فَـــنُّ السَّــــرْد

منبـر أدبـي ثقافي

recent

آخر المقالات

recent
recent
جاري التحميل ...

استدعاء | عبد القادر وساط

عبد  القادر وساط
القاص عبد القادر وساط 


 استدعاء


جلس أحمد السحماني في زاوية الغرفة، بعيدا عن أشعة الشمس، التي تعكسها النافذة، وجلسَت زوجته بالقرب منه، تخالسه النظر، بينما طفلهما الرضيع ياسر يحبو ويتحرك بنشاطه المعتاد، وقد التمَعَت نظراته بذلك البريق الغريب الذي يثير في أبويه مزيجا من الحيرة والارتباك والخوف. 

 المرأة تحيط رأسها بشال أسود. جميلة حقا، وفي ملامحها شيء من غضارة الشباب الذاهب، لكنها حزينة القسمات. تتحسر وتكاد تخنقها الدموع، وهي تنظر بأسى إلى صغيرها ياسر، الغريب الأطوار، الذي يحبو ويتشقلب ويطلق بين حين وآخر صيحات حادة، مثيرة للخوف. كأنّ صوته حين يصرخ ليس من هذا العالم. وها قد مضت سنوات كثيرة حقا، وهو يتحرك خارج الزمن، متحصناً داخل طفولته الأولى، بعناد غريب.

 تُتابع المرأة حركات الطفل وتسمع صياحه. تقول لنفسها: هو يؤنس وحشتنا مَهْما كان، خصوصا بعد انتقال شقيقه كمال للإقامة عند خالته بالدار البيضاء. تستحضر الأم صورة ابنها كمال، الذي كبر وغادر البيت، ثم تنظر إلى الرضيع ياسر، تتنهد وتقول في نفسها: سبحان الله، مَنْ يُصدق أن هذا أكبرُ من ذاك؟

 كان الزوج يستحث زوجته كي تحكي له حكاية رجال الدرك الذين جاؤوا يسألون عن ياسر، في صباح ذلك اليوم.

 نعم، كانوا ثلاثة رجال بلباس الدرك. طرقوا الباب طرقا عنيفا متواصلا.  وهي قامت في الحين وفتحَت الباب مذعورة، والرضيع ياسر بين ذراعيها. سألها الدركيون عن زوجها فأخبرتهم أنه في العمل، ثم سألوا عن المسمى ياسر السحماني. قالت: هو ابني، خير إن شاء الله؟ قال الدركي البدين القصير القامة، بلهجة صارمة:

-هو مطلوب للخدمة العسكرية!

ضحكت المرأة وبكت في الوقت نفسه، بينما الرضيع في حضن أمه ينظر إلى رجال الدرك الثلاثة ويرفع حاجبيه، كأنه يسخر في أعماقه من هؤلاء الحمقى الثلاثة، الذين جاؤوا يطلبونه للتجنيد. والأم لم تجرؤ على قول الحقيقة، لأنهم لن يصدقوها بطبيعة الحال. قالت بكل بساطة إن ياسر غير موجود الآن في البيت، والدركي البدين ناولها ورقة الاستدعاء للجندية وقال بلهجة صارمة:

-عليه أن يتقدم في أقرب وقت ممكن لمركز الدرك.

على شاشة التلفزيون، كان هناك نسر قوي يحلق بأجنحته المهيبة في السماء العالية. تابع الزوج مشهدَ الطيران بعض الوقت، ثم أخذ ينظر إلى الصورة الكبيرة المثبتة على الجدار، بالأبيض والأسود. صورة زفافهما، قبل خمسة وعشرين عاما. كانا في ريعان الشباب. قال في نفسه: حقا، إن الزمن هو أكبر عدو للإنسان، قال إن ابنه ياسر ربما كان على حق وهو يتحدى الزمن بطريقته الخاصة. في أقصى الغرفة، كان هناك صندوق خشبي أحمر، يحتوي على التحاليل الطبية والوصفات التي كتبها المختصون للطفل، دون جدوى. عشرات الأطباء بلا فائدة، دون ذكر الفقهاء والأولياء والعرافين. قال الأب إنه سيحمل تلك الوثائق غدا إلى مركز الدرك ويشرح لهم حقيقة الأمر. قد يصدقونه وقد لا يصدقونه. وقد يأخذونه هو للتجنيد مكان ابنه، رغم أنه تجاوز السن القانونية. ذلك شأنهم. أما هو فلم يعد يراهن على شيء، لأنه يعلم حق العلم أن الرهانات كلها خاسرة، في نهاية المطاف.


مجلة فن السرد/ محاكاة

عن الكاتب

مجلة فن السرد

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

فَـــنُّ السَّــــرْد