فَـــنُّ السَّــــرْد

منبـر أدبـي ثقافي

recent

آخر المقالات

recent
recent
جاري التحميل ...

الناي I مصطفى ملح

مجلة فن السرد

النّــــاي


      جرّني ”بوشعيب“ الرّاعي من ردائي ومضى بي إلى الحقل. هل كنتُ ابن تسع سنوات أم عشر؟ لا أذكر بالتّحديد. كلّ ما في الأمر أنّني بدأت أنسج علاقات رائعة مع من حولي. السّلوقيّ الذي جلبه جدّي من عند أصحابه بالدّوّار المجاور. الفراشات الملوّنة. الخطاطيف التي تشبه طائرات حربيّة صامتة. هل كنت أخافها؟ سنوات وأنا أعتقد أنّها تخطف شعر الصّغار، وإلاّ فما الدّافع إلى تسميتها بالخطاطيف؟ كانت تقترب من رأسي صانعة حركات هندسيّة بديعة على شكل أنصاف دوائر ثمّ تتجاوزني دون أن تخطف شعري. وعندما كبرت اكتشفت أنّها بريئة، وأنّ الخاطفين كثر لا يسع المجال لذكرهم.

”بوشعيب“ راعي جدّي. تجاوز العشرين. طويل. يميل إلى السّمرة. لم يدخل المدرسة قطّ. لكنّه ”فنّان”. هكذا أخبرني. وعندما استغربت قال: سترى. أنا فنّان. نزع ساق الدّرة الصّلبة وأجلسني بجانبه. نزع بعض الأوراق اللاّصقة بالسّاق وبعض الأشياء التي تشبه لحاء أو غطاء عشبيّا. ونفخ في الأماكن التي يعالجها بأصابعه الغليظة. ثمّ نزع من جلبابه القطنيّ سكّينا متوسّط الحجم وهبّ ينجر ساق القصب بحرفيّة وتركيز كبيرين، إلى أن حصل على قصبة طويلة منجورة الحواشي، ولأنّ طولها يقارب المتر فقد قصّ جزأيها الأيمن والأيسر تاركا الوسط وهو بطول ثلاثين سنتمترا تقريبا. في هذه المرحلة ازداد تركيز الرّاعي فعلمت أنّه مقبل على الخطوة الأعظم. بدأ يقيس، معتمدا الإبهام والسّبّابة، بين مسافات متقاربة ويضغط على السّكّين ليحفر في المكان المناسب ساعيا إلى جعل المسافات بنفس الحجم. وينفخ في مكان الحفر نفخا قويا لكيلا يترك أيّ أجسام عشبيّة دقيقة مختبئة بيت الثّقوب التي حفرها، ثمّ يعود من جديد ليوسّع قليلا الثّقب التي كانت سبعة. لماذا سبعة؟ العدد سبعة فيه الخير والبركة. أنت راعٍ لم تدخل المدرسة يوما، حتّى الكتّاب، طُردتَ منه يوم عضضتَ زميلا لك في أذنه حتّى كدتَ أن تقلعها، هكذا أخبرتني يا ”بوشعيب“، فكيف تعرف هذا العلم الغزير حول العدد سبعة؟!..

 التفتَ يمنة ويسرة كأنّما يخشى أن يتلصّص كائن على كنوزه المعرفيّة، وقال. جدّك الفقيه هو من أخبرني، وعندما كشف لي علمه ضربني بالعصا وأمرني أن أقوم إلى الخرفان وأترك العلم لأهله. وماذا قال. سأخبرك. قال كلّ سبعة هي بركة. السّموات سبع. الأراضي سبع. أيّام الأسبوع سبعة. في مرّاكش يُدفن سبعة رجال وهم أولياء الله. وهذه القصبة لن تكتمل ولن تنزل فيها البركة إلاّ بسبعة ثقوب!. اقتنعتُ بكلامه وتركته يصنع ”الفنّ“!

