حَـــلَاوَة I عزيز ستراوي

الكاتب: مجلة فن السردتاريخ النشر: آخر تحديث: وقت القراءة:
للقراءة
عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق
نبذة عن المقال: عزيز ستراوي قصة حلاوة مجلة فن السرد بيتادين أسنان أمامية

 

fanassarde.com
لوحة للفنان البرازيلي روجيرو بيدرو

 

حـــلاوة 

منذ قليل واْنا أتابع تلك النحلة، وهي تصارع الغرق في كاْس الشاي.. تتخبط، تحاول جاهدة اْن تتعلق بورقة النعناع، وما إن تستقر على سطحها لاهتة مبلولة، حتى تبداْ رحلة الصعود، لكن ملمس الزجاج زلق يخذلها. تتعثر فتسقط من جديد في قعر الكاس.                                                 

اْجدني مثل تلك النحلة غارقا تماما في مصيبتي. منطرحا في سريرالمستشفى كحزمة من المتلاشيات، ولا اْظن باْنني ساْقف يوما على رجلي.  جسدي مهدود عن آخره وضلوعي محطمة. وياويلي  لما نظرت إلى المرآة اْول مرة؛ صُعقت وترحمت على نفسي،  قلت: انتهيت.

اْلفيت راْسي معصوبا بضمادة مبقعة ب(البيتادين)، ووجهي متورم ممتلئ بالكدمات، واثنتين من اْسناني الأمامية السفلى منخلعتين، وثمة اعوجاج في عظمة أنفي. ذلك الممرض الطيب الذي طلب لي كاْس شاي، واْعطاني المرآة واْعارني هاتفه النقال، واساني، وصبرني. قال إني ساتعافى ان شاء الله. وإنها مسالة وقت. 

لكن اْين هو ذلك المحيا الجميل الذي كان مفخر طلعتي ؟  وماذا ستقول أحلام خطيبتي عندما تراني ؟ هل ستتعرف علي؟  تراها كيف استقبلت الخبر؟  اْتخيلها وقد قفزت  من وراء مكتبها مرعوبة. طرحت ما في يدها من ملفات.

 اْخذت  في الحين إذنا من مشغّلها. وبسرعة خرجت إلى الشارع، ونادت على عربة طاكسي. لعلها الآن في طريقها إلى المستشفى لتراني وتطمئن علي.  آه.. لااْريد اْن أرى هول الكارثة على وجهها. اْبدا لن اْتحمل بكاءها اْمامي، ذلك سيزيدني اْلما وتعاسة. اْما عن زواجنا، لاباْس، سنؤجله إلى وقت لاحق.

اللعنة. هل كان علي أن أذهب إلى تلك الغابة للتريض ؟  كم اْشعر بالشماتة والغبن لأن أولئك المجرمين الثلاثة اْفلتوا من المتابعة، وهربوا بعد اْن بطبطوني، ومسخوا خلقتي، وانتزعوا مني هاتفي النقال، وجزمتي الرياضية الجديدة. هل كان علي اْن أواجههم واْمثّل اْمامهم دوربطل سينيمائي قوي الشكيمة لايقهر.

كم كنت سخيفا.  بليدا ومتهورا !   كفى، قلت. المشاعر السلبية تضر بصحتي. اْحس وكاْن حفنة من الألغام مزروعة تحت ضلوعي وبين مفاصلي. ولن اْجني غيراْوجاعها الناسفة، إن اْنا حركتها بالمنغصات والذكريات الأليمة.    

  راحة البال لن اْجدها إلا عند أحلام. هي ترياقي و بلسمي، ووسادتي التي ساْريح عليها راْسي، واْطلق العنان للحظات الجميلة التي قضيناها معا.   نعم، أتذكر حين جلست لأول مرة اْمام مكتبها لشراء شقة في السكن الاقتصادي.

   فتنت بها.  واه ! صبية شهية تشتعل شبابا. وجهها طفولي، ونظراتها حالمة. ولا اْذكر كم مرة زرتها في مكتبها.

اْعترف بـني سلمتها مفاتيح قلبي قبل اْن تسلمني مفاتيح الشقة.  على يدها ذقت مباهج الحياة وحلاوتها، لذائذ الفراش، مآكل ومشارب في  اْرقى مطاعم المدينة. جولات في اْجمل المنتزهات..اْسفار..ومشتريات، وحفلات راقصة. ولعل الغد يعِدُ بالمزيد  من المسرّات. 

