فَـــنُّ السَّــــرْد

منبـر أدبـي ثقافي

recent

آخر المقالات

recent
recent
جاري التحميل ...

لَيْلَةُ الْمِيلَاد I زهيم كريم

مجلة فن السرد
لوحة ل: Robin Wethe Altman

 

زهير كريم
المبدع زهير كريم

لَيْلَةُ الْمِيلَاد

 

حدث ذلك في ليلة الرابع والعشرين من ديسمبر، في الساعة الثامنة وعشر دقائق. كنت بالصدفة أمام منزل السيدة ناتالي. وأي ّعابر مثلي يمكنه أن يكون شاهدا على الحدث، أن يحفظ تفاصيله ويرويه فيما بعد. لكن لا أحد غيري في تلك الساعة، أنا الأجنبي الوحيد في مدينة صغيرة تقع على أطراف بروكسل الجنوبية، بين مزارع الذرة والغابات، يربطها بأقرب مدينة شارع واحد مبلط بالحجر، وآخر رحلة للباص هي الساعة الثامنة.

 على كل حال لن أعدكم بتقديم حكاية فريدة. لكني أحاول أن أقدم لكم نفسي باعتباري نادما، أقصد أني لم أحسن التصرف، كنت فضوليا حينها، لم يكن هذا سيئا حينها، لكنني ندمت في النهاية، كان من الواجب أن أكون متطفلا، وقحا لو تطلب الأمر، أن أقوم بالحركة التي كان ينبغي أن يقوم بها شخص يحسن التصرف في مثل هذه المواقف، أن أطرق الباب،  وحين ترد عليّ، أقول لها: اعتبريني فردا من عائلتك في هذه الليلة.

لقد شاهدت من خلال نافذة الصالون، المائدة المعدة، أو التي في طور الإعداد، لمحت السيدة السبعينية وهي تتحرك بنشاط، ذلك الشيء الاستثنائي الذي يرافق  استعداد المرء لاستقبال مدعوين أعزاء.. راقبتها وأدركتُ أن  الضيوف سيحضرون حالا، الرجال والنساء، أطفال العائلة والأقارب الذين سوف يكتظ بهم المنزل، وينشرون الصخب مثل اذلي يشعل النار في هذا القبو الذي يبدو باردا.

 لكن _ أنا العابر_ ماهو السبب الذي دعاني لانتظار وصول المدعوين، هل هو فضول مهاجر جديد يحاول اكتشاف تقاليد عيد الميلاد؟ هل لأنني وحيد وغريب، فأحببت أن أرى هذه السيدة الوحيدة  في أسعد أوقاتها؟! هل رغبت بالحصول على طاقة إيجابية، كي تتوهج أوقاتي قبل أن أدخل شقتي البائسة وحيدا ومنبوذا؟

وكانت ناتالي قد أشعلت الشموع في كل زاوية من الصالة، على الطاولة، أعدت وجبة تكفي لعشرة أشخاص على الأقل، فاكهة متنوعة وعصائر أيضا، وأشياء كثيرة لم أتبينها، حدّقت ببهجة في شجرة الميلاد المضاءة،  فحثت الهدايا المتنوعة المربوطة بشرائط ملونة على أغصانها المتشابكة وعندا الساعة.

 تأخر الوقت ولم أنسحب، ازداد إصراري على متابعة المشهد حتى عندما وصل الوقت إلى التاسعة، قلت  لنفسي، من غير المعقول أن يتأخر المدعوون لهذا الحد! أثارني أن السيدة كانت تنظر إلى الباب بشكل متقطع، تحاول أن تشغل نفسها بأي شيء، لكن نظراتها معلقة على الباب. في النهاية، جلست إلى الطاولة، كان واضحا أنها تحاول تسلية نفسها باصطياد مشهد قديم من سيرتها، ظهرت لي مثل صياد يرمي سنارته وينتظر، ابتسمت لمرات عديدة ، لكن لا أحد طرق الباب، صبت كأسا من الشراب، ألقت نظرة على الشارع الفارع ألا من فضوليّ يختبئ لم تلاحظ وجوده، أو ربما لاحظت ولم تفعل شيئا، عادت وصبت كأسا ثانيا وثالثا ورابعا وخامسا، ويبدو أنها أصبحت ثملة، لاحظت أن حركتها لم تعد متزنة، والشموع تذوب، الطعام على الأرجح صار باردا، والساعة تقترب من منتصف الليل، ثم نهضت، ارتدت معطفها المعلق قرب الباب، لم يكن في سنارتها ولا حتى سمكة صغيرة كي تستطيع الإمساك بالأمل.

 فتحت الباب وخرجت، انتقل المشهد بالنسبة لي إلى منطقة الإثارة، بل انحرف بطريقة لم أتوقعها، حاولت أن أجعلها تحت نظري، في الواقع خفت أن تنتحر، أولا أدري هكذا فكرت وقتها، كان الشارع فارغا تماما، لكن المنازل مضاءة، سمعت صخبا ينبعث من هنا وهناك،  لكن السيدة ناتالي اتجهت إلى الحديقة الصغيرة، وحين جلست على مصطبة، احتضنت وجهها بكلتا يديها.

ويبدو لي أنها في تلك اللحظة العاطفية الاستثنائية، كانت تتذكر كل الذين ذهبوا، وتشعر أنها وحيدة بدرجة مضاعفة، لقد سمعتها حين بدأت تشتم، إذ مرت على لسانها قائمة طويلة من الأسماء، ثم استغفرت للجميع، رسمت علامة الصليب مرات عديدة، ثم بدأت تبكي، وكان الهواء ينقل صوت نحيبها عبر حقول الذرة إلى المدينة، هكذا تخيلت، بل إلى كل البلاد وإلى العالم، ويصعد حتى السماء.

في ذلك الوقت العاطفي، والذي يعتقد الناس هنا، أنها اللحظة الاستثنائية في عمر البشرية. لكنني بعد دقائق، سمعت السيدة ناتالي تخاطب شخصا ما، خيالا أو شبحا أو طيفا، لم تكن لغتي جيدة، لكني استطعت أن أفهم الكلمات كما لو أني حفظتها من قبل: لم تستطع توفير ضيف واحد، ضيف واحد وحسب، ليشارك امرأة وحيدة مائدتها التي أعدتها بمناسبة ميلادك، ألم تقل لهم أن يؤجلوا أعمالهم ولو لليلة واحدة؟ لماذا لم يحضر أي منهم؟ أنا أسألك أنت، بل أحملك حتى تكاليف المائدة كلها، اللحم والفاكهة والنبيذ، لن أحتفل بك  ثانية هل فهمت؟ لن احتفل مرة أخرى! .


مجلة فن السرد/ محاكاة

عن الكاتب

مجلة فن السرد

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

فَـــنُّ السَّــــرْد