انتظار
تظل الجدة فاطنة تمعن النظر في سقيفة الكشينة، وهي تنتظر عودة أزواج طيور السنونو في بداية كل ربيع، ولا تكل من رفع وجهها الدافئ المستدير باحثة في السقف عن تلك الأجسام الممشوقة، وذلك البياض الناصع الذي يرقط سقف أنوال الغارق في السواد، تتملى أزواج الخطاف وهي تغدو وتروح كالسهام لإطعام فراخها الجائعة المشاكسة، تتابع الجدة حركات الخطاف بعينين ضيقتين على وشك الانطفاء، فوقهما تجاعيد منسدلة من جبهتها الفاترة، مع ذلك فالوجنتان لم تغادرهما أبدا أمارات الحشمة والبراءة والتبسم اللطيف، معربة عن معالم جمال جبلي غابر، تنتهي صفحة وجهها بذقن موشوم بما يشبه ساق نبتة بفرعين في شكل علامة نصر تتجه نحو شفتين ترسمان دوما ابتسامة رضى، وسكينة لا ينضب معينها.
شوق
الأعشاش الطينية المخروطية في مكانها معلقة
على سواري أفقية تحمل السقف الخشبي الذي كساه سواد الأدخنة المنبعثة من الموقد،
والجدة تتوق إلى أوبة الخطاف من رحلته المقدسة، تتوق الإنصات لأنشودته
الربيعية التي تحملها على بساط الذكريات اللطيفة، لكن ما يفتأ الصفير الخطافي ينكأ
جراح حنين دفين في صدر مفجوع.
نصر
تشرئب الجدة وهي تراقب رقصة الخطاف
المتحررة في الهواء، ومنظره الممشوق في تماثل بين بياض وسواد ناصعين، لينتهي جسمه
الصغير بذيل يعلن بريشتين طويلتين علامة النصر المحفورة في ذقن الجدة، صدفة أو حفر
ولع، نصر في رحلة ملحمية من صقيع الشمال إلى دفء الجنوب، ونصر الجدة في رحلة عمرها
وهي تزحف نحو الغروب.
ذكرى
مازالت تتردد في مسامعي حين كنت في مثل عمر
الفرخ، نَهر الجدة لكل من يريد العبث بالأعشاش، وفي غفلة منها حملت الوالدة عصا
طويلة فأسقطت الأعشاش المهجورة شتاء لتجنب عودة بزق الفراخ، وظلت الجدة ترسل
دعواتها للوالدة تلميحا طيلة ذلك أسبوع، والجدة تعرف أن أزواج الخطاف سيبنون
أعشاشا جديدة في سقيفة الكشينة، ربما لا تريد إجهادهم ببناء عش جديد، وربما قد
يستشعرون من تخريب عشهم القدرم بأن المكان غير آمن.
توجس
جدتي هي الوحيدة الشاهدة على البركة التي
يحملها خطاف مكة إلى بيوت الدوار، يكفي بشارة أنه كان رفيق جدي في حجه إلى البيت
الحرام ذات عام. كانت تحدج جدتي الفراخ وهي تمد أعناقها رافعة مناقيرها الصفراء في
صفير حاد طلبا للقوت، وحين تأتي أمهم تشبك مخالبها الرقيقتين على العش وتبدأ في
إرواء جوع الفراخ المتجدد، هاهي تخرج من العش وتنطلق في الهواء منسابة تخترق
الفضاء وتزيل وحشة المكان وثقل الزمان، ولكنها تأخرت هذا العام، من يدري، لعل رصاص
الصيادين أسقطها قبل الوصول، ولعلها حولت وجهتها إلى قبلة أخرى، أو ربما ملت من
السفر الدائم، فمكثت في أعشاشها هناك، حيث المطر الدائم والقوت الوفير، فما عاد في
البلدة ما يعجب.
بشارة
تحكي الجدة حين كانت في عقدها الرابع، كيف
انقطع رجاؤها من عودة جدي محمد من حجته الأولى راجلا من البيت الحرام، وحين ذاعت
أخبار عن وفاة حجاج في أحواز الشرق بفعل الحر الشديد ذلك العام، بدأ شيوخ الدوار
يتهامسون لإقامة صلاة الغائب، فقد دار العام ووصل من وصل، وانقطعت أخباره عن الحجاج
مذ خروجه من البلد الحرام.
تنشغل الجدة نهارا كاظمة جمرة متوقدة في صدرها، وبين حين وآخر تخرج زفرات
حارة وتغمغم بكلمات لا تميز فيها العتاب من الشوق، كانت تُلتقط من همهماتها
وهي تزق الدجاج في الحوش الخلفي للبيت القديم كلمات واضحة: " ماموراييفل، ريغ
أنمصيفيد..." لمن سيتركني، أريد أن أودعه ..."، وفي الليل لا تكف عن
أنين ونحيب يقطع القلب ويخترق جدران الطين السميكة كصمصمة القنافذ حين تخاف من
الهلاك.
