لوحة للفنان المبدع حسن عين الحياة |
"تذويقة من نص قيد الإنجاز" | للمبدع عبد اللطيف النيلة
أمضيت الليل أرقا. مع غروب الشمس، لذت بالعلبة التي أسكنها وحدي تقريبا، إذ كانت تضم أربعة أسرة: سريران أحدهما فوق الآخر جهة اليمين، ومثلهما جهة اليسار، وفي الوسط فسحة صغيرة يستوي في آخرها، بمحاذاة الجدار، خزانة من قصدير تشتمل على أربعة أقسام، لكل قسم دفة بقفل. كنت قد هربت بجلدي إلى هذه العلبة فرارا من صخب الأصحاب الذي لا يكاد يتوقف في علبتي الأصلية. لم يكن يقطن فيها غير طالب واحد، يشغل السرير الأعلى من جهة اليمين، إلا أنه لم يكن يأتي إلى مأواه إلا لماما. تهالكت على سريري الواقع في الأسفل إلى جهة اليسار، وأغمضت عيني محاولا استعادة صفاء ذهني. حاولت أن أركز خيالي على نقطة مضيئة وسط فضاء مظلم، منتبها في الآن نفسه إلى حركة تنفسي، غير أني أخفقت في مسعاي لإقصاء أي فكرة تتعلق بوقائع هذا الأحد التي رجتني رجا. سرعان ما ألفيتني أحدق في وجه ثريا الذي احتل مكان النقطة المضيئة، وطفق يدنو، حينا، حتى يصير واضح الملامح يتلون بمشاعر مختلفة، تتعاقب عليه واحدة تلو الأخرى، دون أن يكون بوسعي تثبيته على تعبير واحد تتوق إليه نفسي المتعبة، هو تعبير الفرح الذي كان يتدفق من وجهها، في لحظات السعادة، مخلوطا بضحكة طلقة تسبغ عليها سحرا يهزني بعمق. وحينا آخر، كان ينآى، كأنما ثمة قوة غاشمة تجره بعيدا، شيئا فشيئا، فتغيم ملامحه، بل إنها تتشوه حتى تنطفئ غائصة في لجة الظلام. سؤال ملح ما فتئ يتردد في رأسي، فيما أنا مستسلم لموجات وجه ثريا تتلاطم في خيالي متأرجحة بين اقتراب وابتعاد: لماذا فعلتها يا ثريا؟ لماذا؟ أ إلى هذا الحد ضاقت بك الأرض بما رحبت؟
أحاول، عبثا، أن أفهم الدافع الكامن خلف إقدامها على الانتحار. أهي هشة إلى هذا الحد؟ أسترجع آخر مرة رأيتها فيها. كنت قد اقترحت عليها، قبل ثلاثة أيام، ونحن نجلس على أحد مقاعد ساحة الحي مساء، أن نخرج في نزهة، فاعتذرت بأنها لا تملك وقتا، فصباح الغد لديها حصتا دراسة، والعشية ستقضيها في مكتبة الجامعة لإنجاز بحث حول نظرية يونج في التحليل النفسي. فرددت عليها مازحا:
- الطالبة المجدة لم تعد تؤمن بالمثل المغربي: "ساعة الزهو ما نخليها تدوز ولو بقطيع الراس".
فتبسمت، وعقبت:
- أين هو هذا "الزهو" الذي تتحدث عنه؟ ليس ثمة غير "صداع الراس".
انفجرت ضاحكا:
- صداع الرأس هو هذه الواجبات التي ترغمين نفسك على أدائها، فلتتحرري منها قليلا، لن تقع السماء على الأرض إن تغيبت غدا، وبإمكانك بعد إنعاش رئتيك بهواء جديد أن تتداركي ما فاتك من بحث. أنا نفسي غارق حتى أذني في البحث، حتى أني لا أجد وقتا "أحك فيه رأسي". ولكن هل تريدين الضغط على القلب حتى ينفجر؟
افترت شفتاها عن ابتسامة يصحبها التماع بريق في العينين، تلك الابتسامة التي تنطق: "يا لك من شيطان ماكر!". وقالت:
- يبدو أن مشوار الدراسة سيطول بنا إلى ما لا نهاية بسبب ساعة "الزهو" هذه، وسنكون قد هرمنا ونحن نراوح مكاننا.
