الأعور والبكماء
ما
إن عاد إلي وعيي حتى وجدت نفسي ملقى على الأرض، وأختي تولول فوق رأسي، وعيني
اليسرى لا تبصر شيئا، العريس يزبد ويرغي وعروسه تبكي حلواها التي كست الجدران،
وكسوتها البيضاء التي تمزق نصفها، بينما أختها التي كانت سببا في هذه الفوضى تبتسم
ابتسامة خجولة وهي تتفرس وجهي الذي ذهب نصف جماله، بسبب رعونة ذلك العريس ذو كمارة
"لازين لامجي بكري".
أختي
منال كانت مدعوة إلى زفاف صديقتها، فصحبتني معها لتجد لي عروسا تليق بمقامي،
وتناسب ذوقي الصعب الإرضاء. لكن لم يكن في حساباتنا أن تهوري سيخرب عينا وحلقا وصداقة،
بعد أن خرب عرسا بأكمله.
حين
استقر بنا الحال في العرس، وازدردنا ما لذ وطاب من محمر بالزيتون، ولحم بالبرقوق،
وسفوف بالقرفة والسكر كلاصي، انتبهت إلى جميلة قصيرة تضع القليل من الماكياج وأحمر
شفاه خفيف وتطلق العنان لشعرها الطويل، كي يصول ويجول على ظهرها إلى أن يبلغ خصرها
الممشوق القوام. توزع حسنائي ابتساماتها ذات اليمين وذات الشمال، وترحب بالضيوف
بحفاوة زائدة، مما يوحي بأنها من أهل العروس أو من أهل العريس. كانت مختلفة عن
بقية الفتيات ذوات الزينة الثقيلة، كشيخات الأطلس، أو كلوحة تجريدية لفنان مبتدئ،
يوزع ألوان ريشته دون أي تناسق فيما بينها. أمام هؤلاء البسيطات، يقف إعجابي وقفة
عسكري يؤدي التحية لرئيس البلاد، وقفة احترام وإجلال لا تكنه إلا لذوي الشأن
الأكبر.
بعد
الصور التذكارية مع العروسين، والمباركات البليدة التي تتمنى لهما العيش المديد
والسعادة الأبدية، وبعد الشرب من كأس الحليب الذي شرب منه العريس كفأل حسن، ربما تنفتح
أمامي أبواب الزواج التي أوصدتها منذ زمن، انتحيت بمنال مكانا قصيا، لأسألها عن
تلك الحسناء التي سلبت عقلي، وطارت بقلبي إلى جزيرة الوقواق، لينسج معها حياة
سعيدة، بعديا عن صخب الحياة والمترصدين. بضحكة خبيثة لا تصدر إلا من أختي قالت:
صافي حطيتي عليها العين، واقيلا عمل الفأل الذي شربته عمله، لأفرح بأخي أخيرا.
أجبتها
حانقا: وصافي صافي باركة من الطنز، وأخبريني بكل شيء تعرفينه عنها.
- يا سيدي اصبر، هي
زهرة أخت العروسة...
- أها.. إذن تعرفينها،
لذلك تحايلت عني كي آتي معك وأعجب بها، أيتها العفريتة. لا تخبريني أنك لم تخططي
لكل هذا!
ضحكت
منال ضحكة خجولة، لأني كشفت خطتها، وبدأت تخبرني بكل شيء عن زهرة. هي موجزة في
الفلسفة وكاتبة وتمتلك مكتبة كبيرة، ثم بمكر لا يتقنه إلا النساء بالخصوص الأخوات سألتني:
أليست هذه هي فتاة أحلامك التي صدعت بها مخي؟ يوا هيا ازرب قبل أن يطيروا بها،
وتبقى بقربي تنش الذباب.
في
تلك اللحظة وددت لو قفزت من فوق الطاولات، لأختطف زهرة ومكتبتها، وأهرب بهما إلى
مكان مجهول نعيش فيه فقط نحن الثلاثة، لكني أجلت هذه الرغبة إلى حين تعرفي عليها
بشكل لائق.
ابتدأت
الحفلة بموسيقى الشعبي التي تحرك عظام الموتى في قبورهم رغما عنهم، وتجعل النساء
والرجال منتشين على حد السواء. أما أنا فكنت أرقص طربا، من داخلي فقط. بعد عدة
أغاني لحجيب والصنهاجي وفايف ستار، اتجهت نحو الدي.جي لأطلب منه أغنية خاصة، إهداء
لحبيبتي المستقبلية. انطلقت الكلمات معلنة عن إعجابي، بشكل مرموز وخفي لن يفهمه
إلا ثلاثة أشخاص في هذا الحفل.
"أنا
جاية...
حايدو..
حايدو.. هي جاية وفاقصة العدو
حايدو..
حايدو الزين كولو شكون لي ولدو
حايدو..
