المبدع مصطفى ملح |
الأفعوانية
المطريّة تغطّينا معا.
معطفها الشّتويّ الأبيض مثل فرو دبّ قطبيّ. كانت يداها الصّغيرتان الخائفتان
مكوّمتين داخل يديّ. خليط كيميائيّ من الخوف والرّعشة والبرد والدّفء والغموض. في
طريقنا مررنا بالسّرك. الخيول والقردة والسّحرة واليانصيب والقفز على الحبال..
والأفعوانيّة المخيفة فاتحة ألسنتها الحديديّة..
أصرّتْ على ركوب الأفعوانيّة كما لو كانت في
حاجة إلى القضاء على مخاوفها دفعة واحدة. التّفكير في صرع الخصم بالضّربة القاضية
يتطلّب شجاعة تشبه التّهوّر، وكل تقاعس وتراجع هو إعطاء فرصة للخصم لإعادة تنظيم
صفوفه.
- هل
أنت متأكّدة؟
-
أجل.. أريد ركوب الرّيح..
-
ألا تخشين الدّوار وصداع الرّأس؟
-
أنت معي.. لن أخشى شيئا!
- طيّب..
لنحلّق عاليا..
وتذكّرتُ أباها في أوّل لقاء: ”ما اسمك يا بنيّ؟ كم عمرك؟ هل تشتغل؟“. كنتُ
أدور وأرقص مثل درويش يضع عمامة مستطيلة والنّاس يتأوّهون من حوله. وشربنا الشّاي
والحلوى فتغيّر إيقاع الحديث: ”هل أنت من أنصار الرّجاء أم الوداد؟ أم ريالي أم
بارصاوي؟“. أيّها الشّيخ ذو الوجه الصّغير والعينين الغائرتين والأنف الدّقيق
الطّويل كمطرقة. أيّها القرد المسخ. يا صهري العجوز. لستُ كما تخمّنُ. أنا عاشق
لابنتك. مغرم بكتلة اللّحم التي تدّعي الحياء وتجلس بمقربة منك كأنّها تمثال حجريّ
قديم. وأحسست أنّني أدوخ. كؤوس الشّاي تتحرّك فوق الصّينيّة، السّتائر تتشاجر مع
الرّياح، الأفعوانية تصعد بي إلى الأعلى، حماتي تسكب الشّاي من جديد، هل أقول لها
لست عطِشا ولا جائعا؟ أمدّ يدي إلى الكأس فيصدّها الحاجز الحديديّ المنسوج على شكل
قضبان متعامدة، أتمنّى أن أصرخ لكنّ الغرفة ضيّقة ولن تسمعني الطّيور..
هذه
المرأة التي أمامي صارت زوجتي. أشعر أنّ كلينا بيع بثمن بخس. من البائع ومن
المشتري ومن السّمسار اللّعين؟ نتقدّم بخطوات مرتجفة نحو الجدار الفولاذيّ.
تذكرتان في اليد. نسحب الحزام الصّلد ونصنع متّسعا لجسدينا ونجلس. نمرّر حزاما
جلديّا على أضلاعنا فنصير كتلة لحميّة متماسكة. وينطلق الصّفير معلنا عن انطلاق
اللّعبة المدوّخة..
ومنذ أشهر فقط، في قاعة العدول، كانت العيون تطوّقنا، هنيئا لكما بعشّ
الزّوجيّة. وكنت أرتعد في الدّاخل. أيمكن أن أُقيم داخل عشّ؟ ما رأيتُ دوريّا قطّ
يعيش داخل عشّ في حجم سنتمترات ويترك الفضاء الطّلق الرّحب. ويقول آخر. كن خلوقا،
كن مسؤولا فأنت في طور البناء. ماذا أبني؟ قبيلة؟ دولة؟ امبراطوريّة؟ كلاّ..
الأسرة! في السّرير المشترك نصنع الحبّ، الحبّ يتحوّل إلى انتفاخ في البطن،
الانتفاخ يتحرّك ويتشكّل جنينا، وهكذا أنجح -أنا البنّاء العبقريّ- في بناء أسرة. وقال
العدل: ”زوجتك جنّتك!“. فهمتُ الرّسالة. لأفوز بالجنّة يجب عليّ دفعُ ثمن باهظ
لصكوك الغفران. وقلت أخاطب العدل في نفسي. ”هي جنّتي، وأنت جحيمي أيّها
البهلوان!“. وقّعنا ودفعنا المستحقّات، وقالت حماتي: ”هي لك الآن، خذ الوديعة، وكن بها رحيما“.