 ياله من استرخاء لذيذ أشعربه الآن، يدب في ضلوعي واْنا ازدرد هذه الذكريات. انطبقت جفوني، واستسلمت لإغفاءة انحدرت بي  بدورها نحو نوم عميق. راْيت فيما يرى النائم قميصا يتهادى على حبل الغسيل. ويتمطى مزهوا بكميه الطويلين وكأنه يعانق أضواء الشمس... في لحظة ما بدا لي وكاْن الشمس تغيم. تهب ريح قوية محملة بالاْمطار. ينتفض القميص. عبثا يريد اْن ينعتق من الحبل. اْن يطير. لكنه ظل عالقا به. اْمام عيني اْراه يرتجف. يتبلل بالدم، ويتمزق تحت وميض برق خاطف ...                                         

 يا للهول! إنه قميصي الرياضي الأبيض الذي كنت اْرتديه ساعة الحادث ... وصحوت، الاْوجاع  تتفجر في كل منطقة من جسدي، وتلك الدوخة اللعينة تعاودني من جديد، لكنني وطنت نفسي، كبحت أنين اْوجاعي، وحرصت على اْن اْبقى صاحيا، فالقاعة بداْت تمتلىء بالزوار، واْحلام يمكن اْن تحضر في اْية لحظة.  مر الوقت بطيئا، وقد اْتى من اْتى، وغادرمن غادر، بل حتى تلك النحلة السجينة التي اْغوتها حلاوة الكاس. شمّرت عن جناحيها وطارت، واْنا المنبوذ التعس، بقيت غارقا في قعر السريراْتجرع مرارة الانتظار.

 خلت القاعة من الزوار، و لم تاْت أحلام. لا في هذا اليوم  ولا في يوم الغد ولا بعده،  ويا لخيبتي ! لم تكن  ترد على مكالماتي، بل ولم تفلح تلك الصورالكارثية التي أرسلتها لها عن طريق الواتساب، اْن تستدر شفقتها. بداْت الشكوك تلتف حولي و تنهشني وقلت : ربما هي فرصتها  لتفسخ خطوبتنا. اْجل لم اْعد أملاْ عينيها. كيف لها اْن ترتبط  برجل كله اْعطاب، لايناسب ذوقها و سنها، واْن راتبه الشهري لم يعد يلبي احتاجاتها التي لاتنتهي. لكن في تلك الصيبحة لما كنت غافيا اْجتر ياْسي ووحدتي. شعرت بقبلة دامعة تنطبع على خدي، وبيدٍ ناعمة  دافئة تتمسح  بشعري، و تاْخذ يدي تقبلها وتبقيها في حضن  يدها.  أحلام ! أحلام !  ومن يكون غيرها ؟ 

انفتحت عيناي. وجدتها  جالسة على حافة سريري تمسح دمعة انزلقت على خدها. وديعة كعادتها. جميلة في حزنها وشيخوختها : إنها أمي. 

ترى من اْخبرها بوجودي في المستشفى ؟  خجلت من نفسي. كيف اْجرؤ الآن على النظر في وجهها، واْنا الذي طردتها بلطف من مسكني الجديد، اْذكر أنها لم تحزن، و لم تصرخ في وجهي. اْذعنت  لطلبي وانسحبت بهدوء  لتستقر مع اْختها الاْرملة في منزل اْسرتها. كانت تلك رغبة أحلام. تريدني لوحدها  اْن تستاثر بي، واْنت تكون هي سيدة المنزل.          

واْنا في حضرة اْمي مشمول بطيبتها وعطفها ورضاها. اْعترف باْنني شعرت بالحنين الى أحلام. حنين لا اْعرف مصدره، ولا كيف اْداريه. مافتىء يتاْجج في داخلي، ويكويني كيات متوالية.

 لكن فوجئت في تلك اللحظة، وكاْن يدا تشدني من خناقي، وتهزني هزات قوية، وبصوت غاضب يصرخ في اْعماقي:

- اْلم تستح أيها المسخوط. يا ناكراْمه. الصبية لعبت بك حتى شبعت منك، ورمتك  في طاحونة الاقتراض، وفي اْول فرصة  تخلصت منك، وكاْنك ضرطة كريهة، وتقول الآن باْنك تحن إليها... والله إنك تستحق شر قتلة ...                        

الاْوجاع ! الاْوجاع ! داهمتني هذه المرة بشراسة، وتلك الدوخة عصفت بي وكأنها إعصار،  ولم اْتردد، بصقت في داخلي بصقة كبيرة. بصقت على حقارتي وضعفي ومذلتي.  


مجلة فن السرد
المبدع عزيز ستراوي


مجلة فن السرد/ محاكاة                                                                                                                                                

التصنيفات

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك تعليقك هنا

ليست هناك تعليقات
2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث