غلاف رواية الهتماء، للكاتب الطاهر لكنيزي |
تنضاف رواية "الهتماء" ل (ريبيرتوار) الأديب المغربي الطاهر لكنيزي الموزع بين الشعر،
والقصة القصيرة ،والقصيرة جدا ، والرواية ، وما يتميز به من غنى وتنوع صادر عن
ملَكة إبداعية اجترحت التجريب والتنويع
لإرساء لبنات صرح أدبي بارز المعالم والميزات.
وهي رواية غزيرة الشخوص ( أكثر من 40 شخصا)، وافرة الوقائع ، متضمنة، عبر
إشارات متفاوتة ، للعديد من الأعلام في مجالات متنوعة ( ابن سيرين ، فرويد ، إدغار
ألان بو ، بودلير ، فيكتور هيجو ، بيكاسو ، لافونتين ، جميل بن معمر ،المتنبي ،
عنترة بن شداد ، ابن تيمية ، الشابي ، الطاهر بن جلون ، ليلى السليماني ، عبد
الرفيع الجواهري ) ، وفي مجال الطرب والغناء ( أم كلثوم ، بوشعيب البيضاوي ،حميد
الزاهر ، عبد الحليم حافظ ، عبد الوهاب الدكالي ، فيروز،جيل جيلالة ،الستاتي ،
محمد الحياني ، عبد الهادي بالخياط )، واستحضار السارد لأسماء لامعة في ميدان
الإبداع الأدبي والغنائي بالخصوص لم يأت وليد الصدفة والاتفاق ، بل لانخراطه في
صلب التجربة الإبداعية ( الكتابة الشعرية والقصصية )، بل إنه يحمل معاناة الكتابة المتغلغلة في حنايا
حسه ،وألياف ذهنه : " إنهم ينسون المخاض الذي يعانيه الكاتب منذ أن تسقط بذرة
النص في ذهنه حتى يصبح جنينا ، وعناء
البحث والتقصي ... وآلام الطلق التي تسبق لحظة الولادة، والحذف والتشذيب ...
" ص126 ،فضلا عن حمله لهاجس الكتابة التي تتلبسه أينما حل وارتحل ، في بحث
دؤوب ، عن مشاهد ملهمة لرسم نواة كتابة جديدة : " كنت تتجول في (السويقة ) لعلك
تلتقط صورة أو حدثا يكون قوام نص شعري أو قصصي ... " ص142 ، في تساوق وتقاطع
مع عشقه للعزف على آلة العود : " لا مؤنس يروق لك في وحدتك إلا عودك أو
القصيدة ... " ص 62 ،ولع أدبي وفني اخترق علاقته ب "مارية" التي شكلت صوتا وازنا في سمفونية حياته،
وحلقة أساسية من حلقات سلسلتها : "
لأرتب البيت ، وأنظفه وأطبخ وأغسل ، وأغني على أنغام عودك..."162 ، بل غدت
جزءا من تفاصيل حياة ملهمة لفعل الكتابة والإبداع : " شعرت أكثر من ذي قبل أن
مارية أصبحت مشهدا من فصول حياتك ... ويكفي أن تشعل رأس الفتيل ، ثم تنفجر القصيدة
لتتدفق حمما حارقة ، أو جداول مترقرقة. "
163، فعلاقة السارد بالكتابة والموسيقى والطرب في تقاطعها بمارية ، ومهنته
كمدرس رسمت معالم ومدخلات عالم موسوم بالانزياح عما هو مألوف من مواضعات وأعراف ، فرغم ظروف العمل
الشاقة والمزرية والمكلفة : " وأنت تحاول تشغيل محرك دراجتك النارية
للعودة إلى المدينة حيث تقطن . بعد جهد مضن منك ومن التلاميذ في تحريك الدواستين
... والكل يدلي بدلوه لمحاولة إصلاح العطب . " ص 5 ، اضطر معها لقضاء الليلة
في سكن يفتقر لأدنى شروط العيش : " كنت تصيخ السمع إلى عويل الريح وهي تحرك
