فَـــنُّ السَّــــرْد

منبـر أدبـي ثقافي

recent

آخر المقالات

recent
recent
جاري التحميل ...

أمام الساحرة I شريف الكردي

 

مجلة فن السرد

 

 أمام الساحرة

مشاتل/ قصة قصيرة  لـ شريف الكردي  


كنت على عجلة من أمري، وأنا في طريق عودتي إلى منزلي، بعدما استأذنت في الانصراف مبكرًا من العمل، لإعداد الغذاء لوالدي الحاج، الذي سيأتي لزياتي اليوم من بلدتنا. لم يكن بوسعي زيارَتُه باستمرار لانشغالي بعملي الشاق.. وقفت لأبتاع بعض الخضراوات اللازمة للطهي من بائع ظريف كثير المزاح والخدع، جذب انتباهي وأنا أنتقي حبّات الطماطم، ثلاثة شباب يرتدون ملابس رياضية، ويجلس كل منهم على كرسي متحرك أمام أرض كبيرة أعدّت لتكون ملعب كرة قدم متواضع جدًا، يحاوطها شبك طويل من جهتين، ومبنيين من الجهتين الأخريين، وأربع كشافات كهربائية يضيئوه في عز النهار وكأنما الشمس مقصرة في أداء مهمتها؛ كان هناك فريقين يلعبان وبعض الشباب ينتظر دوره في اللعب على ما أظن، وحالة من السعادة والفرحة تظهر على وجوه الثلاثة أصحاب الكراسي المتحركة، مما قبض قلبي لهذه الحالة، وشكرت الله على نعمتي الصحة والحركة وتساءلت سرًا بداخلي عن كم الرضا الذي يطفو على هؤلاء الشباب، مما أدى إلى إثارة فضولي تجاههم، وتطفلت وسألت البائع عنهم، وللمرة الأولى أراه دون ابتسامة تملأ وجهه وبنبرة تخلو من البهجة أجابني:

ـ هؤلاء خيرة شباب الحي وهم أصدقاء منذ نعومة أظافرهم.

أخبرني عن قصة الشاب الأول الذي ولد مشلولًا، ويعاني إثر علته تلك، فحتى الآن يكفله أبواه ولا يقدر على الكسب... وبأنه دائمًا ما يجده حزينا ومنكسرا، إلا في أوقات مشاهدته للساحرة المستديرة، سواء كانت من خلال التلفاز بالمقهى المجاور ل"فرشة" الخضراوات الخاصة به أو أمام ذلك الملعب الذي كان بناية كبيرة بالسابق وهدم بقرار إزالة لعدم مطابقة المواصفات الأمنة وأوقفت الدولة قرارات البناء فصار ملعبا لأبناء الحي، ولطالما تمنى أن يحضر هذا الشاب مباراة حقيقية ب "الإستاد" وأن يرى اللاعبين الكبار، ويأخذ معهم صورا للذكرى، لكن لم تتحقق رغبته تلك حتى هذه الساعة.

 انتابني حينها شعور جارف يدفعني لتحقيق أمنية هذا الشاب، وعزمت نيتي على فعلها في القريب العاجل مستعينًا بالبائع الذي تابع إخباري بقصة الشاب الثاني، الذي كان حتى سن المراهقة كأي طفل آخر يلعب ويركض، كان ماهرا في رياضة كرة القدم، وجرى أن الكثيرين حينها تنبؤوا له بمستقبل باهر في اللعبة، بينما والدته التي كانت تتولى أمره بعد موت والده ترفض هذه الفكرة من الأساس، أمرته أكثر من مرة بالابتعاد عن الكرة، والتركيز في دراسته دون غيرها.. وفي يوم من الأيام عاد الطفل بعد مباراة بالشارع وملابسه متسخة فعلمت أمه بأنه لازال مصرًا على اللعب ففقدت سيطرتها على أعصابها، وضربته حد المو.ت حتى أصابت حبله الشوكي فنتج عن تهورها شلل ابنها. واستطرد البائع قائلًا:

ـ ضاع مستقبل الشاب الكروي والدراسي بسبب من كانت تخشى على ضياعه!

وواصل حديثه، بينما انتقلت أنا لتنقية البطاطس بأذان مصغية وباهتمام شديد. أخبرني أن هذا الشاب منذ ذلك الحين، وهو لا يفعل شيئًا إلا مشاهدة الساحرة، وأنه يحلل اللعب ويتوقع توقعات صائبة عن أهم المباريات. أما ثالثهم فقد أصيب في الملعب المجاور بالرباط الصليبي الأمامي الأسبوع الماضي بالتحام خصم أهوج معه، لمهارته العالية التي كانت ستؤدي إلى خسارة الفريق الخصم وتضيع عليهم الجائزة الكبرى المكونة من سبعة أطباق من "الكشري".

دعى البائع له بالشفاء حتى يعود إلى كامل صحته من جديد، أعطيته كيس البطاطس وأنا منشغل بهؤلاء الشباب، وبأن هذه الحياة مليئة بالقصص المأساوية التي لا بد أن نسمعها لنعلم كم نحن بأحسن حال، وأن النعم تحاوطنا من كل جانب، ويجب ألا ننسى ذلك أبدًا ونسير خلف مشكلاتنا اليومية بامتعاض وكأنها كوارث. كنت أنتقي الخيار برأس يعصره التفكير فأخرجني منه رنين هاتفي، لأجده أبي الحاج، علمت أنني تأخرت وربما ينتظرني واقفًا أمام منزلي.. فتحت المكالمة وابتعدت قليلًا عن صراخ اللاعبين ليخبرني والدي معتذرًا، أنه لن يزورني اليوم لإرهاقه الشديد، وتألمه من مفاصله، فخشيت وأنا أحدثه أن أره يومًا كهؤلاء الشباب، واسترقت النظر إليهم ليفاجئني نهوضهم من على كراسيهم المتحركة مع دوي صافرة نهاية المباراة ويصيبني الذعر حتى أنني لم ألحظ كيف انتهت مكالمتي مع أبي، اندفعت إلى البائع والشباب يدلفون إلى الملعب ويقومون بتمارين الإحماء ضاحكين في حماس مع أصدقائهم اللذين كانوا ينتظرون بدأ مباراتهم! فطن البائع من ملامحي أنني كشفت خدعته وصار يضحك ويضحك حتى السعال، وأنا أراقبه بغضب، وبعدما هدأ قال لي ساخرًا:

ـ شربتها يا باشمهندز.


مجلة فن السرد/ مشاتل

عن الكاتب

مجلة فن السرد

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

فَـــنُّ السَّــــرْد