فَـــنُّ السَّــــرْد

منبـر أدبـي ثقافي

recent

آخر المقالات

recent
recent
جاري التحميل ...

ثابت العمى والأنسنة في رواية « مذكرات أعمى » لحميد ركاطة | عبد النبي بزاز

 
مجلة فن السرد


ثابت العمى والأنسنة في رواية « مذكرات أعمى »  للمبدع والناقد حميد ركاطة.       

            

يبرز في رواية « مذكرات أعمى » للروائي والأديب المغربي حميد ركاطة ثابت العمى والأنسنة، كمكونيين أساسيين ينبني عليهما المتن السردي في سيرورة وقائعه، ومجريات أحداثه، وعلاقات شخوصه في تفاعلها وتناشزها، تواصلها وتنافرها، تقاطعها وتباعدها... دون إغفال العديد من «التيمات» والموضوعات التي تثري نسيج الرواية، وتشرعها على آفاق موسومة بالتشعب والامتداد.

بحيث يحضر العمى منذ بداية لوحات الرواية / مشهدياتها  المحددة في تسعة وتسعين: " ردت يا لك من أعمى لذيذ ..." ص 8، في رفقة لصيقة بالعصا: " بل يمسح المكان متخفيا وراء عصاه. " ص 8 ، التي تلازمه أينما حل وارتحل : " هم بالخروج معتمدا على عصاه... " ص 12 ، ليُعَرِّض أي خلل يناوش هذه العلاقة وجودهما لخطر وخيم العواقب والمخلفات: " وحدها يد شاردة ، أنقذت رجلا بصيرا من السقوط من جرف رملي، بعد انكسار عصاه الرفيعة. " ص15، فتناط مهمة الحكي لراو أعمى: " هكذا ختم راو أعمى حكايته ذات يوم بساحة « جامع الفنا » ." ص 16، ورغم ما شاب  علاقة الأعمى بعصاه من تنابذ وتوتر، إلا أن ثقته بها ظلت ثابتة راسخة: " قال الأعمى: بإمكانك أن تقترن بعصاي دون خوف ... " ص 23 . 

حضور يطبع جل فصول الرواية ومشهدياتها ؛ على مستوى الموضوع، بأنسنة عناصر من قبيل « العصا» بشكل طاغ ومهيمن نظرا لموقعها الأساسي والمؤثر في تحديد ملامح الرواية، وما يطبعها من استحالات و متغيرات عبر منظومة المحكي، وإيقاع وقائعه في نسق تبدلاتها ، وسياق تحولاتها وما يخلعه عليها من صفات إنسانية متمثلة في الكلام ك "همّ بالخروج معتمدا على عصاه، فهمست له بلطف ... " ص 12، والضحك: "ضحكت العصا وهي تتمرغ فوق الزرابي. " ص 103، والبكاء : " قرفصت عصاي وخرت على الأرض باكية. "ص 133، والقراءة: " طلبت من عصاي أن تسحب مجلة من الزمن الجميل، وتقرأ لي المميز من عناوينها.. " ص 141، وأيضا الطربوش: " سأل الطربوش العصا ذات حزن ... " ص 133، والمرآة، والدولاب: " أخبرتني المرآة ... وسخر منه دولابه القديم ... " ص 12، والباب ، والسرير : " انفرج الباب ضاحكا، وسمعت شخير سريري الذي يغط في نومه العميق ... " ص 28، فتصدر عنها أفعال إنسانية يتم تصريفها في أشكال كالضحك، والسخرية، والشخير..وتظل « العصا» بحكم مرافقتها للراوي ( الأعمى ) أكثر تجسيدا للأنسنة  فترقى إلى مقام تموقع يتماهى فيه مع الإنسان بصيغة ندية تمحي معها الفوارق، والامتيازات: " أطفأت العصا التلفاز ... " ص 69  ، في حركة تعكس سلاسة التصرف، ويسر الفعل وتلقائيته  تماهيا  مع الإنسان، فضلا عن أفعال معرفية ( إصدار أحكام ): " قالت العصا: لقد سئمت  من ترهاتك، وتخريفك ... لم يعد لحكيك معنى ولا مبنى ولا لذة ..." ص 196، لتظل صفة العمى  في التصاقها  بشخص  الراوي الناظم لمجريات الحكي، وما تعرفه من تشكلات، وما تفرزه من وقائع وأحداث، و« العصا » كأداة ملازمة له، وما يوحدهما من هموم وتطلعات، وما يتقاسمانه من مكابدة ومعاناة  في خضم واقع يعج بالمتناقضات، ومحيط يطفح بالمفارقات عبر حوار يحتد ويلين، يحتدم ويهدأ . ومواقف تتجاذب وتتباعد، ورؤى تختلف وتتآلف.

فشخصية الأعمى ظلت مقترنة  بصفة  العمى في محطات عديدة داخل متن الرواية، وما تضمنته من طفرات وارتدادات، رهانات وتحديات، إنجازات وانتكاسات، مغامرات ومناورات ...وما تجره عليه هذه العاهة  من حالات مكلفة بتوريطه في مآزق يغيب فيها الحس الإنساني في استغلال بشع لفقدانه البصر: " لو كنت أبصر، ما كنت وقعت ضحية نصب. " ص 81 ، واتخاذه كمطية للتسول : " لم أفكر قط أنني كنت ذريعتها للتسول ..." ص 81، مع تأكيده لعدم تمتعه قط بنعمة البصر: " هل كنت تبصر من قبل ؟ كلا لقد ولدت ضريرا... " ص 135.

وإذا كان لثابت العمى والأنسنة بصمات جلية في جل فصول الرواية وتفاصيلها بما يرهصان به من آفاق تأويلية، ورؤى استشرافية فهناك جوانب أخرى أسهمت، بدرجات متفاوتة، في إرساء دعائم السرد، وتشكيل معالمه وأنساقه وسياقاته بدءا من البناء الفني والجمالي الذي تدرج من مشاهد أولى( 40 مشهدا) موسومة بالتكثيف والاختزال ما فتئت تنحو نحو السعة والامتداد، وما صاحبها من استطرادات وتفاصيل تثبت مدى تمكن الروائي من الأشكال السردية، وتمثله لأوالياتها على مستوى الصيغ والدلالات من خلال قدرته على خلق توليفة جمعت بين القص الموجز والمنحى الروائي بطول َنفَسه، وعمق أبعاده، ورمزية دلالاته. والعنصر التاريخي في ارتباطه بوقائع  ظلت راسخة في ذاكرة ووجدان من تابعوا وعاشوا نكباتها ومآسيها كسنوات الرصاص : " وهم يدفنون أحياء في سنوات الجمر... " ص 50، وانتفاضة خنيفرة والمدن والأماكن المجاورة لها : " مظاهرة خنيفرة الرهيبة التي انطلقت شرارتها في وادي زم، ثم مولاي بوعزة. حوصرت المدينة من طرف قوات مدججة بالأسلحة ، بعد انتفاضة قبيلتي آيت بوهو وآيت خويا. سقط العديد من الشهداء وراح ضحيتها أبرياء إلى اليوم .. " ص 113، ورموز المقاومة الباسلة في شخص موحا أوحمو الزياني الذي أبلى البلاء الحسن في مقاومة المستعمِر الفرنسي، وما زرعه اسمه في صفوفهم من أحاسيس حبلى  بالهلع والرعب والفزع: 

