الكاتبة والناقدة رجاء بكريّة |
تداخُل بورتريهات النّص اللّوني في رواية هوت ماروك للأديب المغربي ياسين عدنان
البورتريه المُجزّأ نموذجا
1.
استهلال
تساءلتُ مليّا وأنا أقرّر الخوض في مسألة شائكة تُغامر في اللّونِ وشروطِهِ مقابل النّص الأدبي في تماهيهِ مع صورتهِ اللّونِيةِ، إذا كُنّا بحاجةٍ للتّداخل مع مرجعيّات اللّون بتجليّاتهِ الكثيرة ونحن نتابع تحوّلات الرّواية ضمن أغلفتها الكثيرة. فالواضح أنّ تلك التجلّيات الّتي نعنيها لن تُسهِمَ فقط في قلب مفهوم التعدّديّة اللّونيّة وإسقاطاتها على تداعيات العمل الأدبي، بل ستنشئ ممرّا سريّا يتجاوز رؤيتنا المشوّشة لأبعادها الفنيّة كي يفتّش قنوات شغَف جديدة للتّواصل معها.
وغالبا ستتّسعُ مسافةُ الجدلِ الفِكريّ بين العمل الأدبيّ والمُتلقّي، وتُشَكِّلُ سببا مباشرا في جذبٍ لا واعٍ لعَين المُتلقّي وفِكرهِ الرّوحيّ. لقد راهنّا وقتا طويلا على عمق الأثر الّذي يُحدِثُهُ التّشكيل الفنّي في مُجملِ حياتنا الثّقافيّة، فهل يملكُ فعلا تأثيرا استثنائيّا على شكل استساغة المضمون الأدبي، والرّوائي تحديدا؟ وهل تتفوّقُ نصوص لونيّة بعينها على سواها، وبالتّالي نصّ أدبيّ على سواه بتأثير الفكرة اللّونيّة؟ [1]" فالشّكل الفني الناجح هو النتيجة المباشرة لنجاح الفنان في استيعاب مضمونه الفكري، واخضاعه للمقومات الدرامية التي تعتمد على الادوات الفنية، مثل، الحوار والشخصية والموقف والحدث.. الخ عند الاديب، والالوان والالحان والايقاعات عند الموسيقي".
مع هذا التّداخل الفكريّ الرّحب نحاول أن نحدّد الصّورة الجدليّة الحاصلة في متن
الرّواية العربيّة، وضمن نموذج واحد، رواية [2]*(هوت ماروك) للرّوائي المغربي ياسين عدنان ضمن طرحِها
الفكريّ_حسّي، المُترجمة حديثًا للُّغتين الفرنسية والإنجليزيّة. ولعلّ انشغالها
الماتع بفكرة البورتريه وتجريبهِ كظاهرة غير تقليديّة في تفسير عالَمِهِ الرّوائيّ،
مُخيّلتِهِ وتقنيّاتِهِ النّوعيّة يسجّلُ الإستثناء الحقيقيّ في المُداخَلة، لما
ستُجنّدهُ من مفاهيم فنيّة في إثارة نوستالجيا الحالة المشهديّة المُصوّرة.
الديلوج المتفاوت في إيقاعهِ الحسيّ الموزّع بين مستويات المضمون واللّون مثلا
سيفرض استراتيجيّات نوعيّة حين سنختبر كثافة النّص الرّوائي بأبعادهِ المُضافَة،
وكلّ ذلك سيلفُّ في الدّائرة اللّونيّة بغرابتها وأُلفَتِها معا. وهكذا سنتذكّر
أنّ المُستَوى الشَّكلاني الّذي يثير قريحة مخيّلتنا وحِبرِنا ستَدعَمُهُ تأويلات
ربّما لم نقابلها قبل الآن، تدعَمُها الظّلال والخطوط لما تَكنِزُهُ الأخيرة من
أثر في إغناء الحالة الفنيّة الكاريكاتوريّة في عَيني المُتلقّي. [3]"فهو
يحاول أن
يخرج على الأبعاد والأطر المألوفة ويغير فى نسب الأشكال والرسومات، فيضخم فى رسم
هنا ما ليس بضخم، ويصغر هناك ما ليس كذلك" كما ظهر ذلك في غلاف التّرجمة الأمريكيّة مثلا.
2.
الرّواية الّتي تقومُ عليها الدّراسة
وعليهِ، سأحدّدُ صِدام العوالم الفكريّة، النّفسيّة والاجتماعية
لشخوص الرّواية الّتي عامت فوق طوفان الأحداث مُنطلَقا، في تلاحمِها بِأبعاد
شُخوصِ *[4](رحّال العوينَة). وشخوصٌ هكذا بالجمع بسبب
التعدّديّة في تجلّياتِ صُوَرِها لِما تعيشُهُ من تداخُل في مناحيها وتركيبتها
النّفسيّة، وهي عمليّا سببٌ مباشر في نثرِ بِطاقاتِ دهشة فُجائيّة للتّصادُمِ بها ومعَها.
لكن، وعلى زخم تلك الشّخوص أعتبر الجانب الأهمّ، "المُغفَل"، لهُ علاقة
مُباشِرة بما نصطلحُ على تسميتهِ بـ "تداخُل البورتريهات الفنيّة" على المستوى الشّكلاني والمضموني الأوّلي.
ولتوخّي الدقّة سنؤطّر الفِكرة تحت تسمية فنيّة تقع في لُبِّ التّصميم المضموني
الفنّي لرحّال ضمنَ مفهوم [5]*البورتريه
كَبديل عن الحالاتِ المَشهَديّة المُجزّأة لتجلّيات الشّخصيّة البطل على طول الرّواية، ثمّ إسقاطاتِها
على أشكالِ تحقّقِها.
1.2
البطل السّلبي
بمفهوميهِ الأدبي والفنّي استثناء
هل نعتبرُ
البطولة السلبيّة فِعلَ إسقاطٍ مضمونيّ محض لحدَثٍ صاخب أثناءَ سُقوطِهِ على الوجوه
أو بين البشر، أم أنّها تداعيّات الحدث الّتي تضع شخصيّةً ما على المحكّ مع الشّخوص
المُحيطَةِ بها، وتداعياتِ أبعادها؟ وهل يمكن لرحّال أن يكون البطل غير المرجُوّ
في رواية ارتأينا أن يكون بطلُها أشدّ وسامة ولفتا للمُخيّلة؟ وهل أمكن لمستوى التّخييل
المضموني أن ينافس الآخر الفنّي في إطلاق الصّورة النّوعيّة الّتي توقّعناها على
أغلفة التّرجمات المختلفة لرواية تُنافِسُ ذاتها؟ النصّ الأدبيّ يُحَدّدُ بطلاً
غريبَ الخصال في صداماتهِ الكثيرة مع محيطه. فهل ينضوي مفهوم السّلبيّة تحت تسمية
إلغاء النّوعي أم تأكيد الغَيري الّذي لا يتصالح مهما غمرتهُ العطاءات، مع
إنسانيّتهِ؟ حالة فريدة لا يمكنكَ المرور عنها داخل نصّ دون أن تصيبكَ بعدوى
النّبش فيها. تمشي أنت حيثُ تمشي، وترسمُ معها الصّور الّتي تختارها، تُراسلُ معها
الأسماء الّتي تكتُب إليها، وربّما ستعشقُ سرّا الشّخوص الّتي تتعلّق بِها دون أن
ينجح سواها في التعرّف إلى زَخمِ عالمِها المولَع بكلّ شيء إلّا نفسه. هي صورة بطل
الرّواية الّذي يقاوِمُ أصولهُ على نحوٍ يُصيبُ قارئَهُ بالذّعر والتوجّس قبل أيّ شيء
آخر.
(أ)
البطل بمفهومهِ
الأدبي
خجولٌ بقدر وقاحتهِ، وإنسانيّ بقدر وحشيّتهِ.
قصير القامة، رقيق البنية، ذو وجه فأريّ وعينين ضيّقتين. نذل ولئيم، جريء ومهزوم.
