زيارة، بقلم المبدع عبد القادر وساط
تمر الساعات ولا ينجلي عنه الكدر.
يغادر السرير إلى مكانه المعتاد، قرب النافذة، ويجلس جلسته المألوفة، رغم الهم والمرض ووطأة السنين.
يتطلع إلى زوجته بعينين كليلتين. رائحة البخور تملأ المكان. الزوجة تُقرب منه المائدة الصغيرة، عليها كؤوس الشاي وأرغفة الملوي، وهو لا رغبة له في شيء.
بين فينة وأخرى ترفع نحوه عينيها. في كل نظرة علامة استفهام. من النافذة القريبة، يرى نزيف الشفق في السماء، وعما قريب يزحف الظلام على القرية ويخفيها، فلا تعود تظهر منها سوى أضواء قليلة خافتة، منبعثة من القناديل الزيتية، المثبتة خلف نوافذ البيوت. يتذكر عندئذ أمه الراحلة وهي تحدثه أيامَ طفولته عن المخاطر الكامنة في جوف الظلام.
يتخيل الخلاء المديد، أمام البيت. ذلك مرتع طفولته وصباه. الأحلام التي لا تنتهي، والمخاوف التي لا تزول. ذكريات المعارك والهزائم. يقول لنفسه: هنا في هذا البيت ولدتُ قبل سبعين سنة، وهنا سأموت في يوم قريب. لقد زارتني
"القديمة"
ليلة البارحة وأشارت إلي بيدها اليمنى كي ألحق بها، فلم يبق عليّ سوى أن أستعد للرحيل.
ينظر إلى زوجته ويهم أن يحكي لها عما حدث له البارحة مع
"القديمة".
ذلك هو الاسم الذي يطلقه على امرأته الأولى، التي رحلت عن هذه الدنيا قبل سنوات عشر .
منذ ارتبط بهذه الزوجة الثانية، لم يذكر الأولى باسمها قط. ينعتها فقط بالقديمة. حتى كلمة المرحومة، لا تستقيم في فمه.
يوشك إذن أن يحكي ما حدث له البارحة مع تلك المرأة التي ماتت وشبعت موتا، ثم يحجم. وما الجدوى من ذلك يا تُرى؟
لقد زارته القديمة قبل الفجر، في غفلة من الخلق. لم تزره في النوم، كلا، بل جاءته في اليقظة ورآها رأي العيان. جاءت في عز الليل، تحت المطر المدرار، وقد خلت القرية من الغاشي. كان قد تحامل على نفسه رغم المرض والتعب، ورغم اشتداد المطر، وخرج كي يتفقد حيوانات الزريبة، بعد أن تزايد نباح الكلاب. وهناك رأى زوجته الميتة تقف غير بعيد. تحيط بها هالة من نور، بحيث لا يبللها المطر ولا يحجبها الظلام. نور أبيض، يضيء ما حولها، ويضفي على الأشياء وهجا مخيفا. نظرت إليه ولم تكلمه، الوقفة نفسها والحركات نفسها، كما عرفها في العمر الذي ولى، لكنها هذه المرة تقف محلولة الشعر. ارتاع أحمد البراندي من المرأة الميتة ولكنه لم يقل شيئا، بقي ينظر إليها مشدوها، خائفا، وقد انعقد لسانُه، بينما هي تشير إليه بيدها اليمنى المطلية بالحناء، تدعوه إليها، وهل يقترب أحد من امرأة ميتة؟ ورآها تبتعد بعد ذلك بخطى بطيئة، ثم تختفي وبقي هو وحده، لا أنيس له سوى تلك الشجرة الوحيدة، العارية الأغصان، التي تقف هناك ميتة ،هي أيضا، منذ زمن بعيد. ما الذي جاء إذن بهذه المرأة الميتة، في هذا الوقت بالذات؟ هل جذبتها الرائحة التي تنبعث من الأرض عند انهمار المطر، فجاءت تشم فيها شيئا من حياتها الماضية؟ لو كان الأمر كذلك، لما أشارت إليه أن يتبعها بيدها المطلية بالحناء. الحق أنها جاءت تستحثه كي يلحق بها إلى عالم الأموات.
كلا، هو لن يحكي لزوجته الحية عمّا حدث له مع زوجته الميتة. إذا هو حكى لها ذلك، فسوف تصرخ وتولول وتصكُّ وجهَها، وسوف يَسكنها بعد ذلك هَمٌّ مقيم، والهمّ يقَصّر العمر، عمرها هي طبعا، أما هو فقد جاءه النداء، وليس إلى تَجاهُله من سبيل.
إرسال تعليق