الكاتب جمال جبور |
قراءة في المجموعة القصصية «عوالم شفافة» لأحمد شرقي
عوالم شفافة.. نوافذ الواقع المشرعة
صدرت عن جامعة
المبدعين المغاربة، سنة 2019، الطبعة الأولى للمجموعة القصصية «عوالم شفافة» للقاص
الشاب أحمد شرقي، والتي ضمن فيها تجربة عشر سنوات من الكتابة والبحث في عوالم
السرد.
المزج بين
القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا أو الومضة، هي أهم سمة يطالعنا بها هذا المنجز
السردي المدون في 88 صفحة من القطع المتوسط، الشيء الذي يدعونا
لطرح سؤال جوهري وملح، مفاده ما هو الداعي لهذا المزج بين جنسين أدبيين في متن
واحد؟
ينبغي الإشارة
إلى أن مختلف الأجناس الأدبية باتت متداخلة فيما بينها ومكملة لبعضها البعض، غير
أن الكاتب ابتدع شيئا مغايرا لما هو مألوف -مع العلم أن الجمع بين أكثر من جنس
أدبي أصبح رائجا في الآونة الأخيرة- إذ عمد إلى صياغة نصوص ومضية مكملة من حيث
الموضوع للقصص التي تسبقها وتفتح النص على تأويلات وآفاق أكثر رحابة، وهي التقنية
المستمدة من الفن التشكيلي لما بعد الحداثة، إذ أضحى الرسام يتجاوز إطار اللوحة
وباتت أفكاره تتحرك إلى ما هو أبعد من سطحها (اللوحة) دون المساس بالمضمون المراد
إيصاله والتعبير عنه وتقديمه في صورة فنية وجمالية.
عوالم شفافة هو الاسم الذي ارتضاه الكاتب عنوانا لمجموعته القصصية، والذي يحيلنا إلى أن أحمد شرقي هدف من خلال العنوان إلى تقديم نظرة شمولية حول العوالم المراد رصد تحولاتها وتقديمها على شكل سرود مستمدة من عمق الواقع المعيش، هذا فيما يخص الشطر الأول من العنوان، أما فيما يهم الجزء الثاني «شفافة» فيقصد به الكاتب العوالم الواضحة والملموسة التي تتعايش فيها شخصيات النصوص المسرودة.
اللغة:
لقد اعتمد أحمد شرقي على لغة رصينة بسيطة - وهذا هو مكمن قوتها- حملها أفكاره وتصوراته، عن طريق شحنها بمجموعة من المعاني والدلالات، تستوجب من القارئ والمتلقي تشفيرها وتتبع حبكة القصص التي صيغت بشكل فني جمالي.
السرد:
كسر أفق
الانتظار هي أهم ميزة نلحظها في نصوص المجموعة، وهي تقنية أريد بها خلق نوع من
التشويق وإثارة انتباه المتلقي، قصد تتبع الأحداث ومعرفة مآلات الشخصيات المحكي
عنها.
لقد اعتمد على هذه التقنية في مجموعة من القصص، لعل أبرزها على سبيل
المثال- لا الحصر- «نافذة» ص 9-11، والتي تتحدث عن طفل مقعد لا يفارق نافذته التي هي متنفسه
الوحيد على العالم الخارجي، إذ يبتدئها الكاتب بقوله: «تتدفق عتمة لجوج داخل
غرفتي… أتابع المشهد دون أن أحرك ساكنا» ص 11، ومختتما إياها بالكشف عن مجرى
الأحداث قائلا: «منهزما أدفع عجلات كرسي المتحرك إلى الخلف
عائدا إلى ركن بعيد قليلا عن النافذة، قريب من باب الغرفة.» ص 11.