مُحتالٌ بقَدرِ غبائِه. وسوف يُحيلُنا هذا الأمر إلى هيمنة شخصيّةِ البطل القويّة،
عميقة الأثر، على الحدث المركزي للرّواية بتفرّعاتِهِ الكثيرة، حتّى أنّ التّصميم
اللّوني للأغلفة كافّة، لا ينجح بالإفلات من تلك الهيمنة، فالبعد الفنّي لا
يحوّرهُ المُصمّم بمعزل عن التَعريفات الأدبيّة اللّصيقة بِهِ في النّص، فيستثمرها
بفنيّة عالية في غلافِهِ الّذي يجمعهُ غالبا أكثر من تيّار فنّي واحد في ذات
اللّحظة. من هذا المنطلق [6]"فإن الغلاف الجيد يتأكد نجاحه إذا أعاد
القارئ قراءته «بصريا» بعد إتمامه قراءة الكتاب، لتتأكد لديه الصورة الذهنية التى
خلقها النص فى عقله". فالواقِعي يتداخل مع الكاريكاتوري في غلاف دار الفِنِك
المغربية. والتّعبيري (الاكزوتي) الغنيّ متداخلا مع الواقعي والكاريكاتوري الحِسّي
في الغلاف الفرنسي، بينما يتداخل التيّار الواقِعي الحاد بالتيّار الكاريكاتوري التّعبيري
الحادّ، (ضمن حالة التّشويه والتّضخيم والتّحديد) ترافِقهُ الكُتلة الروبوتيّة في
الغلاف الأمريكي، مضافا إليه عناصر مُؤَسِّسَة لمُكوّنات الكاريكاتور العميقة.
هكذا نُتاخِمُ فنيّة الصّورة المُكتسبَة مشغولةً باللّون في عالم قرائن ثَرٍّ
مرجعيّاتُه أدبيّة بحتة. قرائن جاذبة لاسِعة حيّرت النّص. فَوِفق العالم الذّاتي،
لصيقَ بُعدِ رحّال النّفسيّ، [7]"العالمُ عِبارة عن سيرك بشريّ كبير،
لا يمكِنُهُ أن يستقيمَ خارج الوجوه الحيوانيّة الكثيرة الّتي تستظلّ بالبشر،
فلكلّ وجه إنسيّ وجه حيوانيّ يقابلهُ جسديّا ونفسيّا، فرحّال سنجاب، وأمُّه بجعة، حتّى
زوجتهُ كانت تبدو له إبّان مُلاحقتِها لهُ أثناء دراستهِ على شكل (بَقّة) تلتصقُ
بالبدنِ بِشدّة، قبل أن يغيّر رأيهُ ويجعلُها (قُنفُذَة)".
هكذا
طغى المرجعِ الأدبي على مسميّات الرّواية الفنيّة كاملة. طاقة نافِذة سطت على كلّ
شيء بما اكتسبتهُ من قُوّة شَقَّت طريقها إلى الأغلفة، أو النّصوص اللّونيّة بِلُغاتِها
وأساليبِها وحضارتها، بتلقائيّة ويُسر. والمثير في بطولة رحّال الأدبيّة أنّها لا
تخضع لقيم البطل التّقليديّة الّتي نعرفُها، بل تستحدث ميّزات البطل المُنَفِّر
كفكرة خارقة لِتشريعِ قُوّة حُضورَها، فهوَ نقيض َ النُّبل العام للبطل الخارق،
خبيثٌ متواطئ، نذل، انطوائيّ مُحتال ونَبّاش، يُعلّق الأعراض بفنيّة مُقزِّزة على
الجدران الافتراضيّة للمواقع الّتي تسلّل إليها عن دراية، وتمرُّس. [8]"إذ نُقلَت صورة
البطل في مركز الاهتمام من الخارق إلى اليوميّ، ومن الكامل إلى المُشوّه، ومن
البطولة إلى اللابُطولة ليعبّر بذلك السّرد عن وضع اشكالي تلاشت فيهِ القيم" ولعلّنا لا نبالغُ كثيرا حين
نعتبر استحداثَهُ لمفهوم الشّاشة كمرآة حقيقيّة للقرائن الّتي لفّ بها السّاحات
والشّوارع وحاورها عبر عالمهِ الافتراضي استثناء حقيقيّا. هكذا سيطرَ من خلالها
على مُجتمعٍ واسعٍ بالطّريقة الّتي تُناسِبهُ، فبِقَدرِ هامشيّتهِ استحوذ على
مركزيّة المشهد الفنّي، وأنشأ سيركا بشريّا مُتنقّلا يحمِلُهُ في رأسهِ اللّيمونة*[9]
وينثُرُهُ على كلّ شاشةٍ يصطدمُ بها.