"حكى لنا حكاية رجل أسطوري  أقض مضجع الجيش الفرنسي، ونغص على المعمرين حلاوة النعيم، كلما سمعوا بزحفه من المرتفعات نحو أطراف المدينة. كانت هجومات « موحا أوحمو » الخاطفة حدثا يحسب  له ألف حساب. شيخ وقور ، تجرع من كأس الخيانة في النهاية، ومات شهيدا. " ص 112، وانقلاب الصخيرات سنة 1972 : " يتحدثون بشكل هامس عن أحداث خطيرة وقعت. أغلب الظن تتعلق بمحاولة انقلاب العسكر على ملك البلاد ... " ص 175، وعن وقائع أخرى مقترنة بالشأن المحلي مثل ما تعرفه الانتخابات من خروقات وتجاوزات : " وهي تبدي قلقها العارم من عدم نزاهة الانتخابات، متخوفة من تدخل السلطات المحلية وشراء المرشحين المنافسين لذمم المواطنين بالأموال. " ص 147، وأيضا موضوع الدين في استعمالات فردية مجسدة في علاقة المرء بخالقه: " توسلت أثناء صلاتي إلى الله أن يجعل لي رجاء ومخرجا... " ص 79 ، أو على شكل استيحاء من النص  القرآني كقصة النبي يوسف : " كنا في غياهب جب يوسف ... " ص 50 ، وفرعون : " أو عصا فرعون ذي الأوتاد ... " ص 43، أو في صيغة دعوية بمسوح ترهيبية : " أخبرنا (الفقيه) أن طوفان خنيفرة أشبه بطوفان سيدنا نوح ، وأن هناك أقواما عاشت ثم بادت بسبب بخلها ، وهجرها المساجد ، واقترافها للمنكر ، ولقلة استغفارها. " ص 137 . وشكلت خنيفرة فضاء فسيحا ، ومسرحا عريضا لأهم وقائع وأحداث الرواية في ارتباطها بأشخاص ذوي حمولات رمزية وتاريخية وفنية كالمقاوم موحا أوحمو، والفنان رويشة،  وعروب، والغازي بناصر، ونعينيعة، وحادة أوعكي، وموحا والحسين، واستيتو، والشريفة، وتفولوست، وعلي الحلايقي في تماهيه مع الراوي الأعمى.

 ونظرا لما يكتسيه طابع التنويع  من قيمة جمالية ودلالية داخل المتن الروائي، فقد ورد ذكر فنانين آخرين بعيدين عن محيط  الراوي؛ مغاربة ك «محمد الحياني» ، والماريشال قيبو، ومشارقة ك« فريد الأطرش »، فضلا عن ممثلين يمتلكون سلطة بداية فنية كونية مثل شارلي شابلن، وابن بطوطة في مجال الرحلة، وما خلفته جولاته في أصقاع الكون من إثارة وإشعاع، وسرفانتس بمقامه الأدبي الرفيع،  ومارلين مونرو الممثلة، و عارضة الأزياء، والمنتجة ،والمغنية  ،  والكاتبة  ... كما توزعت اللغة وتنوعت بين عربية وفرنسية في المشهد (35) الموسوم  ب               «Racines»   ، و(36 )  ب « Voyage à l’orient »  ، و(64) المعنون ب «نيكاتيف»  وإن لم يدون بحروف لاتينية ، وأمازيغية (81 )« آوى ربي ما يتعنيت أيول» : (آه يا إلهي  كيف حالك يا محبوب فؤادي )، وما تضمنته الصفحات 184 و185 من مقاطع لأغاني أمازيغية . لغة تزخر أيضا بنَفَس مجازي كما في : " اسمع خطواتك وهي ترتق زقاق القلب تملأ وحدتي بدبيب الحياة... " ص 8 ، وفي : " فشيدت في الحنايا ثقوبا ، عششت فيها عناكب زمني الرديء." ص 25 . بالإضافة إلى العنصر الغرائبي الذي تزخر به ثنايا الرواية مما يضفي عليها عمقا دلاليا ، ومسحة جمالية حيث نقرأ : " وضعني في صندوق مع حكاياته ... " ص 40 ، حيث يغدو المستعصي مطاوعا ، والمستبعَد متحققا : " رأيت في ما يرى النائم : أبكم يغني بطلاقة ، ومقعدا يعدو كالبرق ... وأعمى يبصر كزرقاء اليمامة ... " ص 153. 

من خلال ما تقدم يبدو أن مكونات الرواية السردية، وأبعادها الدلالية والجمالية ، وتنوع « تيماتها» وموضوعاتها يستدعي مجالا أوسع ، وأدوات أوفر للإحاطة بجوانبها الإبداعية الأساسية، ومن ثم استيفائها ما تستحق من بحث ومدارسة عبر مقاربة أشمل وأوسع آملين أن نكون قد أضأنا بعض الجوانب الخفية من متن  روائي بنزوعات خلق وابتكار موسومة بالعمق والثراء والتنوع.


عبد النبي بزاز

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ــ رواية " مذكرات أعمى " للكاتب حميد ركاطة.

ــ مطبعة نجمة الشرق ـ بركان / طبعة ثانية :2020


مجلة فن السرد/ قراءات ودراسات

عن الكاتب

مجلة فن السرد

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

فَـــنُّ السَّــــرْد