فَـــنُّ السَّــــرْد

منبـر أدبـي ثقافي

recent

آخر المقالات

recent
recent
جاري التحميل ...

القصة الفائزة بالمرتبة الرابعة | بائعة السم | المبدعة جنى جهاد الحنفي من لبنان

مجلة فن السرد

 

المرتبة الرابعة في مسابقة مجلة فن السرد (الدورة8)  قصة: بائعة السم، للقاصة المبدعة جنى جهاد الحنفي من لبنان


بائعة السم


كانَتْ تحبّ صوت الأرض حين ترتعد من ثقل خطواتها. ولم تزعجها ظلالها يوماً، رغم حقد القناديل الخافتة عليها. ما أقسى الضوء حين يتآمر مع العتم على ملامحنا ليبرزها بأشنع صورة. 

مشَتْ مترنّحةً كأن جبال الأرض تتربع على صدرها. ولا صوت في المكان إلا أنفاسها التي تفجّر الأنين في صدرها من فرط حرّها. 

رأت الفأر القديم ذاته، يخربش على الأرض المتغبرة بأظافره. فضربته برجلها ذات الإصبع المقطوع. ثم وصلت لمكتبها بعد سبع دقائق من المشي الثقيل. 

لم يكن القبو يتّسع عن القبر إلا قليلاً. ولكنها كانت تشقّ الطريق فيه كأنها تخوض قارّاتٍ من العذاب. 

فتحت دفترها فتصاعد الغبار منه كأنّ الصحراء نفخت من روحها في صفحاته. 

التاريخ: الثالث عشر من كانون الأول. 

لفّت يديها حول جسدها تلقائيًّا حين تذكرت البرد الذي انقضّ على جسدها في ذلك اليوم، مانعاً إياها من العمل لمدّة أسبوعين. ثم أكملت القراءة بعينيها المفخّختين بالقلق: قتل زوج، قتل زوج، قتل حماة، عاهة لوجه، وإجهاض طفل. 

بدأت الذكرى تعاود احتلال جزئيات عقلها تدريجيًّا. ولم ترحم صداعها النصفي المزمن. وخيّمت رائحة الماضي في أرجاء القبو الذي لا تفوح منه إلا رائحة الأعشاب الحادة... والجريمة. 

رويداً رويداً بدأت الجبال تتنحّى عن كتفيها لتقيم على صدرها: في الخامسة عشر من ذات الشهر اللعين، دفعت سميّة الباب. وارتجفت لصرختها الرفوف الصدئة: أنتِ من قتل ابني! 

ولكن أليست هي من طلبت حلًّا لتخفيَ ابنها الذي أتى من الحرام؟! هل عليّ أن أحتمل نتيجة تسرّعها؟ 

فلتندم لوحدها. 

شدّت شعرها الأشعث كأنها تريد أن تقتلع هذا اليوم من ذاكرتها. ولكنّ زجاجة السّمّ الأسود الحرّاق على رفّ الخطر -كما كانت تعرّفه للزبائن- كانت لها بالمرصاد. 

-أليست أنتِ من نصحتِها بالإجهاض؟ 

صرخ لها ضميرها. وتفاجأت أنّها ما زال تملك ضميراً أصلا. ثمّ ذكرها: 

-لم تكتفي بقتل ابنها. ولكنّكِ قتلتِ الأمّ أيضاً. 

أنسيتِ أم تناسيت؟ 

وهنا، لم تعد تجد مجالاً للهرب. 

شدّت بقبضتيها على الطاولة الخشبيّة المنحشرة في الزاوية، فشعرت بثوب سميّة التي شدّتها من أطرافه بكفوفٍ حاقدة. 

بلعَتْ ريقها الجافّ، فامتعض فمها من مذاق السّمّ الذي جعل صوت سميّة مبحوحاً حين دسّته لها في فنجان القهوة. 

صرخت أخيراً لعلّها تضع حدًّا لأفكارها. لكنّها لم تسمع إلا أنّات سميّة وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة لتذهب إلى جنينها. واكتشفت ذات السّموم أنّ عذاب السبّع سنوات -بعد جريمة سميّة- ما زالت متكوّمة في زوايا القبو كعشّ طير عنيد. 

سبع سنوات وهي تتظاهر بالبراءة:

-لن يموت إلا من يستحقّ الموت. لا دخلَ لي، فالسم لا يتحلل في أجساد الطّيبين. 

وبعد تفكير طويل، قررت أن تنتصر على هذا التفكير. 

لم يكن أمامها حلًّا إلا الانتقام من الأرق، من سميّة، من القبو ومن الطفل الذي حملت ذنبه دون أن تراه. 

لا ضمير بعد اليوم ولا متجر للسّمّ. 

هي رشفةٌ أولى وثانية وثالثة وأتت اللحظة الموعودة. 

سقطت الزجاجة وسال الزبد. 

ووجد الفأر أخيراً حرّيته نحو قدميها دون أن تمنعه.


مجلة فن السرد 

عن الكاتب

مجلة فن السرد

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

فَـــنُّ السَّــــرْد