(ب)
البطل بمفهومهِ اللّوني كنموذج مُطلَق
لسنا على ثقة أكيدة أنّ أبعاد البطل اللّونيّة تُطابقُ قرينتها الأدبيّة،
لكنّ استعراضا سريعا لظِلالَ شُخوصِهِ اللّونيّة كما ارتأت أن تُحوّرها الأغلفة
ستكشفُ عالما سِريّا تتداخلُ فيهِ القرائن والمُتناقِضات على نحو مثير. ولا سبيل في
سياق المقارنة والتّحليل أن نَحْجِرَ على إسقاطات النّصوص الأدبيّة في حِوارِها مع
الأخرى اللّونيّة الّتي تتجزّأُ على انقسامات طريفة في تزاوُجها الفنيّ، فالنّص
اللّوني المضطرب يُحيلُ إلى قِسمةِ اللّوحة على اثنين كي تستوعبها المخيّلة
بأبعادِها الثّابتة والمُهتزّة. والأغلفة معا تؤلّف نصّا لونيّا طويلا يتشكّل
مشهديّا ضمن متواليّة فنيّة دراميّة مثيرة وطويلة. حتّى غلاف الفِنِك يجوز أن يعارِكَ
على نسبةِ تمثيلِ نُسخَتِهِ لِشَخصيّة البطل عبرَ غِلافِه الخاص مُمثِّلا لدار نشر
عربيّة، مهما تكُن ملاحظاتنا قاسية بحقّ الإخراجِ الفنيّ المتردّي مهنيّا في شكل
التّصميم. لكنّ هيمنة البطل طاغية لا تزال، وتملك ذات الثّقل والإيقاع العالي.
جبّارة في استحواذها على واجهة الأغلفة بمرجعيّاتها المختلفة.
فغلاف الفِنِك، (الدّار البيضاء، المَغرب) يجمع بين ضدّين، الجسد الإنساني
مقابل الرّأس الحيوانيّ، شبيه المتناور، (القنطور) الإغريقي، كإشارة ضمنيّة لخلل
في التقاط المعاني البعيدة ومفهوم الحدث العام الّذي يشغل الرّواية. غلاف ساذج،
التقط من محيط الحدث أوّل وجهٍ أطلّ عليه، لكنّهُ استعاضَ عن الضّعفِ المَضمونيّ
بالأسلوب الكاريكاتوري الحَركي الّذي سيطرَ على أجزاء الجسد كاملا، مًعتمِدا التّضاد
اللّوني بين الأحمر القاني والأزرق لتغليف الحدّة
المميِّزة للبطل في تضادّها مع برودِهِ، وحياديّتهِ. بهذه الحيلة تجاوز الغلاف إسقاطهِ
من اعتبارات المقارنة والإلغاء. ذلك لأنّ مفهوم اللّون يتفاوت في تقديراتنا وفقا
للمشاعر الشّخصيّة لدى المتلقّي وتأثيراتهِ عليه، [10]“Color
theory is a science and art unto itself, which some build entire careers on, as
color consultants or sometimes brand consultants. Knowing the effects color has
on a majority of people is an incredibly valuable expertise that designers can
master and offer to their clients”
[11]"بينما يجنح
الغلاف الفرنسي، (آكت سود، باريس) لزَخَمٍ لَونيّ جَمعَ بين تيارات فنيّة حُشِدت
لإضفاءِ الواقعيّة بقدرِ ما غذّت الإيهام". كأنّ لجوء مصمّمة الغلاف لاحتواء
شخوص رحّال يستدعي الجمع المثير بين اللوّن التّعبيري والخُطوط الكاريكاتوريّة
المُرهفة، الوصفيّة والخارجيّة، مع حرصٍ شديد على قوّة حضور البطل كبورتريه واقعيّ
متماسك يُلغي ما عداه بقوّة الكتلة واللّون معا. التّداخل اللّوني يقابلُهُ تداخُلٌ
لثنائيّين في بورتريه البطل هو رحّال نفسهُ بتشوّههِ النّفسي المقهور، والدّنيء
الحاقد على العالم مقابل اليزيد الّذي يستعير منهُ خِصلة الاحتيال الممنهج والفهلوة
الكاذبة بما يتيحُ لهُ أن يتصدّر لوحة الغلاف بتلك الثّقة المهزوزة في وقفتِهِ
النّصفيّة، (الكونترو بوستو) وملابسهِ المُتماوِجة، فالأزرق دلالة تُفضي إلى
البرود والحياديّة لجانب الأحمر الّذي يُغذّي حسّ الفهلوة، والشّطارة والإحتيال
وكلاهما ضدّان يغذيّان تداخل الوجهين داخل الغلاف.