درفات الأبواب غير الثابتة حتى تكاد تنزعها ... أزعجك صرير باب السكن الذي ليس له
قفل ، فثبتته بحجر ثقيل . " ص 6 ،
ليلة تعكس الحياة المزرية للمعلم المنفي في مكان نائي معزول : " اقتربت من
المدرسة الفرعية ، فبدت لك فوق ربوة من الرمال المترامية الأطراف كضريح ولي صالح
... " ص 10 ، فضاء تجترح فيه أفعال دنيئة تدنس فيها حرمة المدرسة
ورمزيتها كما حدث لليلى زميلة السارد :
" نمت بذاكرتك مشاهد من حادث ليلى ، زميلتك القديمة ، ليلة باغتها منحرفون
وهي منكمشة في غرفتها ترتعش من البرد والخوف ، فزرعوا الرعب في قلبها الرهيف،
وبعثروا حديقة عفتها ، وتركوا بروحها الطاهرة جراحا غائرة . بقدر ما كنت تستعيد
شريط مأسا تها كما روته لرجال الدرك ، بقدر ما كان دمك يغلي... " ص 7 ، أمام
هكذا وضع مأساوي لا تتوفرفيه الشروط الدنيا للاشتغال انكب السارد على تصريف إحساسه
الطافح بالمعاناة في الكتابة استجابة لعشق نابع من رحم المحن والمكابدة : "
تذكرت أبيات ميخائيل نعيمة ، ولكن ليس لبيتك سقف من حديد ، ولا ركن من حجر... فأخذت ورقة وقلما لعلك ترسم بالكلمات ما يتمخض
بداخلك من مشاعر في تلك اللحظات... " ص 6 ، حيث تبرز إرادة السارد ، وقدرته
على رفع تحدي سافر يخلصه من ربقة الاستسلام لواقع يثبط الطموح ، ويكبح جماح التطلع في التشبث بعشق الكتابة
والفن ، ورسم أفق يمتد عبر إيقاع لا يخلو من ارتدادات ،وهزات ، وانكفاءات بصحبة
مارية ( الهتماء ) لقب ألصق بها نتيجة حادث تكسر إحدى قواطعها جراء رميها أمها (
الزاهية ) بحذاء كما روت ذلك : " تناولت الزاهية حذاء حمان وقذفته في وجهها ،
فتكسرت إحدى قواطعها . لا ينادونها إلا بالهتماء. " ص 12 ، فملازمتها له
انطلقت أولى شراراتها من مقر عمله داخل حجرة الدرس حيث صدعت ببوح يتغيا كسب عطفه :
" أنا يتيمة فاكفلني ، إن شككت في سلوكي فاسأل عني ، وعن أبي وأجدادي ، لا
تأخذ بما يقال عن أخلاق أمي . " ص 15 ،
لتتطور عبر مسار وسياق حافل بوقائع ومستجدات ساهمت في تشكيل علاقته بها ،
وتحديد رؤيته تجاهها : " أنت لم تنظر إلى مارية يوما كمصدر للمتعة، بل كفتاة
ضحية سلسلة من الاختلالات الاجتماعية... لكن قدرها ساقها إليك ... " ص 63، فقدت
والدها في حادثة سير مروعة مخلفا فراغا عاطفيا لم تعوضه الأم التي ما فتئت تلهث
وراء الصبوات : " إنها مارية ابنة المرحوم العربي الذي توفي في حادثة سير
مروعة . أمها الزاهية ، أجمل نساء القبيلة لكنها فاسقة كفأرة ... " ص 12 ،
فعلاقة مارية بالسارد تأسست على إيقاع انطلق محفوفا بالتوجس والحيطة آل إلى قرار منعها
من الاتصال به : " قررت أن تهددها لو عادت مرة أخرى وفي نفسها نفس الحاجة . "
ص16، قرار لم يصمد أمام إصرارها على طرق باب منزله دون ملل ولا كلل : " توسلت
إليها أن تنساك ،وقلت : ماذا تريدين مني ؟