أخيرا حمل القصبة، حرّكها، لثمها كما لو كانت عضوا من العائلة. وبدأ ينفخ في فوهتها الصّغيرة فتنبعث الأنغام الحزينة. كنتُ منبهرا جدّا. ”بوشعيب“ الرّاعي صنع نايا. القصبة يسهل ثقبها وقصّ جانبيها، ولكن من أين تأتي الألحان الشجيّة؟ من الثّقب أم الفوهة أم أنفاس النّافخ أم من هذه العناصر مجتمعة؟

في السّنة التّالية، كان القطيع عائدا إلى الزّريبة. صوت النّاي يلوّن المساء بأنغام حزينة. الرّاعي يهشّ تارة ويغرس أنفاسه العميقة الكئيبة في فوهة القصبة التي كانت خاضعة مستسلمة لأنامل ”بوشعيب“.

في التقاء آخر فلول النّهار بالعتمة المحمولة على كتف المساء، حدث الهجوم العنيف. الكلاب. من أين جاءت؟ أ كانت أليفة أم كلاب الغابة؟ أم كلاب اللّيل التي تأتي من اللّامكان؟

انتبه الرّاعي إلى الجلبة التي أحدثتها الكلاب المسعورة، اتّكأ وحمل حصاة. حصوتين. حصوات. حجرا. حجرين. حجارة. واشتبك، وسط آخر النّهار وأوّل اللّيل الكائنان الآدميّ والكلبيّ. الواحد يعضّ الآخر، يراوغ، ينشب الأظفار، يجذب، يبتعد، يدنو، يعضّ من جديد، تسقط الحصوات والحجارة والنّاي والألحان الحزينة والذّكريات. كلّ شيء سقط فوق أرض المساء التي كانت مبلّلة بالظّلمة والفجيعة. سقط الرّاعي مدمى، يئنّ وحيدا، النّاس سمعوا بالخبر، الرّاعي يئنّ، عيناه على القصبة، النّاس يتكاثرون، الكلاب غادرت، الدّم يبلّل التّراب. هل كان دم ”بوشعيب“ أسود، أم أنّ اللّيل هو الذي غيّر الحمرة إلى سواد؟ والنّاس يقولون. حرام. الكلاب. والرّاعي تضيق عيناه ولا يرى إلاّ ثقوبا ضيّقة. هل كانت سبعة؟ وحاول أن يمنع عينه اليمنى من الانغلاق ليبقى عدد الثّقوب سبعة جلبا للبركة. والنّاس يسعون إلى حمله. وقال أحدهم. إنّه يلفظ أنفاسه. والكلاب ابتعدت ولم يعد لها أثر. وانطفأت الحياة في عيني الرّاعي. وحمل المزارعون الجثّة. وكنت الوحيد الذي يدرك أنّهم لا يحملون الرّاعي فحسب.. وإنّما يحملون الفنّان!

دفن ”بوشعيب“. لم يبكِ عليه أحد. لم يكن سوى غصن مقطوع من شجرة. ورغم كلّ شيء حزن جدّي كثيرا، فأقام حفلة عزاء تليق بحجم الحزن الجارح، وقُرئ القرآن، ورُفع الدّعاء، ومُسحت الموائد، وتفرّق الجميع إلى حال سبيلهم.

مرّ يومان، لا أحد يذكر الرّاعي. جدّي يفكّر في استجلاب راعٍ جديد. وانخرط النّاس في أشغالهم غير مبالين بما حدث، كأنّ الرّاحل لم يكن إلاّ آلة وظيفتها إخراج الشّياه صباحا وإرجاعها مساء إلى الحظيرة، وحين صدئت تلك الآلة كان منطقيّا التّفكيرُ في استبدالها بآلة جديدة ما زالت في ريعان شبابها.

في اليوم الثّالث ذهبتُ إلى المكان الذي مات فيه الرّاعي. لم أجد صعوبة في العثور على القصبة ذات الثّقوب السّبعة. حملتها، حملتُ النّاي.. 


مجلة فن السرد/ محاكاة

عن الكاتب

مجلة فن السرد

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

فَـــنُّ السَّــــرْد