ومع أن الغلاف الأمريكي ظل مخلصا كسابقَيْه لمنطق أل Fusion)) ,ونَعني المزج بين نقيضين،
إلا أنه تميَّز عنهما برؤيتهِ المُفاجِئة في صراحتها، واعتمادِها الصّارخ على
منطقِ الفِجاجة وتسمية الأشياءِ بأسمائِها، فالمهمّ هنا أن تحضر الشّاشة كي تعكس عالم
البطل الزّائف، وتوزّعَهُ بين نقيضين وتداخُلين، عالمهُ الواقِعي مُقابل الآخر
الإفتِراضي، بل أنّهُ أمعنَ في استغلال العناصر الكاريكاتوريّة، بما أدّى بِمُصمّمة
الغلاف لتطرّف نوعيّ في أسلوبها الإخراجيّ حين قزّمت رأسهُ الغبيّة الضيّقة
وجعلتها بحجمِ ليمونة معصورة كما ضخّمت جسدهُ في استعراضاتهِ داخل عالمه الافتراضي
الواهم. إلى جانب ذلك قسّمت عالمهُ لنقيضين لونيّين، نصفان متحرّكان، الأسود الواقعيّ
مشوّه الأصابع مقابل الأزرق الحيادي الواهم في جزئهِ المتعملِق. وكلا العالمين
تغذّيا من الميزات المرنة لفنّ الكاريكاتور. بهذه السّهولة أو بهذهِ الخساسة سرقَ
البطل نموذجا استثنائيّا لحضور البورتريه المُطلق، انتزاعا من حلقِ مُجتمعٍ أذلّهُ
وحقّرّهُ في قسوةِ ازدرائهِ لهُ وعُمقِ تهميشِهِ.
2. 2 من البطل المشهَدي إلى البورتريه اللّوني
وعودة على التجلّي الجديد لصورة البطل بمفاهيمها اللّونيّة سنؤكّد أنّ التحوّل
من تعريف البطل إلى مفهوم البورتريه بمصادرِهِ الفنيّة يمسح بعض التّعريفات
الصّريحة في مناحيها اللّونيّة، (التّوافق والتّناسب بين الألوان مثلا)، Compatibility and proportionality
between colors)) كَي تنوبَ عنها إشارات إيمائيّة، ومساحات لونيّة بمصادرها
وأساليبها غير التّقليديّة، الكاريكاتوريّة المُشبَعة نموذجا. هذا يعني بالضّرورة استقصاء
التّفاصيل اللّافتة في الشّخصيّة المشهديّة كامتداد طبيعيّ لِتذويت المفهوم الأدبي،
وتفسيرها (لونيّا) عبر الحركة والشّكل، حركة الرّيشة وتداخلاتها مع الشّخصيّة. أمّا
الشّكل فيشمل، الموقف والحالة معا عبر التّجسيد اللّوني، بينما تأخذُ الحركة من
عوالم الشّخصيّة النّفسيّة. هكذا تخضع المركّبات الثّلاثة،
(الحَرَكة، الموقف والحالة) لاختبار وتقصّي في مرجِعيّاتها الاجتماعية، النّفسيّة
والسّياسية عبرَ فِكرة التَجسير الأوتوبيوغرافي الشّخصيّ الشُّمولي. أسلوب هذا
التّجسير ولغةِ تحقُّقِهِ يجري عبر صورة [12]*البورتريه مُمثّلا باللّون وتقنيّاتهِ التّشكيليّة
المُختلفة، [13]*(المذكورة أعلاه) بينما تُؤَطَّر المُكمِّلات،
كالملابس مثلا ضمن أُنموذجٍ أُسمّيهِ "الحالة المَشهديّة".