صدقيني أنا لست ذلك الذي تحلمين به . " ص 22 ،مواصلة التعبير عن نقاء أخلاقها
، وصفاء خصالها : " أقسم بالله إنني طيبة ومؤمنة ، وما كنت بغيا ، بل رميت في
أتون الرذيلة ... ولكن لا أحد يملك مفتاح روحي إلاك. جربني ، وأعدك لن تندم على
قرارك . " ص 65 ، إيقاع اقتحام وحدته اختزلته في طلب صريح ، لم تمل من ترديده
والتصريح به في كل وقت وحين : " لم لا نتزوج ؟ " ص 67، عرض قوبل بصد
ناعم : " ولماذا لا تعودين إلى بيتكم في ( الدوار) حيث الأقارب والأهل ، حتى
يجعل الله لك مخرجا ؟ " ص 67 ، ورغم محاولاته المتكررة للتخلص منها ، وإبعادها عن محيطه إلا أنه من لم
ينج من شرك ألفة نسجت خيوطها بينهما :
" ظننت أن مارية يئست من الحلم والانتظار، وأنها سوف لن تعود ؛ وحتى إذا ما
عادت فلكي تأخذ مالها ، وتختفي ... شعرت بضيق المنزل وكآبته ... لقد تعودت على
الاستئناس بها ، وبصوتها الدافئ . " ص 94 ، فظلت متمسكة به ، مصرة على
ملازمته والعيش رفقته ، وهو ما لم تمل من ترديده ، والتصريح به : " غموضك لا
يزيدني إلا تشبثا بك . فماذا قررت ؟ " ص 65، ورغم عدم تجاوبه مع طلبها
المتكرر، والاستجابة له ، ورغبتها الثابتة في الاقتران به إلا أنها كانت تشغل حيزا
واسعا من تفكيره وإحساسه : " في طريقك إلى العمل كنت تفكر في مارية وأمثالها
. ألسن جميلات ، ودودات ، وديعات ، مطيعات ،
خدومات ، مؤنسات ، مسليات ؟ "
ص 69، جملة من مواصفات وشيم وطدت
عرى وأواصر استئناسه بها ، وإن لم يرق إلى درجة الارتباط بها ، أو مشاركتها الفراش ، مما يفرز نوعا من اللبس والريبة حول
رجولته : " وقفت مارية أمامك وقالت : أنا روضة تطفح كل فصل بالأزهار العطرة ،
والأشجار المثمرة . ثم أضافت وهي تشير إلى أعضاء من جسدها المنحوت كآلهة الرومان :
تَمَلَّ الورود والتفاح ... وعناقيد العنب ... "ص 156 ،مما يطرح أسئلة محيرة
إزاء محافظته على نفس المسافة بينهما ، مما حذا بها إلى اجتراح عتبة المسكوت عنه :
" فاجأتك مرة أخرى ... بسؤال خلخل كينونتك : ـ هل أنت رجل ؟ ... ـ وهل تشكين
في ذلك ؟ ...ـ فكم سنة وأنا أعرفك ، وكم ليلة بتها في بيتك وكأنك بعيد عني ...
" ص 172 ،سيل من أسئلة زعزع المسافة التي ظلت منتصبة بينهما : "ـ هل سبق
لك أن زنيت ؟ ـ كثيرا ، ومازلت." ص 172 ، بغية اكتشاف حقائق ظلت حبيسة الطي
والكتمان : " من ؟ ومع من ؟ وهل هن جميلات ؟ وما الذي تجد فيهن ؟ وتفتقده في
؟ "ص173،مكتسحة ضفاف مقارنة ترتبط بأنوثتها الطافحة فتنة وإغراء . ولينفي
السارد ما يمكن أن يخامر المتلقي من ريبة حول علاقته بالأنثى خلال الحاجز الذي
وضعه بينه وبين مارية التي عاشرته ردحا طويلا، ولم تفلح إغراءاتها في فك شفرة عزوفه عن مقاسمتها الفراش
: " اتخذني كيفما يطيب لك : خادمة ، أختا ، صاحبة ، قريبة ن لا يهم ...
