القاص محمد رفيع |
حدث ذات صباح
استيقظت من نومي مفزوعاً وكأنما لدغتني عقرب تحت جلدي، كان عقرب الساعة يمشي متثاقلاً، رافعاً ذيله الأسود في وجه الوقت. تركته يبتعد وقد حال بينه وبين ركلتي، تذكري أنني متأخر عن العمل. قفزت ثلاث قفزات أوصلتني إلى الحمام. صفعني ماء بارد على وجهي، فزاد مؤشر الوعي لديّ. كانت القفزة الرابعة داخل ملابسي، والخامسة على السلم.
ذكرني هواء الصبح البارد بـ " سفر البرود " الذي أتعوذ به صباحاً من الأسعار / التلوث / الغطرسة، كي لا أصاب بجلطة في دمى. وها أنا أتجنب ذلك كل يوم ببطولة منقطعة...... منقطعة فقط.
لم يكن هناك أحد بالشارع غير رجل يسكن ضباب الصبح. كان إيقاعي العصبي متواتراً، وصورة المدير الذي يركب أنفاس الموظفين، تطلع فجأة من أغصان الأشجار العجفاء على جانبي الطريق. اقترب الرجل الوحيد في شارعي المسكون الساكت. تهيأ لي للوهلة الأولى أنه يمشى بظهره، أمعنت النظر فيه قليلاًً، فتأكد لي انه يمشى إلى الوراء فعلاًً، لم اهتم كثيراً فالمجانين أصبحوا عادة يومية، لعله حاول أن يحفظ قوته دون أن يتلاعب، فتلاعب به عقله، وجعله يستيقظ السابعة صباحاً، ليمشي بظهره في محاولة يائسة لإقناع الزمن الجميل بالعودة.
استكملت طريقي دون أن أعيره أي اهتمام، إلى أن صادفت مجموعة من الرجال تمشى بالطريقة نفسها. بدأ الشك يعتليني، ترى كيف يمشون هكذا؟ هل يستطيعون أن يتبينوا طريقهم؟
كيف يمشى الإنسان وقفاه للأمام؟ ولا يخشى أن يقع...أو يقع كف طائر في طريق قفاه. أدرت رأسي للخلف بعدما اجتازوني كي أتبين ملامح وجوههم وكانت الصاعقة فالمنظر الخلفي كان مطابقاً للأمامي.. قفا مقبل من الأمام، وقفا مدبر من الخلف. ساعتها ارتعدت قدماي المسرعتان.
فجأة ظهر رجل أمامي وقفاه ساطع يمشي بنفس الطريقة، ما إن اجتازني حتى نظرت إلى الوراء، أصابني هلع...كدت أسقط من هول اللحظة. كيف صار الرجل هكذا؟ أين وجوه الناس؟ كيف يصبر الإنسان على امتلاك قفيين؟
كنت أحاول إبعاد أصابع الجنون الماسكة برأسي، حينها رأيت ضابط شرطة يقف علي جانب الطريق بوجهه المتعالي، اقتربت منه والأسئلة تنسكب من رأسي المخروم.
لوح بكفه في الهواء كأنه سيلطمني، هممت بالسؤال، لكنه أشار لي بالابتعاد تمتم بكلمات لم أفهمها ولم أتبين منها غير... أمن...تأمين.... ميمون.
انحنيت بمساري مبتعداً عنه وقد تملكني الرعب.
أخذت قدماي تسيران على إيقاع قلبي اللاهث. خطر لي أن انظر للخلف لأتبين منظره الخلفي، وإذا بوجه صلد متعال مثل الآخر بدلاً من قفاه. حاولت أن أمنع نفسي من الإغماء الذي تسلق ساقي العصبية وكاد يجهز على صدري. تسارعت خطاي حتى صارت هرولة. كانت حقيبتي الثقيلة تعيق خطواتي، تركتها من يدي، أخذت أجرى صوب الشركة. صعدت السلم المؤدى إلى مكتبي، فتحت الباب رأيت أحد الموظفين بقفاه الماكر مشيراً إلى المصير الذي ينتظرني عندما يراني المدير متأخراً عن موعدي.
ألقيت نفسي على مقعدي، هممت برفع السماعة، محاولاً الاتصال بأحد أثق به أحكي له عجب ما أنا فيه. فجأة فتح باب الغرفة، وإذا بالمدير يطل بقفاه الغاضب، أشار لي بإصبعه كي أتبعه إلى مكتبه ثم أغلق الباب على أنفاسي وخرج.
ترددت قليلاً، ثم خرجت من الغرفة، لكنى لم أتوجه صوب مكتب المدير، أسرعت إلى الحمام، وقفت أمام المرآة، مغمض العينين كأني أخاف أن أفتحهما، تذكرت كل المشاهد التي رأيتها، فتحت عيني بحركة عصبية... فإذا بقفاً ساطع يبدو أنه لي أيضاً.
نص مستل من الكتاب القصصي "في مديح الكائنات" للقاص محمد رفيع.
إرسال تعليق