هذه التقنية
نجدها ماثلة أيضا في قصة «كرسي الاعتراف» والتي ينقلنا فيها القاص إلى صالون حلاقة
تدور فيه نقاشات بين الزبناء والحلاق «يوسف»، حيث قال أحمد شرقي في بداية نصه:
«حين قصدت يوسف لم أكن أتوقع أن المرآة ستعاندني، وتعكس لي نفس الوجوه، للأسبوع
الرابع تواليا.» ص 23، ومختتما إياه بقوله: «…وأردف تدخله بضحكة لطيفة، منهيا
معها إجراء لمساته الأخيرة على رأسي.» ص 26
لقد أعطت تقنية كسر أفق الانتظار لمجموعة من القصص وهجا وألقا، يدفع القارئ إلى الاسترسال في قراءتها وبلوغ الهدف الذي رامه القاص، والذي لا يتأتى إلا عن طريق تتبع مسارات ومصائر الشخصيات.
بناء الأمكنة:
يبدو عنصر المكان أهم مكون تثبته مجموعة «عوالم شفافة». فالكاتب يومئ، من خلال العنوان، بإشارة إلى أهمية الفضاءات التي تتفاعل فيها العوالم وشحنها بشبكة من الدلالات. فالمكان في قصص المجموعة ليس مجرد فضاء تدور فيه الأحداث، وتتصارع داخله الشخصيات معبرة عن مكنوناتها وما يراد منها انطلاقا مما تتطلبه بنية السرد وحبكته، بل هو جزء لا يتجزأ من العملية السردية.
لقد عنون الكاتب مجموعة من القصص بأسماء الفضاءات التي تدور فيها الأحداث والتي غطت في بعض الأحيان على الشخصيات، إذ نذكر منها على سبيل المثال قصص: «قاعة الانتصار»، «مدينة المنظرين…»
الشخصيات:
باعتبارها
مكونا أساسيا من مكون السرد، والتي يتم عبرها إيصال مجموعة من الأفكار وعرض
الأحداث، والمساهمة في تطور الحبكة، عمد أحمد شرقي إلى وضع شخصيات مشاركة بشكل
مباشر في الأحداث، وأخرى ثانوية تمت الإشارة إليها كتكملة للمشاهد السردية المراد
التعبير عنها.
ففي قصة «قاعة
الانتصار» تطالعنا شخصيتا المريضين اللذين ارتادا عيادة طبيبة الأسنان، حيث دار
بينهما الحوار التالي:
« - أنت اليوم ستريحك الطبيبة من ضرس
مريض أم ماذا يا…؟
استمر في خطته
مجيبا على الجزء الذي انتقى:
- سمير، اسمي سمير وأنت؟
أطلت مساعدة
الطبيبة علينا ببذلتها البيضاء منادية: عبد الله، لقد حان دورك تفضل!».
لقد انتصر أحمد
شرقي في مجموعته الواقعة في 88 صفحة لشخصيات مسحوقة ومهمشة (الحلاق- المقعد- طالب
العلم- المرأة المكافحة) تعاني من أجل فرض الذات، ومجابهة العراقيل في واقع لا
يرحم ولا يضمن البقاء إلا للأقوى ولصاحب النفس الطويل.
خاتمة:
إن مجموعة
«عوالم شفافة» لهي بشكل من الأشكال انتصار واحتفاء باللغة البسيطة الموحية، التي
توسل بها الكاتب لإيصال الأفكار والقضايا التي يؤمن بجدواها- على غرار سلفه من المبدعين الذين حملوا على عاتقهم هم بناء الفكر
والمعرفة وتنوير النشء-
وصاغها بشكل
فني بديع.
فالقصة، حسب
أحمد شرقي هي تلك النافذة المشرعة التي تمكن الأديب- أيا كان توجهه- من رصد
التحولات والتطورات التي تعتمل داخل المجتمعات بمختلف تجلياتها، وكذا الإنصات إلى
نبضها، عن طريق تحويلها إلى نصوص تنطلق من الواقع لتصيغه بشكل فني بديع.
ولا أدل على ذلك ما أورده القاص المغربي أنيس الرافعي في توصيفه وقراءته لهذا المتن، إذ قال: " في هذه الإضمامة الجميلة، مبنى ومعنى، ثمة سطح وعمق. ثمة عمق مسطح وثمة سطح عميق. ثمة فن حقيقي يستحق أن يكتشف من لدن القارئ الشغوف بطفلة الأدب المشاغبة".
مجلة فن السرد/ قراءات ودراسات
إرسال تعليق