المبدع عبد الرحمن بوفدام |
"أنتَ
لستَ ابن أحشائي" قالت المرأة للشاب الواقف قبالتها ممسكا يدها بقوة، بينما
يدُها الأخرى توجه اللكمات على قدر الاستطاعة.
كان كأنه لوح خشبي لا يتأثر بتلك الضربات المحتشِمة
التي لا تفي بالغرض،
ولا تؤدّي المهمةَ كما ينبغي. في تلك الثانية بالتحديد، وتحت وقع الدموع الغزار
والصرخات المكررة تتمنى المرأة لو كان زوجها حيًّا فتردد في وجه الشاب:
"لو
كان أبوك حيا، ما تجرأْتَ عليّ يا كتلة الشؤم"...تقولُها مرتين، ثم تَستأنِفُ
حربَ الأيدي واللعنات إلى أن يَفُكَّ الفتى طلاسم اليد، ويُحرِّرَ النقود من
قبضتها، فيمضي ملوّحا بغنيمته في الهواء والأطفال الثلاثة الآخرون خلف برميل الماء
يخطفون النظر إلى المشهد باكين صامتين. على قدر أهل البؤس تأتي الفواجع، وتأتي على
قدر الجراح المدامعُ، كأن عيونَ الأم تُحَوِّرُ البيت الشهير هكذا، وهي تراقب وحشا
ضاريا يَفْتَكُّ من أفواه أبنائها خبزَ الحياة.
ليتَ بعضَ الأطفالِ لا يكبرون، ليت بعض الآباء
لا يموتون! يحيط الأطفال بأمهم وقد خلَتِ الساحة وزال الخطر، يحضنون أمّا أنهكها
طول الرجاء وألقت بها الحياة في ظلماتِ الفاقة والعوز. يحضنون جسدا فارغا من كل
أمل كما لو أنهم يعيدون شحنها بالمقاومة.
يباغتها شعور بالفزعِ وهي تحوّط أطفالها بيديها، يراودها الشكّ إن كانوا سيسيرون
على خطى أخيهم الأكبر، إن كانوا سيصيرون عصابة. تنظر في أيديهم الصغيرة وهي تتحول
إلى أيادٍ مشعّرة قبيحة تمتد لتحكم القبضة على رقبتها المجعّدة.. تضغطها لتتقيأ
الأوراق النقدية. يا إلهي! أيعقل أن يلد الناسُ موتهم وعذابهم! أم يا ترى تحررها
هذه الأيدي من قيدِ هذا الحشاشِ المتجبر! تتقاذفها القراءاتُ المتناقضة وهي تمسّد
شعور أبنائها الثلاثة.
تستبق
الأحلام وتستبق الأحداث، فتروي للأبناء سيرة المرحوم عساهم يتشبثون بها فيقتدون
به، وتقتل بها المسخ المحتمل في أذهانهم.
"كان
والدكم، الذي هو الآن في السماء يراقبكم على الدوام، جنديا شجاعا. حين يعود في الأعياد
يحمل بكلتا يديه الهدايا لكم. يأخذكم إلى منتزهات المدينة ويشتري لكل واحد منكم
ألعابا وحلوى. وكنت أنت يا زياد تقيم الدنيا ولا تقعدها في كل المناسبات، أما أبوك
فكان يجاريك في رغباتك الفريدة. حتى عندما طلبت منه المكوث في مدينة الملاهي نهارا
بأكمله، استجابَ لك دون جدال. كان يحبكم. ولولا ذلك اللغم المشؤوم، لكنتم الآن
أولادا محترمين كسائر أطفال الحي، تأكلون طعاما شهيا وتنامون في أسِرَّة ٍملونة
وتذهبون للفصل. سامح الله الألغام! أترى لو كبرتم يا أولادي ماذا تصيرون؟"
حدقت في
أعينهم واحدا واحدا، وهم يقفزون للإجابة:
"سأصير
جنديا مثل أبي" قال أولهم.
هبّت
الأم لتوقف الأحلام عند هذا الحد:
"لا
يا بني، حماكَ الله! في تراب الوطنِ ألغام كثيرة، تتربص بالجنود الصغار. لا أمان
في مهنة أبيكم، ولستُ مستعدة لخسارة أخرى.. كونوا ما شئتم إلا جنودا.. "
"أشعر
بالجوع" قال الصغير.
