قرية في جبال الأطلس المتوسط |
جَذْب
نضبت مياه ساقية " سيدي إحيا " في صيف قائظ، أسقط أسراب الزرازير المسافرة إلى دفء الشمال،
وكان ذلك نذير شؤم على القرية، والأمر لا يرتبط فقط بخوف الأهالي من شبح الجفاف، بل ببركة رُفعت
إلى السماء، فقد كانت هذه الساقية من كرامات الفقيه الجليل سيدي إحيا أسعيد، وهو ممنون لأهالي البلدة
بما حفوه به من كرم وتقدير وهو طالب بالقرية، ولم تنقطع دعواته للبلدة لِلَمِّ شملها وطرد نوازع الشيطنة
عن أهاليها مذ بَلَغته أخبار عن نزاعات حول الأملاك والمراعي ونوبة الفقيه الجديد وتكاسل الأسر
عن " تَرْتبيت "، طعام المسافرية، وقد أصبحت مشارطة سيدي إحيا المباركة في مدرسة "إغيلان"
العتيقة على رأس هضبة بجبال مسكينة، فاتحة خير على أهل أزراراك وما تاخمها من دواوير كانت
جذبة إلى عهد قريب، فأمست على خصب بعد انبجاس عيون من فجاج " إمي نْتْغزوت ".
بَرَكَــــةٌ
حضر الفقيه سيدي إحيا صبيحة يوم مشهود بمعية شيخ البلدة،
وشهد تقهقر الأوضاع، وفي محياه
أمارات تحسر على مآلات وشيكة، أحاطت به وجوه الشيوخ القترة في توسل، غرق سيدي إحيا في
صمت مهيب وسط الحلقة، وهو يحرك شفتيه في تعزيم، ورفع صوته فجأة مع مسافرية المسجد العتيق
يتلون سورة تبارك، ولما أشرفوا على إنهائها، أبطأ الفقيه إيقاع التلاوة في" تحزيب " مهيب ترجع
صداه أجراف وادي سوس، ووقف عند الآية الكريمة يكررها شاخص البصر " قل أرايتم إن أصبح
ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين ".
دل الفقيه الشيوخ ببنانه على مكان حفر الساقية بجوار شجيرة التين الرصاصية " تارصاصت"
صعودا إلى بوزكار وفي اتجاه وادي سوس عبر تِغولا شرقا. وضرب بعصاه الأرض، وكأنه يعتلي
المنبر، فرفع يديه في استخارة تضرع وخشوع، وختم دعاءه الرخيم بنبوءته التي تناقلتها الأجيال:
" تكاديرت أُراسْت إخْلو لْعْدو أْرا صْديق، أبْلا إدْبابْنس " تكاديرت بلدة الخير، لن يهدمها عدو
ولا صديق، ولكن سيدمرها أهلها
".
خَبَـــل
لقد كان نضوب ماء الساقية التي أطلق عليها اسم سيدي إحيا
تبركا، إيذانا برفع لحاف البركة
والعناية الإلهية التي حفت الدوار منذ زمان، إنها بداية لكل النهايات المشؤومة التي سُلِّطت على البلدة،
فقد ظهرت فيها العجائب والغرائب : جريمة قتل، ومغامرات جنس، وفجأة طار عقل الدوار، وحل به الدمار،
"أدوار إخلا " ، الدوار جُن وتهدمت أركانه، عبارة يرددها محمود وهو يهم بالبحث عن أعقاب السجائر
في حوش داحماد حيث يتداول الشيوخ شؤون البلدة ... خبل.
ضراعة
انتظر الناس الغيث لثلاث سنين عجاف، وما أن تتكاثف السحب
في كبد السماء حتى تتبدد وتطير بعيدا،
وأمطرت في ظُهر يوم بَرَدا كالحجر، وكأن القرية ترجم من السماء، وعادت الشمس تصوب أشعتها
الحارة على جباه الرعاة وهم يبحثون في تيه مجنون عن سراب سحب قادمة من الغرب أو الشمال،
وانتظر الناس في قحط تلك السنون العجاف ظهور علامات الساعة الكبرى : شروق الشمس من مغربها،
وولادة
البغلة، وخروج ياجوج وماجوج .
حمل الأهالي الزيارات إلى قبر المرحوم سيدي إحيا، وضريح سيدي سعيد، ولالة تعلات ... أقيمت
المعاريف بما تبقى من مخزون الشعير بالمطامير، وأرسل الأهالي قصاع الكساكس للمحاضرية
بالمسجد، وجذب الأهالي مع فرق الكناوة وعيساوة، ومروا بين قوائم البغلة الشريفة لسيدي
علي بناصر، وتبتلت الجدات في سيدي بولانوار، وذبحت البقرات في لالة ميمونة طردا لعكوس الطبيعة،
وجال الأطفال بتاغنجا يصدحون " بْلْغنجا نومن سربي، أنزار أبابا ربي، توف توميت بوسكري،
تورو لالة عزيزة، ياوسماخو إسمكان، لاح أدي لاح تامنت لاح أمان نتكيرا "، ومشى الشيوخ مرارا
إلى المصلى خلف فقيه القرية الجديد سي البشير لإقامة صلوات الاستسقاء، وعلى أبدانهم
الهزيلة أسمال كهيأة المجانين، حفاة، منكسرين، كأن الطير تأكل من رؤوسهم ... ضراعة.