" ص 64، ليستعيد ذكريات عاطفية قديمة
جمعته ب( ضحى ) في مرحلة المراهقة : " وأنت تحاول اكتناه شعورك رفقة فتاة
لأول مرة في مرحلة المراهقة . فجأة سألتك إن كنت تحبها ... لم تستطع أن تجزم في
الأمر ، فرجوتها أن تعفيك من الجواب وتترك الأمر لفرصة أخرى ." ص199 ، علاقة
سرعان ما أجهضت بسبب تقرب والدتها ( صفية ) منه مما أثار شكوكها فقررت قطع علاقتها
به دون إدراكها لحقيقة كانت ستصدمها وزوج
أمها ( قاسم ) ،وكانت ستتمخض عن تبعات وخيمة . ورغم ذلك فقد تعرض لاعتداء جسدي من
طرف شبان الحي الذين اعتقدوا تحرشه بضحى ،سلوك تكرر مع قاسم زوج صفية الذي كال له
ضربا مبرحا مما عجل برحيله عن المدينة التي قصدها لإكمال تعليمه الثانوي وإقامته
في غرفة اكتراها بسطح منزل عاش فيه أول تجربة عشق جمعته ب ( ضحى )، فهجر المدينة
مكرها إثر حادث شنيع ُأوِّل فهمه بشكل
خاطئ .
وإذا كانت علاقة السارد ومارية هي الطاغية على مجريات الرواية ووقائعها فإن
هناك أحداثا أخرى تتمحور في جل أطوارها حول ما تتعرض له الأنثى من سلوكيات تتوزع
بين التحرش ن والتعنيف والاعتداء الجسديين ، والاستغلال الجنسي في أبشع صوره
وتجلياته ؛ بدءا بمارية التي أسرت ذات بوح للسارد بذلك بعد أن تعتعها السكر: " أشرب لأنسى
الزاهية التي أهملتني لأحزاني ، وارتمت في حضن خليلها ، بعد أسابيع قليلة من موت
والدي . " ص 57 ،وما داخلها من لوعة وأسى حين تخلى عنها عزيز بعد أن غرر بها ن
ونال من شرفها : " جذبت شعره وأنا أصرخ : لقد سرقت شرفي . " ص 51 ، صدمة
كان لها كثير الوقع والأثر على نفسها حين اكتشفت الحقيقة المرة بعد أن استعادت
وعيها : " فصحوت من سكري ، وشرعت أصفعه وأصرخ . " ص 51، والعبدية التي
تعرضت لاعتداءات المكي السكير : " كلما أرسلتها أمها عنده لغرض ما ، أدخلها
خلف الثلاجات في الدكان ، وفعل بها ما لا يفعله إبليس مع بني جلدته ... تتألم ،
وتبكي كثيرا في صمت ... " ص 53، ليستمر مسلسل الاغتصاب بشكل أكثر وحشية :
" أزال كل ثيابي وأنا أرتعش كعصفورة بين مخالب قط ... اختنقت وتأ لمت كثيرا
...لما قضى مني وطره أدخلني إلى الحمام ... " ص 54 ، ثم سعيدة الهلالية التي
كانت تلميذة مجدة تحلم بأن تصبح طبيبة ، أو مهندسة ، أو أستاذة جامعية : "
أراني مرة مهندسة ، ومرة طبيبة ،وأخرى أستاذة في إحدى الجامعات في دولة أخرى .
