فَـــنُّ السَّــــرْد

منبـر أدبـي ثقافي

recent

آخر المقالات

recent
recent
جاري التحميل ...

ذِكْرَيَاتُ سَنَوَاتِ التَّعَلُّم I محمد بنعزيز

 

محمد بنعزيز
الكاتب والسينمائي المغربي محمد بنعزيز

                         

..بهذه المناسبة سأحدثك عن سنوات تمدرسي، حين كنت طفلا عشت مع أحد عشر شقيقا، عشقت، ومازلت، الرسوم المتحركة، خاصة توم وجيري، ومع ذلك فقد تمدرست مبكرا، فقد كان أبي عونا في مدرسة، كنت أساعده في تنظيف الفصول وكنت أقضي ساعات طويلة لدى المعلمين، كان حلم أبي أن يراني معلما، كان يعتبر هذا رقيا هائلا في السلم الاجتماعي، لذا ضحيت بشعبة العلوم الرياضية.

بعد أن تمدرست رسميا، كنا عشرين تلميذا في الفصل، جيراننا لا يبعثون أطفالهم إلى المدرسة الحكومية، يبعثونهم إلى المدارس الخاصة في ترانزيت فاخرة. لا تشبه تلك التي أسافر فيها الآن.  

 درست الابتدائي في نفس المدرسة التي ولدت ولعبت كرة القدم في ساحتها، وقد أحببت هذه الرياضة منذ صغري، كان عمري عشر سنوات حيت شاهدت ديوغو أرموندو مارادونا يسجل أروع هدف في التاريخ ويرفع كأس العالم في مكسيكو. درست لدى المعلمات فقط، وكن يعاملننا نحن التلاميذ كأمهاتنا، إحداهن تخصص الحصة الأولى للتعارف، تطلب إسم الأب ومهنته، وهذا إجراء احترازي مخافة أن يكون تلميذ ابن شخصية مهمة في الفصل وتضربه... كانت تقدم لنا بعض دروس الدعم مجانا وتطلب منا تقشير الخضر، أقشر البطاطس وأسمعها تقول في الهاتف أن المعلمة التي تعمل في الفصل المجاور ترتدي معطفا تجاوزته الموضة.

 في الابتدائي لم تكن لدي أي مشكلة، لكن في الإعدادي بدأت أكتشف بعض الاختلافات، فأسرتي تسكن في منزل صغير ملحق بالمدرسة، بينما يسكن التلاميذ الآخرون في فيلات وعمارات ضخمة تحيط بالمؤسسات التعليمية. لذا كنت أغادر الإعدادية وحدي كي لا يعرف زملائي أني أسكن في بيت ملحق بالمدرسة. 

وقد بدا لي الفارق عميقا حين طلبت من ماما أن تدفع نقودا لأستفيد من الدروس الخصوصية مثل  زملائي، عانقتني ورجتني أن أعتمد على نفسي. بدأت أنجز ملخصات الدروس بنفسي قبل الحضور إلى الفصل، حين يشرح الأستاذ أتعاون معه بانسجام كامل كأننا نشرح الدرس معا، وقد كان الإعداد القبلي المنظم يمكنني من فهم الدروس بشكل عميق، فاستغنيت عن الدروس الخصوصية.

 بعد ذلك كان والدي يجمع لي كتب  مقرر السنة الموالية من هنا وهناك فور نجاحي، وكنت أقضي العطلة الصيفية أدرس المقرر وأجيب عن تمارينه، لا أخرج من السور المحيط بالمدرسة والبيت ونادرا ما أطل من فوقه لأشاهد زملائي في سيارات أسرهم. وهكذا كنت أحصل على نقط أفضل من أولاد الأغنياء الذين يستخدمون النقود للتخلص من الغباء. لم يكن أيا منهم  يتفوق علي في الرياضيات، أحيانا أحلل وأبرهن على صحة معادلة ما بالنظر دون كتابة.  أفضل أساتذتي كان أستاذ الرياضيات، دروسه منظمة تعكس شخصيته، يشرح الدرس ويختمه بفريض في خمس دقائق، بعد التصحيح يسجل على السبورة إسم التلميذ الحاصل على أعلى نقطة طيلة الأسبوع، وقد كان هذا يرد لي اعتباري وسط أبناء الضباط والتجار والأطباء... لكن أولاد الأغنياء يتفوقون علي في اللغات الأجنبية، لأنهم يكتسبونها بالمعايشة والاستخدام اليومي في أسرهم، أما أنا أتعلمها بالمراجعة فقط.... عادة يكون ترتيبي الأول في الفصل، وإن لم يكن فأنا الثاني، وحينها أتعمد الجلوس بجانب الحاصل على أكبر معدل لأعرف كيف يشتغل.