كانت تلمح، دون شك، إلى مستقبل علاقتنا. سارعت إلى طمأنتها:
- لا تقلقي يا ثريا، لن أقول لك: "اللي مكتوب على الجبين لازم تشوف العين"، فلست قدريا، ولكني أعدك أن أسرع وتيرة اشتغالي، سأحرص على استكمال بحثي هذه السنة، وحين أنال الشهادة سيسهل علي العثور على عمل. وعندئذ سينفتح في وجهنا أفق مشرق.
- يا لك من حالم!
- بالحلم نقاوم يا ثريا، فدعينا نجدد الهواء غدا.
حين التقينا، في اليوم التالي، قبيل الحادية عشرة صباحا، كانت أنيقة، إلا أن عينيها كانتا منتفختين قليلا.
- يبدو أنك استيقظت لتوك.
- جافاني النوم بالأمس، فلم أنم إلا عندما شارفت الساعة الثانية صباحا.
- ولم؟
- كنت قلقة.
- ما الذي يقلقك؟
- "الساعة لله".
أجابتني ثريا عابسة الوجه. لم ألح عليها خشية أن أفاقم تعكر مزاجها. خرجنا من باب الحي، وانعطفنا يسارا. كنت قد خططت لنزهة لا تكلفني إلا أقل ما يمكن من مصروف، إذ كنا في الأسبوع الأخير من الشهر حيث تبدأ الميزانية في الاحتضار. مضينا نطوي الطريق، صامتين، باتجاه سوق الأحد. لم أستطع منع نفسي من التفكير في سبب قلقها. فكرت: لعل التساؤل عن مصير علاقتنا أطار النوم عن جفنيها. كانت تلم بها، من حين لآخر، شقيقة تشطر رأسها نصفين، فضلا عن الأرق الذي كان يستبد بها عقب كل خصام ينشب بيننا. لابد أنها تخاف أن أخذلها. لم تفصح لي عن شيء من مخاوفها بفعل كبريائها دون شك. واصل الصمت إطباقه علينا، في عالم ضاج بالحركة، فيما كنا نحث الخطى، جنبا إلى جنب. لم أشأ أن أسألها مرة أخرى عن أرقها أمس، أو ألمح، بشكل أو آخر، إلى ما أحدس أنه سبب قلقها. كنت أخشى أن يغدو مزاجها على قلق كأن الريح تحتها، وتتكدر لحظات اللقاء.
في الفضاء الخارجي لمقهى مجاور لأسوار المدينة، أفسحت لها لتجلس، أولا، على كرسي بلاستيكي، وسحبت كرسيا آخر لأجلس إلى جانبها. حين أحضر النادل فنجان القهوة السوداء وعصير البرتقال، كان أذان العصر يتعالى كما لو من مسجد قريب. أشعلت سيجارة، ورحت أسحب الدخان وأنفثه محتسيا قهوتي، بينما كانت ثريا صامتة تسرح في المشهد الذي كان يجري في محيط المقهى: سوق مرتجل يحتل الرصيف والطريق، عربات من حديد أو خشب تمر مجرورة ببغل أو مدفوعة بقوة العضلات، ناس غادون أو رائحون. لأكسر الصمت سألتها:
-هل تحتوي خزانة الجامعة على كتب حول يونج؟
- لا أدري بعد، لكن أستاذ علم النفس أحالني على مجموعة من المراجع، سأبحث عنها، ولابد أن تساعدني في فهم ما غمض علي من أفكارها.
عقبت ضاحكا:
- لا تحملي هما، أنا رهن إشارتك.