" ص 97 ،لتتبخر أحلامها وتذروها رياح مصادفة سيئة غيرت مجرى حياتها ، وزجت
بها في مستنقع الرذيلة والضياع حين اعترض سبيلها شابان جانحان فاغتصباها: "
بقيت مذهولة جراء تمريغ عرضي ،وأنا أنظر إلى دفتر الرياضيات الذي شهد على ذبحي مع
الترصد وسبق الإصرار. " ص 98 ، مما نتج عنه حمل قادها لتعيش رفقة طفلتها (
هاجر) في ماخور البيضاوية إلى أن غيرت مجرى حياتها بهجرتها إلى فرنسا بعد عرض من لطيفة، وهي أستاذة
جامعية انفصلت عن زوجها الفرنسي ، وترغب
فيمن يؤنس وحدتها ، ولما وجدت صعوبة في التوفيق بين عملها وتربية الطفلة اقترحت
على سعيدة الهجرة إلى فرنسا شريطة توقيع عقد عمل يقضي بتربية هاجر ، والقيام
بالأشغال المنزلية . عرض قبلته رغم ما يكتنفه من مشاعر تمس أمومتها . و تنضاف راضية إلى قائمة الضحايا بعدما تعرضت له من
اغتصاب من طرف ميلود أبى معه والدها إلا أن ينزل عليها أقسى عقاب :
" بعدما غرر بي ميلود ، وشبت فضيحتي في ( الدوار ) ، حبسني والدي ليلة كاملة
وهو يجلدني في ركن غرفة ضيقة . " ص
131، مسلسل اغتصاب لم يتوقف نزيفه : " توالت سهراتهم الليلية ، وكل ليلة
ينفرد بي أحدهم على التوالي ، حتى أصبحت منهوكة الجسد ، خائرة القوى ، مشتتة الذهن
، وفاقدة الإرادة ... أستحضر خطئي القاتل ، وأردد كالمجنونة : كان علي أن ... ما
كان علي أن .. " ص 140، فظلت حبيسة معاناة متعددة الكوابيس ، فظيعة الرؤى :
" أحيانا تنهض بالليل وهي تصرخ : يكفي ، يكفي ! ارحموني ، سأموت !" ص139 ، فينتهي بها المآل إلى ماخور
البيضاوية : " لقد وجدت في الحقيقة
ملجأ آمنا عند البيضاوية بعد ما رفض الأهل احتضاني . أصبحت لي أخوات يشاركنني
همومي وأحزاني .. " ص 151 ، وما تفتأ حكاية السارد الذي عانى ، هو الآخر ، من اختلالات أسرية ظلت موشومة
بذاكرته ، راسخة في وجدانه من خلا ل علاقته بوالده الذي لم يتعرف عليه، ولم يتواصل
معه مما حرمه من مشاعر الأب وعطفه :
" أما أنت فلم تتح لك الفرصة أبدا ،أثناء حديثك أن تقول أبي، ولا والدي ، ولا
عبد الله. " ص 145، معاناة أرخت
بكلكلها على أمه التي تخلى عنها والده
الجاني ، وانسل بعد أن حشرها في زاوية ضيقة لتكابد من تداعيات وضعية ذات تبعات
قيمية ، واجتماعية : " ربما قد حملتك أمك كثيرا إليه وأنت صبي ، لتقنعه
بالاعتراف ببنوتك . قد تكون قد استعطفته كثيرا ... لا تذكر شيئا من ملامحه إلا ما
التقطته في حديثها إلى بعض صديقاتها.
" 146.