حايدو.. بنت بلادي وفاقصة العدو
تمايلت
الأجسام، واهتزت المؤخرات المليئة بحبات دردك والقويلبات الصحراوية، وترنحت الصدور
المرفوعة بسوتيان البونج لتبرز جمالا يتعدى على فيزيولوجية الجسد، في غير تناسق
بشع. كانت صلوات وسلامات أختي على النبي تضاهي بحة أفضل نكافة في المغرب، وهو ما
ضمن لها مرافقة نكافات العروس كل مرة تريد فيها تغيير ثيابها؛ إذ تغيرها سبع مرات،
طلبا لشفاعة السبع سماوات والسبعة رجال، وحماية للعريس الجديد من العين السابعة
التي ستقضي على فحولته لو أمسكت فيه.
أما
أنا فكنت قابعا في طاولي، ساكنا خجولا، رغم توقي إلى إطلاق العنان لجسمي ليتمايل
مع أنغام الهيت والجرة وتحيدوست الأطلس، عظامي بدأت تطلب مني الشرع. ورغم ذلك لم
أفوت فرصة التحديق في معشوقتي الجديدة، وتبادل الابتسامات الخفية معها. لاحظ
العريس نظرتي نحو أخت زوجته، وهمس في أذن هذه الأخيرة بشيء لا تخطئه البديهة،
لتركز علي نظراتها الساخطة بعد أن وجهتها لأختها أولا.
حسنا
بما أن أمري افتضح فضيحة، فليذهب العالم إلى الجحيم، ولأدخلن حلبة الرقص لأنفس عن
غضبي اللحظي. مرة أخرى اتجهت نحو الدي.جي لأطلب منه أغنية حجيب "عرفوني
زهواني"
"سبابي
فالخطية عا مك ونتيا
هاواه
وايلي.. واحياني
هاواه
وايلي.. علبنات
هاواه
وايلي.. واحياني
عرفوني
زهواني دارو فيا مابغاو
سلبو
عقيلي داوه ناري دارو مابغاو
وا
قليبي ولاف ومن الحب يخاف.. هاواه وايلي"
وما
إن أطلق الأغنية حتى ترنحت طربا، تاركا شياطين أكتافي وأردافي تتراقص معي. أنا
بارع في الرقص، لا يشق لي غبار في حلبة العرس، سواء أكان الأمر متعلقا بالشعبي أو
أحيدوس، ترفعني هوائشي من هذا العالم، لتحط بي في كوكب مجهول يعيش أصحابه بالرقص
فقط، ولا شيء غير الرقص. فقد كنت أعمل بنصيحة مولانا نيتشه قدس الله روحه حين قال:
"ابق حيث الموسيقى فالشياطين لا ترقص". إن لهذا العبثي فضل كبير في
حياتي، فهو الذي علمني كيف أستمتع بلحظتي وأنسى ما دونها. لذلك نسيت نفسي، إلى أن
وجدت كل الضيوف حولي في دائرة، وصاح دي.جي "أعطونا يديكم"، ليتعالى
تصفيقهم وصياحهم وصفيرهم، وحماسي الزائد. أصول وأجول وسط الدائرة المتحلقة حولي
كفارس مغوار في ساحة الحرب.
دقائق
معدودة جعلت حتى المصور يركز كاميرته علي، متناسيا أصحاب العرس. كانت زغاريد أختي
المشجعة تزيد من حدة رقصي وسرعته، كنت في عالم آخر لم ينتشلني منه إلا جسم ناعم ذو
عطر شذي يحتك بي ويتمايل بقربي، كانت هذه زهرة التي كسرت استحواذي على الحالبة، لتشاركنها.
استمررنا في نفس وثيرة الرقص لوحدنا، لما يقارب الساعة دون أن يكل لنا ساق أو كتف،
أو يقاطع حوارنا الراقص الصاخب أي مخلوق كان.
بعد
تعبي أشرت إلى منال لتنقذني من ورطتي هذه، لتجر بقية الفتيات، وتتبعها جحافل
المعرسين هاجمة على ساحة كانت خاصة بي وبزهرتي فقط. اغتنمت فرصة الهرج والمرج التي
أحاطتنا، لأنسل أنا وزهرة دون أن تلاحظنا عين. إلا أني أخطأت التقدير.
انزوينا
عن الأعين في مكان معتم لأقدم نفسي لزهرة:
- أنا فريد، أخ
منال، أنت تعرفينها طبعا.
- أجل كانت تحكي
لنا عنك كثيرا.
- أها.. كانت تحكي الأشياء
الجيدة أم تصفني بالمجنون كعادتها؟
بابتسامة
صادقة أخبرتني أنني لم أخطئ، لتضيف:
- منال تعتبرك
سندها وصديقها، رغم أنك أصغر إخوتها.
هنا
تيقنت أن تلك المخادعة خططت لهذا اللقاء منذ زمن بعيد. أشعلت سيجارة وبدأت أنفث
دخانها بعيدا ومعه شوقي. ثم سألت زهرة:
- عرفيني عنك أكثر؟
- أنا زهرة، ألم
تخبرك منال عني؟
- بالطبع أخبرتني
البديهيات فقط، خريجة شعبة الفلسفة، وتملكين مكتبة. لكني أريد قصتك الداخلية، شيء
لا يعرفه عنك أي أحد.