تبسمت راضية. ولأني كنت، أمس، قد التقطت إشارتها إلى إنجاز بحث حول يونج، فإني بمجرد أن دلفت إلى علبتي، بحثت بين كتبي عن مرجع حول نظريات علم النفس، وعكفت بجدية على قراءة الفصل المخصص لنظرية يونج، على أمل أن أكون جاهزا للرد على التساؤلات المحتمل أن تطرحها علي ثريا. لقد انتسجت علاقتنا، في فجرها، عبر نهوضي بدور الشارح لدروس مقررها، فكأني المعلم العارف وهي تلميذتي المتلقفة لكلماتي. لذلك، انتهزت الفرصة، الآن، ورحت أحدثها عن نظرية يونج، مسهبا في بسط مكونات الشخصية لديه، من ظل، وأنيموس، وأنيما، ومانا، وقناع...
باهتمام شديد أصغت إلي، بل إنها استفسرتني عن كل نقطة بدت لها غامضة. ولما فرغنا من نظرية يونج، أشعلت سيجارة، وشرعت أدخن شاردا، وقد انتفخ صدري زهوا، كما لو كنت قد حققت انتصارا.
(......)
بحثت عن النادل، فنقدته ثمن المشروبين، ومنحته بقشيشا. كانت تنتظرني تحت شجرة النارنج المرخية ظلالها أمام المقهى. احتويت كفها الصغير بكفي، ومضينا باتجاه القوارب. لم تمانع هذه المرة. أحسست استسلام يدها، وديعة دافئة، ينبض الدم في عروقها. سرنا صامتين، كأنما نستلذ الإصغاء للحديث السري الذي طفق يجري بين كفينا، غير عابئين بالمارة وبالأشياء التي يكتظ بها العالم من حولنا. كان الإحساس بأن ثريا امرأتي يتجذر عميقا في نفسي وأنا أخطو تحت الأنظار وهي بمعيتي ويدي تعانق يدها. افترقت يدانا عن بعضهما البعض ريثما قفزنا إلى القارب الأزرق، وعادتا إلى عناقهما بمجرد أن جلسنا فوق اللوح الخشبي بمؤخرة القارب. لحسن حظنا، لم يشاركنا الركوب أحد سوى صاحب القارب الذي أدار لنا ظهره، وراح يجذف جالسا وسط القارب. مالت الشمس صوب الغروب، فاصطبغت السماء والبحر بضوء ذهبي، ومضى القارب يشق عباب الماء، والنوارس تحلق فوقنا مطلقة صيحات تشق الصمت كما لو أنها تودع الشمس أو تأسى على رحيل نهار آخر. كانت ثريا تجلس بجواري، كفها في كفي، وقد تماس جسدانا جانبيا، ذراعا لذراع، ساعدا لساعد، خصرا لخصر، وفخذا لفخذ.. أفسحنا الطريق لدبيب الشهوة في عروقنا، يداعب وجهينا الرذاذ المالح والريح المحملة بأنفاس أشجار معرشة على ضفاف النهر، ويدغدغ السمع منا صوت المجذافين يدفعان المياه في حركة نصف دائرية. أعماني سحر اللحظة، فدنا خدي من خدها، وتصاعدت أنفاسنا حارة، أسبلت أجفانها ففعلت مثلها، وغرقنا في لذة يتمازج في عمقها الحسي بالروحي، دون أن نلقي بالا لصاحب القارب الذي كان ينظر إلى الجهة الأخرى، مديرا لنا ظهره، مستفرغا كل جهده في التجذيف. ولم ألبث أن توجت حرارة الدنو بقبلة طويلة محمومة.
ولما نزلنا من القارب، وشققنا طريقنا عبر رمال الشاطئ، كان الإحساس بتلك اللذة الحسية الروحية ما يزال حاضرا في ارتباك خطواتنا، في تهدج أنفاسنا، في نبضات قلبينا، وفي الصمت الفاتن الذي كان يلفنا، كأننا خرجنا لتونا من شطحة صوفية. التقمت يدي يدها الصغيرة من جديد، حالما غادرنا الشاطئ. وحثثنا الخطى، من غير أن ينبس أحدنا بكلمة. وددت عندئذ لو يتأبد حاضرنا هذا، ونحن نسير معا في دروب بلا نهاية.