2.3
الرّيشة في إطار
صُوَري
ستُثيرُ صورة البطل المُحوَّرَة ضِمنَ عالم البورتريه الفنّي مقابل غريمِهِ الأدبي صِدامًا معلوماتيّا مُدهشًا لشكلِ التحَوّلاتِ التّاريخِيّة على الأقمِشةِ المُلَوّنة. فانعكاسات المساحة اللّونيّة تؤرِّخُ لأثر التّسمية العميق في تجلّيها الأوتوبيوغرافي الصّوَري لدى شريحة واسعة من الأسماء التّاريخيّة اللّامعة بمرجعيّاتها الكثيرة. ونعني تحديدا مَن وُثِّقوا ضمن مفاتن هذا اللّون التعبيري. ونحن نعني الملوك والأمراء والنّبلاء والأثرياء في الحقب التّاريخيّة المُختلفة خصوصا عصر الرّينسانس، (النّهضة) لما كان لهذه الحقبة من أثر في تثوير الواقع الحداثي لتقنيّة البورتريهات المُنجَزة برِيَش فنّاني عصر الحداثة، بدايات القرن السّابع عشر تحديدا. فمعظم ما نعرفهُ عن تاريخ مأسسة هذا الفنّ لهُ جذور عميقة في العصور الوسطى حيثُ خلّدَ ملوك أوروبا ونبلاؤها وأمراؤها أنفسهم عبر رسومات بالغة الدقّة والأناقة بِرِيَشِ الفنّاينَ الكبار، أبناءَ عُصورِهِم، وكان الرّسم حينذاك حِرفةً مدفوعةَ الأجر خصوصا في الكنائس ولدى سدنتها، قساوستها وخُدّامها. وحينَ تحرّر مفهوم هذا اللّون النّوعيّ من التّوثيق الفنّي واتّسعَ أصبحنا نتحدّث عن عهد جديد في تفنين السّيرة الذّاتيّة اللّونيّة، (البورتريه) ونعني عصر النّهضة، (الرّينيسانس)، وفي فلورنسة تحديدا كونها مصدراً لثراء العصر الّذي قلب معايير هذا الفنّ كي يشمل نساء الطّبقات الثريّة وأطفالهنّ.
ونعني إلغاء تخصيص هذا النّوع من
الفنّ الرّاقي لفئة الطّبقة الحاكمة وإتاحتها أمام أفراد العائلات الثريّة، وقد
تكون لوحة (الموناليزا)، ذائعة الصّيت، رائعة الفنّان الفلورنسي ليوناردو دافنشي، 1503م
أشهر نموذج لانفتاح هذا الفنّ على طبقة الموسرين الأثرياء، ذلك أنّ زوج المادونا
ليزا، (شخصيّة البورتريه) يعود في أصولهِ لعائلة ثريّة من عوائل فلورنسة ذائعة
الصّيت. غير أنّ الانقلاب الحقيقي بمفهوم هذا الفنّ حدث متزامنا مع انطلاق الثّورة
الصّناعيّة وما أحدثته من تدمير للمبنى الاجتماعي المجحِف بحقِّ الطّبقات الفقيرة
المسحوقة، وفي بريطانيا تحديدا، في القرن الثّامن عشر، ومنها إلى سائر
بلدان أوروبا. إذ ثار عُمّال المناجم على الأنظمة الرّأسماليّة الّتي تستعبدهم وتستعملهم
مقابل أجر زهيد في تشغيل القاطرة البخاريّة، ثورة شملت جميع قطاعات العمل، أثبت العمّال
البسطاء خلالها حضورَهم وأهميّتهم في التّركيبة الاجتماعيّة، ولفتوا إليهم الأنظار
فأصبحوا محطّ اهتمام لدى الفنّانين الّذين خرجوا من عباءة الطّبقات الثريّة
وتناثروا على أرصفة الشّوارع ليجعلوها مراسمهم المفتوحة على الهواء.
