الراقصة العمياء | عبد المولى دليل

الكاتب: مجلة فن السردتاريخ النشر: آخر تحديث: وقت القراءة:
للقراءة
عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق
نبذة عن المقال: الراقصة العمياء قصة قصيرة عبد المولى دليل الراقصة الملهى أم كلثوم

الراقصة العمياء عبد المولى دليل


 قصة قصيرة : الراقصة العمياء

عبدالمولى دليل


لم تر من الحياة إلا الظلام، و لم تسمع من الحياة إلا أصواتا منها ما كان منفرا و محبطا، و منها ما كان يسعدها و يدخل السرور على قلبها، كصوت الموسيقى التي أشعرتها بوجودها و كيانها عندما تكون منهكمة في رقص روحي، على نغمات مذياعها القديم الذي كان يصاب بين الفينة و الاخرى بالخرس، و الصمت الطويل، إذا تعطلت بطاريته، و لشرائها كانت العائلة الصغيرة تنتظر عدة أيام لتتدبر النقود لاقتنائها، فتبقى عيشة حزينة منطوية على نفسها قابعة في مكانها لا تتحرك حتى يعود للمذياع صوته ،فتعود عيشة لحيويتها و نشاطها.

 تحكي والدتها للجيران: الرقص خُلق مع عيشة، تعلمته بفطرتها، و هي طفلة صغيرة ترقص على جميع أنواع الموسيقى شعبي، شرقي، خليجي، هندي ....حتى الصمت كانت ترقص على دبدباته. بالرقص كانت عيشة تعبر عن فرحها، وحزنها، وبؤسها، وشوقها، وحبها .

سكان حيّها القصديري يدعونها بعيشة الشطاحة تارة، و تارة أخرى بعيشة العمياء . كانت ترقص في أفراحهم الحزينة مقابل شيء من الأكل، تتقاسمه ووالدتها عندما تعود الى بيتهما الغارق في البؤس و الفقر . كانت ترقص بجميع أعضاء جسدها؛  رأسها جيدها صدرها خصرها أكتافها ....كان كل عضو فيها يتحول الى نوتة موسيقية. رقصها فريد من نوعه يشد النظر و يأسر البصر. ترقص بطاقة أخرى غير طاقتها، و كأن جنيا يتلبسها، تجسد مشاهدا كثيرة بجسمها الذي كان يتلوى و يتمدد مع كل إيقاع و نغمة.

رقص عيشة لا يمل منه المتفرج، و لا يأنف. رقص من صنعها و إبداعها،  لا يمكن العثور عليه حتى عند محترفات الرقص بشارع محمد علي بمصر، و لا حتى عند شيخة قديمة أو جديدة أدمنت الرقص طوال حياتها. كانت تحمل صورتان و هي ترقص: صورة الحزن المتجلي في وجهها، و صورة الفرح حين يتحرك جسدها بالرقص . كانت عيشة العمياء هي المعيل الوحيد لوالدتها التي أقعدها المرض عن العمل كخادمة بيوت، و محلبات، و محلات الأكل .... .

أمينة هي صديقتها الوحيدة التي تثق بها عيشة، لهذا حرصت على أن تودعها جميع أحلامها و أسرارها و أمنياتها .كانت تسألها كلما انتهت من الرقص بعقيقة، أو ختان، أو زفاف عن رد فعل الجمهور، و عن أدائها هل كان في المستوى المطلوب؟ فكانت ترد عليها أمينة : جمهور هذا الحي البئيس لا يعبأ بالرقص و لو رقصت أمامهم سامية و تحية و فيفي، مشغولون فقط بالأكل إذا تأخر، و بالأكل اذا حضر، لأن بطنهم جيعان و المثل كيقول: ملي كتشبع الكرش كتقول للراس غني . كانت عيشة تقول لصديقتها :أمنيتي أن ارقص بعيدا عن هذا الحي الصفيحي، أرقص بمسرح بملهى بفندق أرقص بمكان يكون فيه جمهور يقدر فني، أتعلمين يا أمينة أنني حينما أرقص بجسدي أشعر انني على وشك ان أبصر! 

اتفقت هي و صديقتها أن يذهبا في الصباح، و عبر الحافلة المهترئة الى كورنيش عين الذئاب الذي يحفل بعدد كبير من الملاهي الليلية، و أن تعرض نفسها على أصحاب الملاهي، علّ أحدا يقبل أن ترقص بملهاه.

