![]() |
القاص المبدع أنيس الرافعي |
الجاحظ ، كتاب الحيوان ، ص 421
بمجرّد وصولي على متن حافلة مهترئة إلى رحاب هاته المدينة الجنوبيّة المنسيّة ، داهم جسدي تعب و وهن رهيبان ، جرّاء مشقّة الرحلة الطويلة ، فكان أن فكرت بالذهاب إلى حمّام شعبيّ مغربيّ ، مباشرة عقب فراغي من الشغل، الذي كلّفتني بإنجازه الشركة التي أعمل بها مع بعض العملاء.
ومثلما وطّدت النّيّة، اشتريت بعض مستلزمات النظافة الرخيصة ،ثمّ قصدت واحدا من الحمّامات العموميّة العتيقة ، ذاك الذي صادفته في طريقي، على الأرجح بسبب قربه من فندق إقامتي المتواضع.
قرأت عند بوابة الدخول يافطة تفيد بأنّ ثمن التذكرة يتمّ تأديته بعد مغادرة الزبون . طبعا ، استغربت هذا الأمر شيئا ما، لكنّني في الحقيقة لم أعره وقتئذ الكثير من الاهتمام، فولجت إلى حياض المكان ، و خلعت ملابسي داخل صالة الإستقبال البرانيّة ، الخالية مثل غابة صامتة من أيّ أحد من المسيّرين أو المعهود إليهم بمهمّة التدليك و الفرك . وبعد أن وضعت قفّة ثيابي بنفسي داخل دولاب الخزانة الإسمنتيّة، حملت السطل البلاستيكيّ الحامل لرقم سبعة ، وأضحيت في قلب الغرفة الأولى الباردة ، التي وجدتها خاوية على عروشها ، وكذلك بالمثل حينما أدركت الغرفة الثانيّة متوسّطة الحرارة.
لكن، حين وافيت الغرفة الثالثة الساخنة، ألفيت بالقرب من صهريج الماء الحارّ رجلا له جديلة شعر طويلة كالنساء تمتدّ إلى حدود عجيزته ، وضّاح المحيا ، ممشوق القوام ، باسم الثّغر ، يضع حول عنقه قلادة مرصّعة بحجر خامد على هيئة عين قط ، سرعان ما باشر دون استئذان مني في ملء السطل الخاصّ بي من " البرمة "، ثمّ رحّب بي متفوّها بإسمي.
وكما لو أن بصر عقلي ذهب في لحظة مسّ خاطفة، تغافلت عن كلّ هاته الوقائع المعضلة غير المألوفة، فشرعت في دهن جسمي بالصابون الأسود ، ثمّ استلقيت متمطّطا على ظهري في انتظار تصبّب العرق من مسامّي، تمهيدا لعمليّة تقشير الجلد الميّت بواسطة قفاز اللّيفة.
و بينما أنا مستغرق في نشوة الاسترخاء هاته، أخذتني سِنة نوم رأيتني فيها تلميذا منخرطا داخل أكاديميّة للجنّ، تقع وسط حمّام شعبيّ مغربيّ مهجور . وكان أستاذنا المؤطّر ، ذاك الذي يناديه الجميع ب " البروفسور " ، هو صاحب جديلة الشعر الطويلة كالنساء . يلقّننا في غمرة البخار المتصاعد، لساعات لا حصر لها، و بطريقة ديداكتيكيّة محكمة ، علوم اللّغة السومريّة و منطق الحيوان التي تحدّث بهما سيّدنا سليمان ، و فنون الغيب و الاحتجاب و التخفّي بأشكال مختلفة ، و ألاعيب التلبّس و الحلول و التناسخ في هيئات بديلة ، و طرائق الطيران و القفز و الغوص و طيّ الأراضي القصيّة . وكنت في تلك الأثناء أرفع أصبعي دون كلل ، و أردّ على جميع أسئلة " البروفسور" ببراعة جنّي نجيب متحمّس متعجّل لإنهاء دراساته العليا . تماديت في منامتي الحالمة ، و كان كلّ درس من الدروس التي نتعلّمها يختتم بوصلة جماعيّة صاخبة من موسيقى طائفة " كناوة" ، يقودها " البروفسور" ببراعة لافتة ، و يشارك في أداء رقصاتها المخبولة كافّة أعضاء الأكاديميّة. أفقت فجأة من نعاسي جزعا مضطربا ، وكان الحمّام محتشدا من حولي بجموع المستحمّين. صبّبت الماء كيفما اتّفق على بدني لإزالة البقايا المحتملة للصابون أو ربّما للكابوس ، ثمّ هرعت خارجا إلى صالة الإستقبال المزدحمة لا ألوي على شيء . ارتديت ملابسي و انصرفت كما لو أنّ الطير على رأسي. وما أن مرقت من الباب الخارجيّ للحمّام ، حتّى وجدت صاحب جديلة الشعر الطويلة ، الذي تطلّع إليّ لحظتها متبسّما ، في حين طفق حجر عين القط في قلادته يلمع بشدّة كشريط ضوئيّ مشعّ .
تبادلنا لبرهة نظرات خرساء ، كما لو أنّني واحد من أرواحه الكثيرة ، كما لو أنّه واحد من ذكرياتي البعيدة، كما لو أنّ الواحد منا يريد أن ينطق باسم الآخر ، ثمّ مضيت إلى حال سبيلي واحداً من أهل الخطوة.
مجلة فن السرد | محاكاة
إرسال تعليق
اترك.ي. تعليقا