في الإعدادي كنت أدرس فقط، أما في الثانوي، فقد بدأ المستقبل يشغل تفكيري، وهذا من خلق الرجولة، كنت أجتهد لأكون الأذكى والأحسن لأفرض نفسي على الأساتذة، وأحرص أن أكون نظيفا لبقا حلو الحديث لأفرض نفسي على البنات. وقد كنت أستفيد من تفوقي،  فبفضل موقع الثانوية وسط حي راق، كان وجهاء جمعية آباء وأولياء التلاميذ يتنافسون في دعم الأنشطة، وقد كنت أحصد الجوائز، لكني كنت مرعوبا أن تقع لي مشكلة ما في الثانوية وأضطر لاصطحاب أبي فيراه زملائي معي.  

هذا عن دراستي، أما عن أساتذتي في الثانوي فقد كان الرجال قلة وسط المدينة، أتذكر منهم ثلاثة، الأول مدرس لا يحب مهنته، يبدأ الحصة بقوله "من لا يأتي إلى دروسي الخصوصية لن ينجح"، يشرح ويعطي الأمثلة من كرة القدم: يقول أن المعلم مثل المدرب، يقود فريق التلاميذ للعب ضد الأمية والجهل بهدف الانتصار. كان أستاذا يتفلسف كثيرا، يتكلم طيلة الحصة، لكن طريقة عرضه للمعلومات مشوشة لذا فإن ما يترسخ في ذاكرتي قليل.

الثاني يفصل الإناث عن الذكور، يدربنا على مسرحيات يتصارع فيها المؤمن والشيطانوس، يلقننا أناشيد منها "أهندامي شرف أمجد، أهندامي يميزني، أهندامي يرفعني نحو الناظر"، يلوم التلميذات على حلق الحواجب، يقول لهن "الفتاة المتحجبة يحترمها الناس ولا يتحرش بها أحد"، تأتي التلميذة بحجاب في محفظتها، تضعه لحظة دخول فصله وتنزعه لحظة الخروج. وكنا نردد النشيد:

"أنا مسلم صغير، أعبد الله الكبير

أنا اسمي عبد الله

نتوضى ونصلي

ما نكدب ما نسرق

ما نعصي والدليّ

باش الله يرضي عليا

خلق الله السما والجبال الهوى

والإسلام ديني

رويدكم رويدكم، لا تتبعوا شيطانكم واتبعوا رسولكم"

بعد ذلك يأمر الأستاذ التلاميذ كل جمعة بالوقوف في آخر الحصة للدعاء لشيخ الجماعة، يقول الأستاذ "اللهم أنصره على من عاداه، اللهم أرزقه الصحة والعافية، اللهم أطلق سراحه، اللهم أطل عمره"، يردد التلاميذ آمين، لم أكن أعرف لمن أدعو.

 الثالث كان عظيما، كان يدرس الرياضيات أحب المواد إلى نفسي، كان يرسم  الأشكال الهندسية بجسمه وأطرافه في الهواء، تتمم حركاته توضيح أفكاره، لذا لا أحول عيني عنه، تعلمت منه طريقة بناء البرهنة السليمة، تولد طريقته في الشرح رغبة في الاستزادة. في تصحيحه للتمارين، حتى لو كانت النتيجة خاطئة فهو يمنح نصف النقطة إن كانت مراحل البرهنة متماسكة. أستاذ آخر كان يركز على النتيجة فقط، يمنح النقطة كاملة حتى إن لم تكن طريقة التوصل إلى الجواب سليمة وواضحة، وهذا في صالح الغشاشين.

كان كل مدرسي الرياضيات رجال، لكن أغلبية أساتذتي نساء، كن يخصصن كل الوقت للدروس ولا يتحدثن قط عن السياسة لذا ظل اهتمامي بالسياسة ضعيفا.

 

مقطع من نص سردي بعنوان "حروف الصحراء رسائل بحجم الجرح" يمتد على 466 صفحة، صدر للكاتب والسينمائي المغربي محمد بعزيز عن الدار المغربية العربية بالرباط 2020.

 

مجلة فن السرد/ محاكاة

عن الكاتب

مجلة فن السرد

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

فَـــنُّ السَّــــرْد