(.....)
عندما انعطفنا إلى الطريق الذي يقود في استقامة، بعد بضعة أمتار، إلى الحي الجامعي، استلت ثريا يدها من يدي. تفهمت حذرها من عيون قاطني الحي، فلم أعاود الإمساك بيدها. لكننا لم نكد نخطو ثلاث خطوات، حتى تناهى إلينا صوت ينادي علي: "عبد العالي! أعبد العالي!". أجفلت وأنا أدرك أنه صوت أنثى. التفت خلفي، فرأيت سلمى، تلك الطالبة التي تدرس مع ثريا في نفس القسم بشعبة علم النفس، تهرول لتلحق بنا. تمهلت في السير أنتظرها، بينما واصلت ثريا سيرها وقد تجهم وجهها. مدت سلمى إلي يدها تصافحني، وسارت بجانبي، وهي تقول بصوت لاهث:
- أين اختفيت هذه الأيام؟ بحثت عنك عبثا في المشربة، في الخزانة، في الساحة...
قاطعتها:
- كنت مشغولا بالبحث.
- كان الله في عونك، هل البحث يجري على ما يرام؟
لو كانت ثريا هي من طرح السؤال، لأجبت بشغف مطلعا إياها على التفاصيل. أما هذه السلمى، فقد جعلتني أحس أنها لم تنبعث، فجأة، إلا لتكدر صفو اللحظات الرائقة التي أمضيتها تحت ظلال ثريا. رددت عليها باقتضاب وأنا أسرع خطوي: "كل شيء بخير". عقبت وهي تجهد أن تساير سرعتي: "الحمد لله". أنستني الرغبة في اللحاق بثريا أن أجامل سلمى بسؤالها عن أحوالها، إلا أنها عادت إلى الكلام بتلقائية، حين حاذينا ثريا:
- حاولي علينا شوية ألا نوال المتوكل، راه سخفتنا، مالك زربانا؟!
توقفت ثريا عن السير، وتطلعت إلى سلمى بنظرة يمازجها قليل من الاستياء:
- اسمي ثريا، أما نوال المتوكل فابحثي عنها في مضمار السباق حيث تركض للفوز بالميدالية.
وضحكت ثريا، كأنما لتخفف من حدة لهجتها. فمدت سلمى يدها نحو ثريا، بوجه باش، قائلة:
- دعينا نسلم عليك أولا، ثم نرى ماذا سنفعل بشأن السباق والميدالية.
استجابت ثريا، فمدت يدها بدورها لمصافحة سلمى. لكنها قالت:
- لحسن الحظ أن السباق مسافات مختلفة، والميدالية أنواع، ولكل ما يناسب سيقانه.
أحسست أن الحديث بينهما بدأ ينجر إلى حرب التلميحات، فسارعت إلى تغيير مجراه، تحسبا لوقوع ما لا تحمد عقباه:
- أين وصلت في سباقك مع القصص؟
وكأنما حدست سلمى ما جال بخاطري، ردت:
- لا زلت أواصل التمرين، فرغت من كتابة قصة جديدة، لذلك أردت أن أعرف رأيك فيها.
- بكل سرور، يمكن أن تتركيها لي عند رشيد في المشربة.
- هي معي الآن.
أدخلت يدها توا في صدر فستانها، وأخرجت ورقة مطوية، وناولتني إياها. وضعتها في جيب جاكيتي، وقلت لها إني سأقرأها. ولأنها رأت نظرات ثريا التي كانت تقدح شررا، تحت أضواء الشارع، فقد استدارت نحو الاتجاه المعاكس، وقالت قبل أن تمضي في طريقها:
- نسيت أن أشتري الحليب، خليتكم على خير.