فوفرة مكونات الرواية السردية ، وتعددها يُصعِّب من مقاربتها بشكل كافي
ومستفيض لنخلص إلى الاكتفاء بأبرز سماتها الإبداعية المتمثلة في العلاقة التي جمعت
السارد بمارية ، وما شابها من استشكالات اختزلتها المسافة التي وضعها بينهما ، ولم
تنجح إغراءاتها الصريحة والمضمرة في محوها
وإزالتها، بلغت درجة إثبات رجولته من خلال معاشرته لأخريات خارج دائرة الزواج ، أو
تجربته العاطفية مع ضحى في مرحلة المراهقة . علاقة تنتظم إيقاع الرواية السردي ،
وما طبعه من نمو وتطور عبر سيرورة مقومات
وعناصر حكي من وقائع ، وشخوص ، وحوار ... حضر بشكل بارز في مسار مارية ، عبر مراحل
حياة بمآسي مؤثرة ؛ من اغتصاب ، وضياع ... فشقت طريقها ، بعزم ، وكد ، وجلد وإرادة
لترقى إلى وضعية اجتماعية يعمها اليسر والرفاه بامتلاكها لبيت ومطعم : " يظن
بعض من لا يعرفون مارية ، أنها ولدت وفي فمها ملعقة من ذهب ، أو أنها ورثت ثروة عن
والديها ... أنت نفسك تعجب من الثروة التي راكمتها ، والشهرة التي نالتها خلال
سنوات قليلة ، وتنسى ،رغم معرفتك بها عن قرب ، أن وراء ذلك مسيرة طويلة متعرجة
مليئة بالأشواك... " ص 185 ، فتتوج مسارها الوجودي الاستثنائي بأداء فريضة
الحج . إيقاع سردي تمثل، باطراد وانتظام ، في شخص مارية التي نسجت خيوط علاقة
مختلفة مع السارد والذي لم يتوان في
التصريح بذلك : " ربما كان الذي عشتماه إحدى درجات الحب السامي . " ص
216، كما تقاسمت معه عملية الحكي حين انبرت لتروي ما عاشته رفيقاتها بالماخور من
أحداث كمريم العبدية ،وبديعة البيضاوية وسعيدة الهلالية ،وراضية مما كسر هيمنة
السارد على إيقاع السرد ، وإدارة دفة الحكي .
وإذا كانت علاقة السارد بمارية استنفدت جل فصول الرواية ، وتغلغلت في أغلب
تفاصيلها فهناك جوانب أخرى حفلت بها ثناياها ؛ كالجانب الاجتماعي الذي تلقي فيه التكاليف
المادية بثقلها وإكراهاتها على الأسر المعوزة
أمام ما يعترضها من صعوبات في تدبير متطلبات حياتها : " قال أحدهم وهو
يتأفف: العطلة الصيفية، وعيد الأضحى ، والدخول المدرسي ، فأين يولي وجهه من له
دزينة من الأطفال مثلي ؟ "ص 192 ، والعمل الحزبي والنقابي الذي يتخذ
منه بعض الأفراد من الفئة المتنورة
موقفا موسوما بالعزوف والمقاطعة : " لا صوت لك في أية نقابة أو حزب ،أنت صوت
مفترض لكل النقابات والأحزاب ولو أنك لم
تلج أبدا مكاتب التصويت." ص 152 ، والديني في مقاربة مايعج به المجتمع من مفارقات
قيمية يغيب فيها الوازع الأخلاقي في مرجعايته الشرعية المعروفة : " وما
الفرق بين الحلال والحرام ؟ الحلال هو ما أحله الله ،والحرام غير ذلك . " ص
170 ، وتميز أيضا المتن الروائي بلغة مجازية ذات حمولات جمالية وتعبيرية : "
وبعثروا حديقة عفتها ... وفرخ الخوف في دواخلك، ونبحت بفكرك عدة أسئلة .
" ص 7،لم تخل من تشبيه دال ومعبر :
" تطل عليك كفجر ينير زوايا خرائب روحك المعتمة . " ص 196 .
فرواية " الهتماء " منجز إبداعي داخل إيقاع سردي مطبوع بميزات
يطبعها التجديد والتجريب مما يستدعي عدة مقاربات للكشف عن عناصرها الفنية ، وأبعادها
الجمالية والرمزية في تعدد آفاقها،وتنوع مسلكياتها ، وعمق معانيها ودلالاتها .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــ الكتاب : الهتماء ( رواية )
ــ الكاتب : الطاهر لكنيزي
ـ مطبعة بلال / فاس ( 2022)
إرسال تعليق
اترك تعليقك هنا
الرجاء تغيير موقع التعليقات في الإعدادات إلى مضمن