في باريس مثلا أضحت الأرصفة مسرحا للمقاهي الّتي انتشرت بكثافة وجمَعَت كُلّ الطّبقات
الاجتماعيّة الّتي وَجدَت فيها متنفّسا لتفريغ الضّغوطات وأعباء الحياة. في هذه
المربّعات الصّغيرة على الأرصفة الضيّقة نشأت ثقافة المقاهي، الّتي احتلّ الفنّانون
زواياها كي ينتقوا موديلاتهم من رواد المقاهي باختلاف مرجعيّاتهم الاجتماعيّة بمن
فيهم نُدُل المطاعم، وعمّال المناجم. هكذا أصبح فنّانو الشّوارع وسواهم من نجوم
الهوامش مركزًا. هكذا أيضا تعاظم شأن الفرد البسيط في عيون الفنّ الحداثي الواقعي
التّعبيري [14]"كما ظهر لدى فان جوخ، مانيه، سيزان وأوجين ديلاكروا"، ثمّ
عبر [15]"التيّار الواقعي التّجريدي لدى بيكاسو في مرحلة
متأخّرة، هذا الفن المجرد من الهيئات البشرية والخالي من اية
مظاهر حسية احيانا، أمكن لهُ أن يُغيِّرَ حتّى نظرة المُحافظ على الجماليّات
الملموسة في الاشياء وعلى اشكالها الحية، وهو “ فن مفهومي” بكل معنى الكلمة"
2.4
البورتريه، ولغة
الجسد
أمّا لماذا أورِد هذه النّبذة المُختصرة عن قوّة
البورتريه في الثّقافة الفكريّة تحديدا والفنيّة لاحقا فلأنّها انطبعت مباشرة في
الأدب الجميل حين أصبح الفرد مركزا ومحورا فيهِ، ولِبَطَل لا يختلف كبار الكتّاب على
أهميّة حضورِهِ، بل تعدَّتْها لِصورة حضورهِ وفنيّة تقديمهِ لقارئ نهم. تَطَوُّر
البديل الفنّي لظهور البورتريه البطل في رسومات فنّاني المرحلة انتقل بالعدوى لشعوب
العالم وفنّانيهم و(لستايلِهم) (their style) ، في تحوير الشّخصيّة الأدبيّة البطلَة،
كلُغة جسديّة مُؤثِّرَة، في روايات المراحل المختلفة. وإذا كان (رحّال العوينة) قد
أفاد من تجربة رسم (موديل، طِراز) البطل المُطلق في رواية (هوت ماروك) فهو قد أفاد، دون شكّ، من منافسات التّجريب الرّائج في الرّسم التّعبيري (expressionism)والانطباعي Impressionist)) المُدهِش وفنّ
الكاريكاتور، (caricature) (المُطَعَّم بالتعبيريّة المُشبَعة، والانطباعية
التّأثيريّة) تحديدا كما حوّرَهُ ياسين عدنان تعبيرا كَلاميّا في روايتهِ. وفيها لخّصَ
(العوينة) بواقعيّة قُصوى، قمّة السّخرية، قمّة الدّونيّة، قمّة الاستلاب
والسّيطرة، وقمّة البطولة في ذات الوقت، بطولة لم يَجِد حرجا في تفتيتِها على من
حولهُ كلّما تورّط في مصيبة. وإذا كان عدنان نفسه لم يُلقِ بالًا لمحوريّة المُجابَهة
الّتي فتحها بطَلُهُ، وترجمها جسديّا إذ أشرَعَها على الفنّ التّشكيلي
الكاريكاتوري تحديدا فإنّ ناشريَه الفرنسي والأمريكي قد فتّحا عيونا مِجهريّة على
الظّاهرة، وحوّرا المضمون الكُلّي لأبعاد [16]"بطل الرّواية المُتشظّي على أغلفة العملين المترجمين،
إلى الفرنسيّة أوّلا والإنجليزيّة ثانيا".
