فَـــنُّ السَّــــرْد

منبـر أدبـي ثقافي

recent

آخر المقالات

recent
recent
جاري التحميل ...

القطار لا يعود مرتين I مصطفى ملح

 

مجلة فن السرد
الكاتب مصطفى ملح


  القطار لا يعود مرتين


    صرخ الجميع: ”يا للهول!“. وتسابقوا لرؤية الكارثة عن قرب. وانتشلوا جثّة المرأة من بين قضبان سكّة الحديد. كانت رائحة القطران والحنّاء حادّة. وقال شاهد عيان: ”المجنونة رمت نفسها إلى الموت. منذ حادث الحقل أصيب عقلها“. وقبل شهر وقف قطار في المحطّة الثّانية، وقُتل الرّجل في الجهة المقابلة للحقول، وواصل القطار، وفي المحطّة الثّالثة وقف مجدّدا، ونزل الثّلاثة وأختهم الملثّمة لدفن أبيهم.

-        قف مكانك.. لا تتحرّك!

-        لا تطلقا النّار..


    لكنّ الرّجلين كانا مصمّمين. الأوّل تجاوز الخمسين بقليل، فقد نصف أسنانه، وتدلّت شعيرات لحيته بشكل عشوائيّ. والثّاني بالكاد يبلغ الثّلاثين. انطلقت من البندقيّة ثلاث رصاصات واستقرّت في الجسد. ترنّح، شهق، سقط. الرّجل الكهل جرّ ابن أخيه من ردائه واختفيا في الحقول. القطار على وشك المغادرة، فحيح العجلات وأنين السّكّة والهواء السّاخن يلفح الوجوه.


    قبل ساعة كان في المحطّة الأولى، حقائب هنا وهناك، ودكّان الموادّ الغذائيّة وعلب السّجائر في الواجهة، والزّجاج يمتصّ الأشعّة. والرّجل فرّ من الموت واتّجه نحو المحطّة. لم يحمل معه سوى بعض المال كدّسه إلى جانب مخاوفه. وتساءل: ”هل علم أهلها بالأمر؟“. في المقصورة جلس إلى جانب ثلاثة رجال وامرأة ملثّمة تحمل قفّة بها بيض وديك لم يتوقّف عن الصّياح. كان يلتفت ويخفق قلبه عند أيّ حركة متوقّعا أن يُفتح باب المقصورة فيدخل الموت. وسأل الرّجال عن وجهتهم. ”في المحطّة الثّالثة، هناك يُقيم أبونا..“. ”إذن أنتم أبناؤه تقومون بزيارته“. وانفجرت المرأة بالبكاء، وتبعها الرّجال كأنّما انتقلت العدوى إليهم. وازداد الرّجل حذرا وترقّبا. وقال أحد الثّلاثة بعدما مسح دموعه بجلبابه: ”أبونا رحمة الله عليه.. نحن ذاهبون لدفنه“. ولطمت المرأة خدّيها، وارتفع عويلها. وفي المحطّة الثّانية توقّف القطار ونزل الجميع، وقبل أن يغادر هاجمه الشّابّ والكهل الذي أفرغ في صدره ثلاث رصاصات واختفيا في الحقول.


    والقطار يمشي في اتّجاه المحطّة الثّالثة، لكن قبل ساعتين كان الحقل صامتا إلا من خشخشة الأعشاب وحركات الحشرات الصّغيرة. قالت له البنت: ”أمّي تحرجني كثيرا.. متى نتزوّج؟“. دنا منها فأسكره عطرها الرّخيص الممزوج بالحنّاء والقطران. ”قريبا نتزوّج.. سأخطبك بعد أسبوع“. وسرت في بدنه نداءات الرّغبة المتوحّشة، وشمّ رائحة التّراب والثّوب والحقل والصّمت، وامتدّت يداه الظّمآنتان تنقّبان عن غدير ما، وامتنعت الفتاة بذعر مصطنع، فاستشاط حبّا، واقتلع الجذور، ومزّق بأسنانه الأقفاص، ولم يدرِ إلا وهو يسمع الصّرخة. أكانت صرخة لذّة أم صرخة ألم. وذهبت البكارة مع الرّيح، ولملمت الفتاة أسمالها وغطّت عريها ودمها بصمت الحقل، وانهمرت تبكي مثل غيمة. ”لا تخافي.. سأعود.. أسبوع واحد وتصيرين زوجتي.. سأدرك القطار.. سأعود قريبا..“.


