئت؛ ولم أرد بشيء حتى جاء أبي مذعورا وقال: -ياسمين، أين كنت طوال هذا الوقت؟ ثم أجبت: - أبي وأمي، لم أنتما مذعوران هكذا؟

 ردّ أبي قائلا: -لقد كنا نبحث عنك، أين كنت؟ وأضافت أمي:

 -لقد خفنا عليك كثيرا.

- حسنا؛ أمي، أبي دعانا من هذا، المهمّ أنني عدت إليكما سالمة، أبي لقد عرفت ما هي المعاناة -حقا؟

- أجل، وأنا سعيدة بهذا، ولم أعرف هذا فقط، بل عرفت ما هي الجنة، وما هي جهنّم، وعرفت أيضا معنى العيش الرغيد.

-هذا جيد، من أخبرك بكل هذا؟

-ذلك الرجل المسكين، إنه رجل طيب.

-وهل ذهبت إلى منزله؟

- نعم، فقد كان المطر يهطل بغزارة واصطحبني معه إلى منزله، أبي إن حالتهم مزرية، لديهم سقف تتسرب منه قطرات الماء، وأفرشة قديمة متمزقة، وطاولة منكسرة، ولديه تسعة أبناء يا أبي.

- حقا؟

- أجل يا أبي

- وماذا قدّموا لك؟

- قدمت لي زوجته خبزا يابسا وشاي.

- يبدو أنهم لا يملكون طعاما.

-أبي، ما رأيك أن نساعد ذلك الرجل المسكين؟

- ولكن يا بنتي...، قاطعته قائلة: -أرجوك يا أبي، من فضلك، إنه رجل طيب ومحتاج ومتعفف، لقد ساعدني، ومن واجبي مساعدته أيضا.

كنت مصرة على ذلك، فوافق أبي قائلا: -حسنا، عند حلول الصباح سنفاجئه بالهدايا الكثيرة والمال أيضا.

-شكرا لك يا أبي، انا سعيدة جدا.

 ابتسم أبي وقال: -أحبك يا بنتي

- وأنا أيضا أبي

 وفي الصباح استيقظت باكرا، وكنت متحمسة لمساعدة ذلك الرجل العجوز، توضأت لصلاة الفجر وارتديت ملابسي وحذائي، وأيقظت أبي قائلة:

 -أبي، استيقظ كفاك نوما.

 استيقظ أبي وتهيأ للذهاب، وفي طريقنا الى منزله ومعنا الكثير من الهدايا سألت أبي: -ماذا ستكون ردّة فعله يا ترى؟

- سيسعد بذلك كثيرا.

 وعندما اقتربنا إلى مكان منزله إذا بكثير من الناس يجتمعون حول منزله، فتغيرت ملامح أبي فأيقنت أن هنالك شيئا سيئا قد حدث، وكانت هنالك لافتة معلقة على باب منزله مكتوب فيها:

- "إنا لله وإنا إليه راجعون" السيد أحمد الطيب.

 تفاجأت، ولكنني لم أصدق ما حدث، وقلت في نفسي يبدو أنه حلم لا أكثر، لا يمكن أن يحدث هذا، سألت أبي والدموع تكاد تهطل: -أبي لا تقل إن ما أفكر فيه صحيح.

- صحيح يا ابنتي، لا تبكي، قال الله تعالى: "كل نفس ذائقة الموت"، انهارت الدموع من عيني، ولم أصدق ما حدث، لم أتجرأ على دخول منزله، اقترب مني أبي وقال: -ابنتي العزيزة ذلك رجل طيب وصبور والله سيكافئه بالجنة إن شاء.

 رفعت رأسي، ونظرت إلى أبي وقلت:

 -الجنة

- أجل الجنة.

-أبي، ما رأيك أن نقدم هذه الهدايا إلى زوجته وأبنائه؟

- أجل هيا بنا، ولكن قبل هذا امسحي دموعك.

مسحت دموعي، ودخلنا إلى منزله وقدمنا الهدايا والمال إلى زوجة ذلك الرجل الطيب، وأصلحنا لهم السقف وأعطيناهم بعض الأثاث الجديد، وقدمت الكثير من ألعابي لأبنائه.

 لقد فرحوا بهذا كثيرا، وضمتني زوجته بحنان، وقالت:

 -لقد كان زوجي يذكركِ كثيرا يا ابنتي الصغيرة وأعطتني رسالة مكتوب فيها:

ابنتي العزيزة أنت طفلة رائعة، أرجوك ساعدي زوجتي وأطفالي ولو بكيس طعام، أنا أحبك كثيرا، لا تحزني، فكلنا راحلون، من السيد أحمد الطيب الى ياسمين.

 عندما قرأتها أحسست وكأنني أتحدث معه مباشرة، كنت مسرورة لأنني ساعدت زوجته وأبناءه، وفي الأخير فكلنا راحلون، قال تعالى: "كل نفس ذائقة الموت".


بقلم آمنة الزلماطي/ 12 سنة/ المغرب


مجلة فن السرد / مشاتل

عن الكاتب

مجلة فن السرد

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

فَـــنُّ السَّــــرْد