حملتُ الوديعة وانغرسنا في مقهى بوسط المدينة. الأزهار لم تكن ذابلة ولكنّ أنفاس
الهواء كانت جافّة ومقرفة. وكان السّكّر يقاوم الماء السّاخن ثمّ يستسلم ويذوب في
القاع. أشياء كثيرة كانت تذوب في القاع. لماذا أشعر بأنّني دخلت قفصا أصغر من
معطفي وقميصي؟ كانت الفتاة تبتسم وتقبض على راحتي بقوة تكاد تتحوّل إلى عنف كأنّها
تتمرّن على بداية إدخالي في القفص. أحاول أن أُربك تمرينها قليلا، أحاول الطّيران
مثل أيّ دوريّ اعتاد على الطّبيعة والهواء وسماء الله، لكنّ يدها كانت أقوى من
إرادة دوريّ صغير، وتمنّيت لو أنّها وسّعت القفص قليلا لأستطيع أن أمدّ رجليّ
اللتين تنمّلتا بسبب الضّيق، تمنيّت أيضا أن أحلم لكنّ القفص لم يكن يسع الخيال..
المطريّة في الأسفل. الصّفير يزداد. العلب
الحديديّة تدور وتنزلق صعودا فهبوطا فيمينا فشمالا. يزداد الدّوران سرعة متّخذا
مسارات حلزونيّة. جسمها الضّامر يولجُ في جسمي. جسمي يأكل جسمها. يتساقط من كلينا
عرق وخوف ورغبة. نسمع صراخا صادرا من العلب الحديديّة. نتساءل: ”هل هو صراخ
الآخرين أم صراخنا نحن؟“. كان صعبا التّمييز بين الأنا والآخر داخل هذه الدّوّامة.
صعب انتشال الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفوضى. ونتأرجح ونضحك ونبكي ونموت
ونحيا ونبعث ونسقط ونقوم..
وقبل عام كنت
ظلّها الصّغير. وجهها القمحيّ وردفاها المعتدلان وابتسامتها التي تشبه حقلا من
الإجاصّ..
-
أحبّك!
-
هكذا.. بدون مقدّمة ولا استهلال!
-
عيناك البحر وأنا الغريق!
-
هل تشعر بالحمّى؟!
-
منذ رأيتك وأنا محموم.. ضعي يدك على خدّي..
درجة حرارتي مرتفعة.. الكلّ والجزء يرتعشان..
-
نحن جيران.. ما كان لتصنع بي هذا؟
-
وماذا صنعت.. أنت الوردة العطشى وأنا الغدير
العاشق المنسكب بين يديك!
-
ألم تعد غريقا أيّها الغدير؟!
وتكرّرت اللّقاءات،
وعرفت أسرتها، وكانت الخطبة، وكان الزّفاف، ومرّت الأسابيع، وتذكّرت الفقيه في
الكتّاب، وكانت العصيّ كثيرة ومختلفة الأحجام حسب أماكن جلوس الأطفال، وكانت العصا
خاصّتي ساق أوكالبتوس نُجرت بمهارة، وكان جسدي يتلقّى العقاب صامتا، وعيناي
تدمعان، والفقيه يستزيد ولا يملّ، والجسد يتحمّل، والعصا مثل الدّنيا لا تقنع،
والجسد يتألّم، والرّأس يدور، والأسلاك الفولاذيّة تتشابك، والرّيح تلعب
بالأفعوانيّة، وأنا أدوخ، والفقيه لا يرحمني، والدّوار يخدّر مفاصلي فأسقط على
الأرض..
توقّف المطر
عن النّزيف، واستعادت الرّياح رشدها، وصفّرت الآلات من جديد معلنة عن نهاية
الرّحلة الهوائيّة، وتوقّفت الأفعوانيّة أخيرا، ونزعنا الأحزمة الجلديّة التي كانت
تطوّق الأبدان المستكينة، ونزلنا نتعثّر في مشينا بفعل آثار الخدر والخوف. حملت
مطريّتها. معطفها الشّتويّ الأبيض مثل فرو دبّ قطبيّ على كتفيها. مدّت يديها نحو
يديّ. كانتا باردتين مثل مومياءين فرعونيّتين. لم تكن مبتسمة. كانت الطّريق طويلة
والأشجار عالية مثل سكاكين سورياليّة مغروسة في الشّارع. شيء ما يهبّ. لست أدري
أيهبّ في الخارج أم في الدّاخل أم في كليهما. الواقع والعقل متقاربان إلى درجة
البعد ومتباعدان إلى درجة القرب، وكان العالم من حولنا يدور ويدور والرّيح تجذب
الأشياء السّليمة والمكسورة، وكنّا نقترب من بعضنا أكثر لنحمي أحلامنا من
القراصنة. كان القفص ضيّقا. هل فاتني أن تكون السّماء وطني؟ هل فاتني أن أكون
دوريّا؟
مجلة فن السرد
إرسال تعليق