    وفي المحطّة الأولى كان خائفا. الدّقائق لا تريد أن تمرّ. زجاج الواجهات الذي كان يمتصّ الشّعاع صار يمتصّه هو. ويُقرع الجرس ويقف القطار كما لو كان دينصورا حديديّا ضخما. وصعد. كان يرتعش مثل ريشة، ويعرق مثل غيمة، وأسنانه تصطكّ مثل مزلاج قديم. ”هل رآني أحد؟ لا يمكن أن يراني أحد. القطار سريع، حتّى الشّيطان لن يدركني!“. ولم تكن المقاعد شاغرة، وسار بين الأروقة والصّفوف والمقصورات، ولم يجد موطئ قدم، واستقرّ به الحال إلى مقصورة أخيرة، فدسّ جسده بين ثلاثة رجال وامرأة ملثّمة. وسمح لبدنه بالسّكينة المؤقّتة رغم صياح الدّيك. وتمنّى لو كشفت المرأة نقابها، فخُيّل إليه أنّه غفا غفوة صغيرة، فخلعت المرأة نقابها، فرأى الدّم ورائحة الحقل والبكارة التي ذهبت مع الرّيح، ونظر في أوجه الثّلاثة. هذا أبوها العجوز وهذان أخواها، وأحسّ بأنّ النّهاية وشيكة. لكنّ الدّيك أيقظه. وسأل الرّجال عن وجهتهم. والمرأة تلطم. والرّجال يبكون. والقطار يقف. والكهل يصوّب، وابن أخيه يجرّ الكهل، ويختفيان في الحقول، وهو يموت.


    القطار في المحطّة الثّالثة. الرّجال والمرأة الملثّمة ينزلون. وبعد ساعتين في الحقل غطّت المرأة عريها. وسُمع الخبر فانتفض أبوها الكهل وعبّأ البندقية برصاصات ثلاث، وأصرّ ابن أخيه على الرّفقة: ”الثّأر يا عمّي، دعني أطفئ النّار التي في قلبي!“. واقتحما الحقل، وقالت الفتاة: ”لا تقتلوه، إنّه في القطار، سيعود قريبا، لا تقتلوه!“. واقتفيا أثره. في المحطّة ألفيا القطار ينطلق، استغلّا بطء السّرعة فلحقاه ودسّا جسديهما في بطنه الفولاذيّ، ولأنّهما لم يجدا مقعدين فقد ظلاّ واقفين مثل عمودي كهرباء في شارع طويل. وفي المحطّة الثّانية رأياه ينزل. اندفع الشّابّ صوب الطّريدة لكنّ عمّه الكهل أوقفه قائلا: ”إنّها حربي، إنّه شرف ابنتي!“

-        قف مكانك.. لا تتحرّك!

-        لا تطلقا النّار..

    في تلك اللّحظة فكّر في كلّ شيء بصورة مرتبكة. أمّه العجوز، بيته وأتانه وكلبه ورائحة العطر الممزوج بالحنّاء والدّم والكبريت والثّوم والتّراب والعشب. وتفاجأ من هذا الصّفاء الذي جعل عقله يستحضر كلّ هذه الرّوائح دفعة واحدة. وشمّ رائحة البول الذي ينزل منه الآن. واخترقته الرّصاصات الثّلاث في رمشة عين.


     من المؤكّد أنّ القطار توقّف بمحطّات، قد تكون أربعا أو خمسا أو ستّا. أمّا الجثّة فيُحتمل أن تبقى هناك برهة من الزّمن في تقاطع المحطّة الثّانية والحقول، ثمّ بعد ذلك يحضر رجال الدّرك وحفّار القبور. وبعد ساعات يعود الكهل وابن أخيه إلى المحطّة الأولى، لكن من المحتمل أنّهما سيلتقيان بفتاة نصف عارية تصرخ وتسأل عن عودة القطار. يجرّها الكهل فتأبى. ”لا بدّ من عودة القطار!“. ويصفعها الكهل فتنبعث الرّوائح دفعة واحدة... الشّاب أدرك بحدسه أن رائحة جديدة قد أضيفت إلى المشهد. رائحة الجنون!


     القطار الأوّل لم يعد. ربّما في المحطّة العاشرة أو العشرين، ربّما يُصلحه ميكانيكيّ ما، ربّما، ربّما. قطار ثانٍ يتوقّف في المحطّة الأولى. لم يكن بداخله ديك ولا امرأة ملثّمة، كان مرقّطا كالأفعى وعنيدا كالزّمن. اجتمع النّاس حول السّكّة. القضبان الحديديّة صُبغت بالدّم. عري الجثّة زادها قبحا. رائحة القطران والحنّاء تزكم الأنوف..


نص مستل من المجموعة القصصية "اللعب مع الزمن" الحائزة على (جائزة رونق المغرب للقصة، دورة 2018)، منشورات الراصد الوطني للنشر والقراءة.


مجــلة فــن الســرد 

عن الكاتب

مجلة فن السرد

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

فَـــنُّ السَّــــرْد