صمتت
قليلا وأخدت السيجارة من يدي، لتستنشق منها بعض الدخان وتنفثه مباشرة على وجهي،
مما بعثر مشاعري. فتاة قصيرة تمتلك مكتبة وتدخن قليلا، تبا لك يا منال فقد عرفت
كيف تسقطينني في حبائل هذه الرائعة.
استمر
حديثنا لساعات طويلة، حكت لي فيها بعض أسرارها، وحياتها الجامعية، وعشقها للكتب
والقراءة، وأرغمتني على أن أخبرها عن حياتي التافهة، التي وجدتها مثيرة جدا.
اتفقنا على اللقاء في مقهى المثقفين، وسط المدينة، وفي هذه الأثناء سمعنا صراخا
وبدأ بعض المدعوين يمرون بقربنا كأنهم يهربون من أمر جلل. صعدنا بسرعة إلى السطح،
لأجد العريس مطوقا عنق أختي، وزوجته ترجوه أن يرخي قبضته قبل أن يقتل صديقتها، بعض
الكراسي مطوحة بلا نظام، أما الدي.جي فكان يجمع أدواته لكي لا تصاب بضرر. بعض
أصحاب الخير يحاولون ثني العريس الساخط عما يفعله، لكنهم لم يفلحوا، مما أعطاني
فرصة لأشنق على زوجته كما فعل هو بأختي، وصحت فيه:
- أتركها وعالج
مشكلتك معي!
- لو لم تحضرا معا أنت
وهذه الشمطاء، لما كانت هناك أي مشكلة من الأساس.
- حسنا دعها وشأنها
ولنعالج المسألة أنا وأنت، رجلا لرجل، أم أنك خائف وتختبئ في ظهر ولية ضعيفة.
قصدت
استفزازه ليرخي قبضته على عنق أختي التي أصبح وجهها أحمرا من شدة اختناقها. وما إن
بدأت تتنفس وتستعيد عافيتها قليلا حتى دفعت عروسه باتجاه زوجها، وهجمت عليه أكيل
له اللكمات والركلات، واحدة تلو الأخرى لكي لا أعطيه فرصة الرد، لكن لم أضرب حسابا
لعائلته التي هاجمتني على حين غفلة مني. ولكي أحتمي من غدرهم قلبت طاولة الحلوى
وانتزعت رجل كرسي خشبي بجانبي لأدافع به عن نفسي. لكني لم أنجح لأنهم كانوا تقريبا
عشرة صحاح مع نسائهم وأطفالهم ضد واحد وأخته. تأجج الوضع أكثر واستلت الهراوات
وحملت المقاعد، كأنهم في حرب ضد هتلر أو جنكيز خان.
كنت
أتجنب مس النساء والأطفال بسوء، لكن ما إن يأتي صاحب شارب منهم في طريقي إلا وأكيل
له ضربة لا تنهض الشعر بعدها. كثرت الصرخات والضربات، حتى لم أعد أحس بأي شيء من
حولي، إلى أن استيقظت وأنا ملقى على الأرض، وعيني اليسرى منتفخة ولا أبصر بها
مثقال ذرة، ومنال تولول فوق رأسي، وقد بح صوتها بالصراخ: "قتلتموه قتلكم
الله، قتلته قتلكم الله!". انفجرت ضاحكا كي أطمئنها، ومن هول الصدمة طوقت
عنقي باكية فرحة بنجاتي.
بعد
مباحثات مع كبار العائلة، واعتذارات ثقيلة أخرجتها بزز مني، غادرنا دار العرس
المخرب بسلام، مع وعدي للعروسة بتعويض حلواها وكسوتها فيما بعد. سرنا أنا وأختي في
الطريق نسند بعضنا البعض، ونتمازح أعايرها بالبكماء لتعايرني بالأعور، وفي الأخير
طفقت تغني:
"عندو
الزين عندو الحمام دايرو في دارو
وانا
الحب أنا الغرام جابني تا لدارو
عندو
الزين عندو الحمام دايرو في دارو"
بعدها
التقيت زهرة، كنت لازلت أضمد عيني المنتفخة، فأخبرتني أن زوج أختها كان يحبها
لكنها رفضته، ولا زال يغار عليها كثيرا، لذلك لم يستسغ أمر اختفائنا معا، وافتعل
تلك المشكلة مدعيا الدفاع عن شرف العائلة الذي لطخته بمغادرتها للزفاف مع رجل
غريب. وهكذا أصبحت تلك الليلة نكتة تحكى للأصدقاء والمقربين في كل مرة تود فيها
منال ممازحتي، حيث كنت سببا في تخريب عرس وصداقة، إلا أني ربحت حبيبة مثقفة.
مجلة فن السرد
إرسال تعليق
اترك تعليقك هنا
الرجاء تغيير موقع التعليقات في الإعدادات إلى مضمن