شبق
ومع ذلك كان أحفاد موغا من "السفاريان" يخففون
وطء الجفاف على أهالي البلدة، فيعقدون
احتفالات صيفية متنافسين في دعوة الروايس والرايسات، ويوشحون صدورهن بالآلاف،
والمساكين من الأهالي يتفرجون من سطح المنزل كالغربان، يبلعون ريقهم من شدة القيظ،
ومن تموج الأرداف المتلاطمة للراقصات، وصوت الدمسيرية الحنون يداعب أفئدة الأهالي العطشى
لفسحة استراحة على صدر نافر، تزيده إيقاعات الرّباب حنينا واستيهاما ... شبق.
أكـال(الأرض)
كان جفاف ما تبقى من برك في قعر الساقية "
الجهادية " جنوب أطلال ساقية سيدي إحيا،
في غشت ذلك العام قد دفع غصة الجفاف إلى الحلقوم، فبار ما تبقى من الأراضي الخصبة في دوتركا
" حقول أسفل الساقية الجهادية "، ونفقت المواشي، وهجر من هاجر من الأهالي،
ومرت سنوات الجذب وئيدة كسلحفاة شارفة، فبدأ بيع الضيعات الجذبة. وبيع " أكال "،
أطيان تمازيرت، وصمة عار ، جناية، وخيانة لأمانة الأجداد، وتفريط في الأصول.
والأهالي يعيٌرون هذا وذاك ببيع أرض آبائه وأجداده، ولتهريب الخزي من الجناة، تفطن دامسعود،
آخر من بقي من سلالة يهود المنطقة، إلى ترويج بضاعة تُذهب عن صاحبها وخز الضمير،
فما قيمة أطيان يعيش صاحبها على الشعير المسوس كبغل.
خِـزي
بعد صلاة العشاء تبدأ سهرات النسيان والتطهير، وبدار
داحماد القديمة على مشارف وادي
" بِيْنَغان " يوجد البلسم الشافي، يحضر مسعود قبل الجميع، يشعل الموقد لتسخين الدفوف
وإعداد الطواجين، يملأ قدح الماحيا في زاوية باحة الدار، والخوابي المشعشعة على قَدْر
الأملاك تختمر بتؤدة في سكينة القبو.يسقي مسعود الحاضرين حتى الثمالة، ولا يطلب الثمن
من السمار والندامى لأسابيع حتى يتمكن منهم العطش الدائم لماء الحياة المطهر لأدران الأطيان،
فيكفي
منه القليل لإرواء الحقول الجذبة داخل النفوس.
نَسَج ياجوج وماجوج، مسعود وشريكه داحماد، شبكة من
السماسرة والقوادة والبرغازة، يشترون
الأراضي، ويوفرون للندامى كل ما تنفتح عليه شفاههم، أكياس القمح لإطعام العيال، والمطلقات من نواشز
الدواوير ...الماحيا بداية
الطريق.
طرب
وقد حدث أن استقدم الشياطين غانية من الأطلس بطلب
السمار، فقد ملوا نحيب الرايسات،
وصار صوت هموشة الأطلسية يُقَطّع مواجع الندامى بتلذذ، يشعل الجمرة الخامدة في دواخلهم،
وحين تصدح ب " تماوايت " يحلو طرب الندامى بنكئ جراح الحنين إلى مشاهد الهضاب اليانعة
والفجاج الخصبة، وحقول الحنطة المتمايلة، وتلك الثمار العسلية اليانعة المتدلية في اشتهاء،
وحين تراقص هموشة أحد الرجال تنتفظ جيوش الغيرة والشبق في الصدور، فينهضون جميعا
لطرد عطش الصحاري القابعة في النفوس، والسفر عبر الأطالس الشاهقة في رقصة أحيدوس،
وهم الذين كانوا لا يطربون إلا لرقصة " عواد " مسكينة وحاحا، وليتركوا الآن أنين الناي للرعاة
يقودون المعزات العجفاء بين الصخور، وهم الآن في حضرة خضرة الأطلس الفاتنة،
هموشة شمس أشرقت على غرب الدوار، أمارة.
فساد
في نهاية شهور من السمر، ينادي داحماد ومسعود على بعض
الندامى لتوثيق عقد بيع للضيعات
والدور القديمة، والحقول الممتدة على طريق ثلاثاء كْسيمة، وكاد الفقيه المدون للعقود يكتب صيغة
الثمن المتفق عليه هزلا في السهرات: " ميترو سليترو "، متر أرض بلتر خمر. ولكن فقيه
المسجد العتيق سي البشير لا يعرف ثمن لتر الماحيا، وصيحة تماوايت، وزغرودة الأطلس،
ورقصة الأرداف، وخضرة الفجاج، ولو عرف الماحيا وعاقرها لأنجبت بغلات البلدة التوائم،
ليكتمل عقد أمارات الساعة، ولي الأمر ببعيد، فقد شوهد الرجل يدس مهراسه في دجاجاته بالعريش،
والحمارة الرمادية التي يجمع له بها الطلبة الخشب يوم الخميس، وقوالب سكر مشارطه على رأس كل شهر،
لا تكاد تقترب الحمارة من عريش الفقيه خلف المسجد، حتى تبدأ في مضغ علكتها والزبد يخرج
من شدقيها في شبق.
|
إرسال تعليق