القاص نصر الدين شردال |
زٍيارَةٌ فِي يومٍ مَاطِرِ
جاءتِ المرأةُ القرويّةُ من
الرّيفِ البعيدِ في صَبيحةِ يَومٍ مَاطرٍ وعَاصفٍ، وصلتْ إلى بابِ الثّانويّةِ،
وظلّت واقفةً في بابها إلى أن أدخلها الحَارسُ، ثمَّ أَوْصَلَهَا إلى الإدارةِ بعدَ
أن قطعا ممرّاً صغيراً على جانبيه شجيرات وأحواض زهور مختلفة الألوان.
أشار الحارس إلى باب المدير، وأمرها أن تنتظر
قليلا.
رأيتُ قبّعتها المصنوعة من القشّ والدّوم،
وحذاءها البلاستيكيّ الّذي لا يزالُ محتفظاً ببقايا روث الأبقار وَوَحْلِ الحُقولِ
الّتي قطعتها في سيرها الطّويل قبل وصولها إلى محطّةِ الحافلة، وبعد ساعتين ونصف
قذفت بها إلى زحامِ وضجيجِ المدينةِ.
لم أتحسّس يدها، لكنّي أعرف أنّها صلبة ومتشقّقة بتراب البلد.
لم أشم
رائحتها، لكنّي تذكرت رائحة النّعناع البريّ واللّبن والتّوابل والّزعتر
الجبليّ...
نادى عليها المدير، وعلى الأرض وضعت حقيبتها
الّتي لم تكن إلاّ كيساً كبيراً يحوي بعضَ الأكلِ ولباساً شتويّاً !.
دخلت إلى المكتبِ، وتناهى إلى مَسْمَعِي:
ــ"أليس لكِ هاتفٌ تتصلينَ بهِ؟".
ــ"لا، يا سيّدي... خفت عليه من
البرد... لم أره منذ شهر".
خرج المدير، ونادى على مُسَاعِدِهِ الإداريّ،
تبادلاَ كلاماً خفيفاً، ثمّ رجع حيثُ تركها حاسرةَ الرّأسِ في خجلٍ قرويٍّ صَبُوحٍ.
بعد لحظةٍ، عاد المساعدُ الإداريُّ بابنها
الّذي كانَ منغمساً بحماسٍ كبيرٍ في حصّة أستاذِ مادةِ الرّياضياتِ، وقد بدا
خائفاً متوتراً من دعوته إلى الإدارة، فهو مجتهدٌ وخلوقٌ ولا يفتعلُ المشاكلَ
والمخالفات.
وصل للباب، ولمّا رأى أمّه قفز فرحا، قبّل
يدها... فأخرجت مِعطفاً شتوياً من الحقيبةِ، وألبسته إياهُ، ثمّ حضنته بقوّةٍ
وحنانٍ، قائلةً:
ــ"آه على ولدي الحبيب يموتُ من الجوعِ
والبردِ في بلادِ النّاسِ".
عاد المساعد الإداريُّ إلى عمله، والمدير إلى
مكتبه، بعد أن قال:
ــ"اللهم اغفر لنا من تعب الوالدين".
ومشى تلميذنا العزيز والمجتهد، رفقة أمّه في
الممرّ المعشوشب على الجانبين، مرفوع الرّأس، فَرِحاً وطَرِباً، ولمّا وصلا، فتح
لهما الحارس الباب.
كنتُ أتابع المشهد من خلف زجاج قاعة
الأساتذة، واندلقتْ من عينيّ دمعتين. لست أدري أهُمَا دَمْعَتَا فَرَحٍ وَفَخْرٍ،
أمْ دمعتاَ حُزنٍ وأسى؟
وغابت عنّي الرّؤية بين ضباب العين وضباب
الزّجاج...
مرّة، قبل عشرين عاماً، في صَباحٍ مَاطِرٍ وَعَاصِفٍ مثل هذا الصّباح، زارتني أمّي في ثانوية من ثانويات هذه المدينة الباردة القلب، وحَمَلَتْ لي الحبَّ والدّفءَ والغذاء!!!
مجلة فن السرد | محاكاة
إرسال تعليق
اترك تعليقك هنا
الرجاء تغيير موقع التعليقات في الإعدادات إلى مضمن