كنت قد تعرفت إلى سلمى خلال نشاط ثقافي بالحي الجامعي، حين اقتربت مني لتعرب لي عن إعجابها بالقصة التي ألقيتها على مسامع الحضور بقاعة المطالعة. لم تكن علاقتي بثريا قد انتسجت بعد، إذ كانت في طور الوجود بالقوة، أتعقبها بنظراتي حيثما صادفتها، ولا أجرؤ على الدنو منها. نسيت أمر سلمى، في غمرة انشغالات اليومي، ولم أتذكرها إلا حين شاءت الصدف أن يكون مقعد جلوسي بإحدى الناقلات مجاورا لمقعدها. كنت مسافرا ليلا إلى مسقط رأسي بأكادير، وكانت قد جلست في مقعدها قبلي. التمست منها أن تسمح لي بالمرور إلى مقعدي بجانب النافذة، فأفسحت لي بابتسامة واسعة. وبمجرد أن استويت جالسا، التفتت نحوي، وخاطبتني بكلمات صريحة: "مرحبا بقصاص الحي الجامعي!". نظرت إليها مندهشا، فذكرتني بنفسها، وطفقت تستعيد موضوع قصتي، كما لو أني قرأتها لتوي. شكرت لها اهتمامها، فأشارت إلى شغفها بالقصة القصيرة، ورغبتها في اجتراحها... راحت الناقلة تنهب المسافات، فيما تشعب الحديث بيننا منتقلا من القصة إلى الدراسة الجامعية والحي وأكادير... أثناء توقف الناقلة ليأخذ الركاب قسطا من الراحة، دعوتها لشرب كأس من الشاي، وواصلنا الحديث. تكفلت تلقائيتها باستمرار انسياب الحديث بيننا، طيلة الرحلة. ودعتها عند محطة تالبرجت، فيما واصلت هي طريقها على متن الناقلة، لتنزل بمحطة إنزگان. نسيت أمرها من جديد، إلى أن التقينا مرة أخرى في طابور مطعم الحي، خلال وجبة العشاء. كنت أقف في الطابور صحبة هشام أدير عيني في كل اتجاه بحثا عن وجه ثريا، ففوجئت بها تقف لتسلم علي ناطقة اسمي. تبادلنا الكلمات المعتادة عن الصحة والأحوال، وودعتني قائلة: "سأراك قريبا، أود أن أطلعك على قصتي الجديدة"، وضحكت قبل أن تنصرف حاملة في يديها ما احتفظت به من وجبة العشاء؛ كوب يوغورت وتفاحة. لم يترك هشام الفرصة تمر من غير أن يداعبني بمقطع من أغنية محمد عبد الوهاب: "بافكر في اللي نسيني، وبا نسى اللي فاكرني!". ثم غدت تنبعث فجأة، وأنا جالس عشية إلى طاولة بالفسحة المحفوفة بالأشجار أقرأ كتابا، أو وأنا أقتعد إحدى أرائك المشربة أفطر وأتابع برامج التلفاز الموضوع فوق منضدة في الطرف الآخر من المشربة، أو وأنا قاعد فوق مقعد مشرف على ساحة الحي. تسألني، بعد السلام والسؤال عن الأحوال، عن رأيي في قصة قدمتها لي من قبل، وتسلمني قصة جديدة. فأستغرق في إبداء ملاحظاتي، وهي تنصت باهتمام وعيناها تكادان تلتهمان وجهي وشفتي بينما أنا أحاول أن أشرح وجهة نظري. ينعطف بنا الحديث إلى آخر ما كتبت أو قرأت من قصص، فأستفيض في الكلام باستمتاع. أعي وهي جالسة بجانبي أنها كأنثى، لا تحرك في دواخلي أي إحساس، بقامتها النحيفة ووجهها الطفولي وشعرها القصير الملتوي وثيابها التي لا يتغير أسلوبها الذكوري أبدا: قميص مزرر ومشمر الكمين إلى حدود المرفق وبنطال دجين أزرق وحذاء رياضي. حديث القصة هو فقط ما كان ينسيني نفسي، فلا أشعر بمضي الوقت وأنا منهمك في نسج خيوطه. كانت تعرف دوما كيف تنصب لي فخ القصة، لأسترسل في محادثتها والجلوس بصحبتها. لكن ظهور هشام، كان ينتشلني من أسر الفخ؛ يلقي علينا التحية، فأتنبه إلى حالي، وأتذكر وصيته الذهبية: "إياك أن تعبث بمشاعر المرأة إن كنت لا ترغب فيها! إنها لا تكتفي بالوقوف عند حدود المعنى الحرفي لما تسمعه أو تراه، بل هي مجبولة على قراءة ما تحت وما بين السطور، وهذا ما يتسبب في سوء التفاهم أحيانا، إذ أنها تتوهم واحة حيث لا يوجد سوى السراب. لذلك اجعل كل شيء مقتضبا كي لا ترهق مشاعرها". طبعا، هشام يستحضر علاقتي بسلمى وهو يسدي إلي وصيته الذهبية. أتظاهر بأني تذكرت عملا ينتظر مني إنجازه، فأودعها من غير أن أشغل نفسي باستكمال الفكرة التي كنت بصدد بسطها على مسمعها قبل أن يقاطعنا هشام. وأحيانا، حين لا يظهر هشام، أنعتق من الفخ بسبب استنفاد الحديث. ترنو إلي لحظة تترقب المزيد أو تأمل أن ألقي بشبكتي في بحرها، كأن أعرض عليها زيارة إحدى المكتبات، أو مشاهدة فيلم بسينما الفن السابع، أو على الأقل شرب قهوة بإحدى المقاهي المطلة على شاطئ البحر. إلا أني أنهض واقفا، كمن قام بواجبه على أحسن وجه، وأمد إليها يدي مودعا فيما تشف عيناها وتعبير وجهها عن جوع لم يشبع. بحزم أضع نهاية لجلستنا، حتى عندما تبادر هي ذاتها بتقديم اقتراح من الاقتراحات السالف ذكرها، بطريقة مغرية؛ تقول لي مثلا: "ماذا لو ذهبنا غدا إلى مقهى النوارس المطلة على نهر أبي رقراق، لتقرأ علي قصتك الجديدة، و..؟". أو تقول: "أتعلم أن إدغار ألان بو في الفن السابع؟ لقد كنت مارة بالقرب من هناك بالأمس، فأدهشني أن أرى ملصق فيلم مقتبس من إحدى قصصه. ماذا لو...". أو تقول: "أود أن تساعدني في اختيار مجموعات قصصية جيدة. ماذا لو قمنا بجولة في مكتبة دار الأمان؟". أخيب ظنها دائما، مفلتا بجلدي، مستحضرا الوصية الذهبية، رغم وعيي بأني مقصر بقوة في تنفيذها. أعتذر، وما أوسع جراب الأشياء التي تسعفني في الاعتذار! فلا تملك إلا أن تذعن. لكنها لا تفتأ تنبعث فجأة، كلما كنت مختليا بنفسي، فتتكرر الوقائع على وتيرة واحدة.
واصلنا سيرنا باتجاه باب الحي، ولم يفتني أن ألحظ ابتسامة زهو ارتسمت على شفتي ثريا، إلا أن ملامح وجهها عادت إلى التقطيب. دلفنا إلى الحي الذي كان ينبض بالحركة، وتمشينا إلى غاية الساحة، حيث توقفت ثريا لتلقي علي تحية الوداع. لم تبذل جهدا لتلافي الجفاف الذي لابس تحيتها، فأحسست بالذنب. قلت لها:
- لا أحب أن نختم جولتنا الرائعة بهذا الغضب الذي يعتمل في دواخلك. ما من سبب يدعوك إلى الغضب يا ثريا.
- دايرها گد راسك، وتقول ما من سبب؟!
- ماذا فعلت؟ لهلا يطيح علينا باطل!
حدقت في لحظة بنظرة نافذة، كما لو أنها تستبر أعماق نفسي، قبل أن تسألني وقد التمعت عيناها بالقلق:
- اصدقني القول أعبد العالي، ما الذي بينك وبين تلك المسمومة؟
لم أتمالك نفسي من الضحك، ورددت عليها:
- إنك تعرفين على وجه اليقين أن ما بيننا لا يتعدى التوجيه؛ هي مجرد مبتدئة في الكتابة، تلتمس مني إبداء ملاحظات حول محاولاتها. لا أقل ولا أكثر.
فعقبت بانفعال:
- بل إني أعرف أن ما تسميه محاولاتها مجرد ذريعة.
خطوت صوب المقعد المستطيل الذي يستوي تحت شجرة مطاط وارفة الظلال بجانب الساحة، وسألتها أن نجلس قليلا لنصفي المسألة. جلست بالقرب مني على خشب المقعد، وأردفت:
- ما لا تعرفه هو أنها مغرمة بك.
- إلى هذا الحد؟
- نعم، أتذكر آخر نشاط ثقافي شاركت فيه بقراءة قصصية؟ لقد كشفت لي، في نهايته، دليل تعلقها بك.
صمتت وهي تدير عينيها في وجهي، كأنما تستقرئ أثر قولها علي. فسألتها عن الدليل، فأجابت:
- لقد انخرطت في امتداح موهبتك، وأخرجت من حقيبة يدها دفترا مجلدا، وأخذت تعرض علي نسخا من قصصك المنشورة، كانت تلصقها بصفحات الدفتر.
فاجأني كلامها، بقدر ما بث في نفسي عزاء: ها هو أخيرا قارئ يبدي اهتماما شغوفا بما أكتب. سألتها:
- أحقا رأيت هذا المجلد؟
- أقسم على ذلك، لم سأكذب عليك؟ أرأيت إلى أي حد هي مغرمة بك؟
- أظنه اهتماما بريئا بقصصي، لا أقل ولا أكثر. أريحي نفسك يا ثريا، ولا تصنعي من الحبة قبة.
أمسكت بيدها، فلم تسحبها كعادتها حين نكون داخل الحي، ولكن مسحة من القلق بقيت تكسو وجهها، فأحسست أنها تحتاج أن أقدم لها تطمينات تبدد شكوكها. قلت:
- ثقي بحدسك يا ثريا، لست ذلك الشخص الذي ينساق خلف أي فتاة تتخذ ما تيسر لها من ذرائع للفوز به، أنا شخص متطلب جدا، وقد أمضيت لحد الآن ما يشارف أربع سنوات بهذا الحي، ولم أنخرط قط في أي علاقة رغم أن فرصا كثيرة أتيحت لي، لكني حين رأيتك، قبل عامين، وراقبتك من بعيد، في أروقة الجامعة، وفي فضاءات الحي، تحرك ذلك الشعور العجيب داخل قلبي، وكلما وقعت عيني عليك اهتزت أعماقي، وقد صبرت على شعوري أشهرا أختبر حقيقته قبل أبدأ في مطاردتك، وأنت قد عايشت فصول قصتنا بعد ذلك...
مضيت أتحدث على هذا النحو، باستغراق، دون أن ألقي بالا لوجود الآخرين، ودون أن أشعر بمرور الوقت. أصغت إلي بشغف، ملتذة بكل كلمة تخرج من بين شفتي، وأخذ قسمات وجهها تلين رويدا رويدا، حتى وجدتني في نهاية حديثي أمام الوجه المشرق بالرضا والنابض بالفرح الذي أحب أن أغرق فيه بوله العاشق.
مجلة فن السرد/ محاكاة
إرسال تعليق
اترك تعليقك هنا
الرجاء تغيير موقع التعليقات في الإعدادات إلى مضمن