"أما
أنا فسأصبح قبطان سفينة" قال متوسط العمر.
قد يستوي
أمام المرء حين يبلغ درجة سحيقة من البؤس أن يموتَ أو يبقى على قيد الحياة، والأم
في تلك اللحظة انتابتها رغبة عارمة بالحياة. لشدما أسرّها أن ترى أطفالها يحلمون
بغدٍ مشرقٍ يزيح غشاوة البؤس عن أيامهم. هم دائما مميزون حين يحلمون، أما حين
يكبرون فذلك شأن آخر. شأن ينغص عليها لحظتها فتهب واقفة ملقية بهم على قارعة
الطريق وقد سقط كل منهم في مكان. تلتقط الصغير بغضب وتأمر الآخرين بالمسير.
"لا ينبغي للأطفال أن يكبروا" تقول لنفسها في وُجوم وتَجَهُّم.
" هل كتب عليّ أن أصير عقربا يلتهمها صغارها حين يفتك بهم الجوع!"
تتساءل غاضبة.
"أشعر بالجوع يا أمي" يقول الصغير بنبرة يلفها خجل وحزن. والآخران
يتعاركان في الطريق. شيء ما ينبئها بأن كارثة ما على وشك الحدوث. هي تشعر بذلك
وغريزة الأم لا تخطئ حوادثَ من هذا النوع. "لماذا ذكرتُ العقربَ يا رب! قل
أعوذ برب الفلق.. قل أعوذ برب الناس.. ألا أيها الفأل السيء، ليس هنا أهلك"
وشخصت تبصق يمينا وشمالا وهي تردد رقيتها على الأطفال. أسرعت الخطى، والصبيّ يمسك
بوجهها مرددا وقد شحب لونه واصفرّ:
"أشعر
بالجوع يا أمي.. أريد خبزا وماء"
ودون أن
تجيبه، تلقيه على ظهرها وتعد الخطى نحو الوجهة المعلومة.
"لقد
نام يوسف يا أمي" قال متوسط العمر ساخرا من رأس أخيه الذي بدأ يتدلى على ظهر
أمه خلف "الحمّال". وكانا قد اعتادا هذه السخرية من قبل، فيهمس زياد في
أذن أخيه وينفجران ضحكا وقهقهة، بينما الأمّ تحثّ الخطى نحو وجهتها المعهودة.
حين بلغا
باب مسجد الرحمة، فكّت الأم عقدة "الحمّال" برفق حتى لايستيقظ يوسف قبل
الوقت المراد، من باب الحكمة أن توفر صرخاته لحين انتهاء الصلاة وخروج المصلين..
لا بد للمتسولين من طعم ومصيدة، والناس لا يتصدقون بالمجان. لا بد للمرء أن يدقّ أبواب
شفقتهم بأي شكل من الأشكال.
لفظ الباب الكبير جيوبا كثيرة.. حافظات نقود كثيرة تفرقت بها السبل بعد الصلاة.
بين الحين والآخر، تسقط عملات نقدية مختلفة القيمة على المنديل الأبيض وتلتقطها يد
ماهرة في الإخفاء. محصول ضعيف مقارنة مع الأيام الماضية، وقد حان الوقت لتوقظ يوسف
بطريقتها الخاصة.
غرزت في
جنبه أصابعها الخشنة دون أن تثير أي انتباه، وعادت تلتقط الدراهم وتوقع افضال
المصلين بالدعاء. لم يبقَ أمام باب المسجد سوى بائعي الفواكه وهم يتناقشون
الأرباح، حينها عاد الطفلان وقد ملئت أيديهم بالفواكه والنقود. ألقت الأم يوسف على
ظهرها وقد أغضبها تقاعسه المريب وعادوا إلى المكان المعلوم.
فكت الأم
عقدة "الحمّال" وألقت بصغيرها على ركبتيها لتعدّ أجرة يومها: ستة و أربعون
درهما ونصف، وكيلو فاكهة. يالها من غنيمة. "فلنأكل أيها الأطفال قبل أن يسقط
علينا الشيطان ويذهب بسعادتكم المثلى" قالت تمازح أبناءها.
"يوسف،
يا بنيّ.. هاكَ فاكهة لذيذة"...غير أن يوسف مات.
القصة الفائزة بالمرتبة الثانية لمسابقة مجلة فن السرد الدورة 8
إرسال تعليق