كان رد فعل صاحب أول ملهى ولجاه الطرد، مصحوبا بكلام مؤلم، إذ كان يقول و هما يغادران الملهى: عمياء تريد أن ترقص هذا هو الجنون بعينه شطحوا حتى الي بعنيهم .

توال طردهم من كل الملاهي التي طرقوا أبوابها، و لم يبق أمامهم إلا واحد، كانت بنايته الخلفية تطل على البحر، و الأمامية تحاذي ممشى ملبط بالأجور الأحمر، وقريب من طريق السيارات، كان اسم الملهى: رنين الكؤوس.

دخلتاه و هما وجلتان، سألتا بصوت واهن و حزين عن مكتب مسير الملهى، فأرشدهما عامل من عماله على أنه يقع بالطابق الأول. قرعتا الباب، فسمعتا: تفضل..بصوت دافئ و غير مزعج، كانتا تمشيان بخطى متعثرة، وكانت عيشة تقول في نفسها: هذه آخر فرصة، إذا لم يستجب لنا صاحب الملهى و طردنا سأعود لحيي الصفيحي، و أواصل الرقص بحفلات عائلاته المنكوبة.

كان هذا الشخص مهذبا و لبقا، إذ أمرهما أن تجلسا إلى الكراسي الفارغة التي كانت أمامه، ثم قال: ماذا تريدان؟قالت عيشة بصوت متهدج و حزين: أن تعطني فرصة الرقص بملهاك الليلي يا سيدي .قال مندهشا: أنت أم صاحبتك هاته؟ قالت: لا، أنا يا سيدي.

قال: لكنك على ما أظن معاقة إعاقة لا تسمح لك بالرقص. ردت: أريد فقط أن تمنحني فرصة لأحقق حلمي. صمت قليلا ثم قال: سأعطيك فرصة واحدة إذا اقنعتني برقصك سأقدمك لجمهور الملهى،  وأحقق لك حلمك، لكن قبل ذلك، ماهي الموسيقى التي تحبذينها للرقص؟ قالت: من المغرب أم من الشرق؟

 من المغرب، أجاب، فقالت: من العصري أم من الشعبي؟قال من العصري. قالت :موسيقى عبدالسلام عامر. قال: لماذا؟ عبد السلام عامر؟ بررت: لأن الموسيقى التي أبدعها كانت قادمة من الظلام. قال: و من الشعبي. قالت: فاطمة الزحافة. استفسر: لماذا فاطمة الزحافة؟ أجابت: لأن الناس يعتقدون أنها كانت تغني، ولكنها كانت في الحقيقة تبكي بصوت فيه نواح على الحالة التي كانت عليها. قال :و من الشرق؟ قالت: الفن كله اجتمع في غناء أم كلثوم. قال: من أين جئت بهذه الثقافة الفنية؟ قالت: من المذياع يا سيدي، منذ وعيت، وأنا أستمع إليه، أعرف جميع محطاته، وبرامجه و مذيعيه، أعرف مشبال و امينة السوسي و رشيد الصباحي و عمورة.......قال: تعالي معي الى خشبة الملهى حتى اطلعك على حدودها التي لا يجب ان تخرجي عليها...

وقفت عيشة بعدما عرفت مكان رقصها بالخشبة، تنتظر انطلاق الموسيقى لتشرع في الرقص علها تقنع مسير الملهى.   

قال لها مسير الملهى سأختبرك بأغنيتين: الأولى شعبية اشحال تسنيتك ما جيتي و ملي غبت عاد بكيتي . أغنية غنتها فرقة نجوم بوركون في الثمانينيات من القرن الماضي. قالت عيشة: أعرفها يا سيدي. و أغنية شرقية لأم كلثوم: حكم علينا الهوى .قالت عيشة في نفسها: حكم علينا العمى.

صفق لها مسير الملهى تصفيقا حارا و هو يقول: رائع و مدهش، ثلاثين سنة و أنا في هذا الملهى، رأيت العديد من الراقصات من المغرب، و من الشرق يرقصن، لكن لم أر في حياتي راقصة ترقص مثلك. كانت عيشة صامتة والدموع تتدحرج على خدي وجهها المكدود و النحيف.


مجلة فن السرد/ محاكاة

التصنيفات

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك تعليقك هنا

ليست هناك تعليقات
2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث