فَيْلَسُوفُ
الْكُوخِ الصَّغِير
استوقفني حوارٌ طريفٌ بين عابرين صغيرين يُعلنان هدنةً، ويبدو منذ الوهلة الأولى أنها ملغومة.
قال له وهو يقسم قطعة الشوكولاتة إلى نصفين:
- لو كنت ضربتَني أنت، لم أك لأردّ عليك بالمثل، سأشتكيك لوالدتك، لكي تدوم صداقتنا. أومأ صاحب الشوكولاتة، الأقل حيلة، برأسه موافقا. لم تمر سوى دقائق حتى أحضر الأول أصدقاءه وأبناء عمومته...وانهالوا على الثاني ضربا إلى أن فقد وعيه. كنتُ مقتعدا ركاما مجاورا للواقعة، وعاجزا عن الحركة أو الدفاع، أرى وأسمع فقط !
استفاق زكريا، صاحب الحلوى، بعد دقيقةٍ تقريبا، لم تكن تؤلمه تلك الكدمات والركلات التي تركت أثرها على جسده، بل بكى بحرقة لأن البيت القديم والآيل للسقوط الذي يسكنه، برفقة أبيه وأمه، يقع في أرض تلك العصابة الماكرة ونفوذِها، وليس له إخوة ليدافعوا عنه، كما أنه إذا اشتكى لأبويه سيسمع من دون شك العبارة الشهيرة "واش بغيتيهوم يجريو علينا؟ أتريدهم أن يطردوننا؟".
زكريا تلميذ مُجدّ، يتبوأ مراتب متقدمة في مدرسته، عُرف بذلك في القرية كلّها، ولا سيما عند أصحاب الأرض، الذين ينعَمون بالمال والجاه، من غير أن يظفرَ أبناؤهم بمستوى تعليمي لائق ومُشرّف، مما جعل التفوق في التعليم الذي لا يُحرزونه مصدرَ شعور بالنقص لديهم.
بينما كان زكريا يداعب كرته وحيدا قرب دارهم في يوم من الأيام، التقطت أذناه حوارا بين الجدة (كبيرة تلك العائلة) وابنتها، كانتا تستهزئان وتضحكان بصوت سمِج:
- هل سمعت ابنَهم المغفّل الصغير ماذا قال لأمه؟
-لا، ماذا؟
-ننام لنستيقظ، ثم نستيقظ لننام..لمَ الحياة مملّة هكذا؟
ضحكت الابنة بازدراء ممزوج بحقد دفين حتى كادت أن تبلع لسانَها، وأردفت:
- في الكوخ فيلسوف صغير إذن؟ فأجابتها الجدة:
-على كل حال، لن نطرد أهله من ذلك الكوخ، حتى تكبر ابنتك الكسولة، ونزوّجها للفيلسوف، فالفقراء المقهورون يدْرُسون ويصِلُون إلى أعلى المراتب.
كبُر زكريا وأنهى تعليمه، غادر القريةَ إلى المدينة، اجتاز امتحان التعليم بنجاح وأصبح مُدرّسًا. تعرف على مُدرسة وتقدم لخطبتها، لكن عند أول رجوع إلى القرية، وجد جدران الكوخ قد تحولت إلى ركام ولا أثر لوالديه...تابعت كالعادة ما يجري، مقتعدا الركام، وعاجزا عن الحركة أو الدفاع أو المواساة، أرى وأسمع فقط.
نص مستلّ من المجموعة القصصية "نسخةٌ عاليةُ الجودة" للقاص أحمد شرقي.
مجلة فن السرد | محاكاة
إرسال تعليق