ولم تكن لتفهم جدتي البشارة لولا انقشاع
ابتسامة بريئة على محيا حماتها، التي تخشبت منهدة في ركن بغرفتها، ناحلة الجسم،
محروقة القلب، تنتظر عودة كبدتها الوحيدة حية أو ميتة، نظرة في وجه ابنها وليستعجل
بعدها الموت،. لقد صارت عمشاء من فرط البكاء، وتجمدت عيناها في جحوظ وهي تحدج طيلة
الوقت في سقف الغرفة، وتمسح بمقلتيها عتبة باب الغرفة وهي تتأمل بضع نملات
ينقلن حبات الشعير إلى تشققات أسفل الجدار الغربي للمنزل، تتأهب حواسها جميعا
لالتقاط بصيص أمل.
وصال
في ذلك الصباح الربيعي الدافئ
استغربت الجدة فاطنة وهي تدخل غرفة حماتها، فوجدتها تغمغم مبتسمة وتشير بأصبعها
إلى زوج الخطاف على وتد خشبي مغروس في جدار الغرفة يتفحصان هذا المكان،
ويطيران جيئة وذهابا، وكأنهما وجدا ضالتهما، هنا سيبنى عش جديد، ويستمر احتفالهما
برقصة الخطاف العجيبة في فضاء الغرفة، وبصفير من حنين وقرب وصال، بشارة.
أحست الجدة، وهي تعدل رداء حماتها وتناولها
حريرة صفراء من طحين الذرة في الصباح الباكر، بقشعريرة تدب إلى أوصالها، وفي
ظُهر ذلك اليوم دخل الحاج محمد من المسرب العلوي للدوار على جواد أدهم وبياض ناصع
يشع على صفيحة وجهه، وطيور الخطاف تحلق في منحنيات عجيبة حواليه، لا تظهر عليه
أمارات السفر، وكأنه قادم من السماء.
تعالت صيحات الرعاة وسط الحقول، وصدى
زغاريد النسوة يحلق في الآفاق، فما كاد الحاج محمد يصل عتبة الدار، حتى أغمي على
الجدة، وبلغ نحيب فرح أمه أشده، والأفق مازال شاهدا على رقصة هوائية مدهشة لأزواج
الخطاف وهي تحلق حول الدار في تموجات متتالية، وتخترق الفضاء كالشهب في تنسيق
بديع، وذاعت عودة الحاج الأسطورية في كل القبائل، وظلت رقصة الخطاف لغزا محيرا
عالقا في الأذهان.
تؤوب الجدة فاطنة من نشوة الذكريات، وكلما
استيقظت من غفوتها، وقبل أن تهم بمتابعة تكسيرها لحبات الأركان على صخرة شيخوختها
المنهكة، تلقي نظرة إلى السقف، وإلى "أسراك" باحة الدار، وفجأة يتعكر
مزاجها لتأخر الوصال.
نذير شؤم
في ظهيرة ذلك اليوم أخذتها سنة من النوم
كالعادة على الرحى وهي تطحن دشيش الشعير، تتنفس بشفتين مضمومتين وكأنها تنفخ
الكانون كاشفة عن فم أدرد، واستغرقت في حلم مفزع، أيقظها منه صفير خطافة حطت على
عشها القديم في سقيفة الكشينة، واستبشرت الجدة خيرا، فأل خير، فانتظرت بشوق رؤية
باقي الأزواج كما تشبثت بأمل عودة الحاج المرحوم ذات زمن، ومرت أيام طويلة ظلت
فيها أنثى الخطاف تروح وتغدو وتمكث في عشها الصباح كله، خاملة بلا صفير ولا حركة،
خَفُت صوت صفيرها تدريجيا وصار كالأنين، فلا شك أن زوجها جف ريقه وسقط مغشيا
عليه في تلك الأيام القائظة، وبعد أسابيع غادرت الخطافة وحيدة كما جاءت، وصارت
الغربان تحوم حول الدار القديمة، وتقفز في الباحة وتقترب من رجلي الجدة الممدودتين
حول مهراس الأركان، وفي الليل البهيم تتدلى الخفافيش على أعشاش السنونو، ويعم أزيز
وطِّها الأرجاء، وأدركت الجدة أن الأوان قد أزف.
الحسن أقديم
مجلة فن السرد/ مشاتل
إرسال تعليق
اترك تعليقك هنا
الرجاء تغيير موقع التعليقات في الإعدادات إلى مضمن