2.5 بين البورتريه
المَشهَدي والفنّي
ليست الصّدفة وحدها ما يسوقني لاستظهار
مصادر نشأة البورتريه، ولكن كثافة تمَكُّن أبعادهِ في رواية عَدنان في السّياق المضموني والشّكلاني على حدّ سواء، ابتداء بظهور
"العوينَة" في حيّ الاسبست العشوائي الفقير في عين إيطي إلى أن استقر في شقة محترمة
بحي المسيرة بتوازٍ مع إقامته الإلكترونية، الّتي أسّسَ لها على شبكة الانترنت وباتَ
يُمارس منها غَزوَهُ اللّامحدود للعوالم الافتراضية شرقا وغربا. ولعلّ بورتريه التّرجمة الفرنسيّة، (الصّادرة
سنة 2020 عن دار أكت سود، سلسلة السّندِباد) أفاد تحديدا من الصّورة الأخيرة الّتي
وصل إليها رحّال بتفاصيلهِ الموحية بالاستقرار والرّاحة حتّى أنّ مُصمّم لوحة الغلاف، (رسّام البوب
آرت الجزائري هشام كاوة الشّهير بلقب "الموستاش" El Moustach يحرص على إخراجهِ بوقفة [17](كونترو بوستو) ونعني، [18]"إلقاء كامل الجسد من منطقة الخصر حتّى القدمين على
السّاق اليمنى وتحرير السّاق الأخرى، مع استلقاءة حُرّة مُرتاحة لكامِل الجسد إلى الخلف."
فالواضح أنّ القائمين على إخراج العمل فنيّا، رسّام الغلاف الجزائري
الموستاش ومعه مُصمِّمتُه الفرنسية جوليانا بارولت Juliana Barrault قد تتبّعا
خطّ الدراما الّذي مشَتْهُ الشّخصيّة، (نصيّا) حتّى وصولها للوضعيّة الأخيرة،
(فنيّا) الواضحة بتفاصيلها الدّقيقة وألوانها الإكزوتيّة، وهي الصّورة
النّموذجيّة لبطل هوت ماروكي بامتياز. ليس بكثير من الذّكاء،
ولكن بقليل من دقّة الملاحظة. واللّوحة، لوحة الغلاف،
هي تأطير فنيّ جذّاب للمَشاهِد المُجزّأة في الفصول، والفصولُ مُجتَمِعةً،
خَرجتْ برافدٍ فرديٍّ مُشبَعٍ بالكلام، طبعة طبق الأصل عن (رحّال)،
لكنَّ مُحَوِّريهِ فَنِيّا سَلّحوهُ بإطباقِ الفمِ استرسالا للتّداعيات، وهي حركة
استفزازيّة يعتمدها الفنّ الكاريكاتوري عُموما في تثوير المُشاهِد أو القارئ.
بهذه الطّريقة استحال الحدَث المَشهَدي لِمُتخيَّل لوني يقع بين التّعبيري والواقعي
بملامِحِهِ المُجرّدة كي يمنحَ القارئ فرصة لإسقاطاتٍ لا حصرَ لها تنضَوِي تحت
مضامينَ طُوفانيّةٍ غرقَتْ بها كلّ الشّخوص بمن فيهم البطل نفسه.
ورغمَ جُنوحِ لوحةِ غلاف الطّبعة الفرنسيّة للتيّار الواقعي التّعبيري (expressive realist)
غير أنّ مذهبَهَا يخونُ في كثيرٍ منَ المواضعِ التيّار التّعبيري
الصّافي (pure expression) لصالح الكاريكاتوري (caricature)
عبر مسحات الفُرشاة باتّجاه الأزرق المُتَماوج، والخطوطِ اللّونيّةُ الدّاخليّة،
والظّلال. تكثيفُ الظّلالِ بِلَمَساتٍ فنيّةٍ مُتفاوتةِ العُمق مَنَحت طابَعًا درامِيّا
انفِعاليّا للّوحة، إلى جانبِ حِرصِ الفنّانِ على تشديدِ الكُونتور
(الخطّ البارِز المؤطّر) لإبرازِ إجّاصية الوجه مثلا، أو مِرآة العينين،
ثُمَّ الحرصِ على تشديد الأسْوَد الفاحم في اللّحيةِ وشَعرِ الرّأس.
ونحن إذ نُذيّل ملاحظاتِنا بالاستدارات المُشدّدة الواضحة حول عينين
مشوّشتي الرّؤية وسفحِ الوجهِ نُعلنُ خاصيّةَ جذبِ القارئ للرّواية،
المُعتمِدة أساسا على الميزة الفِطريّة في المسحِ الفنّي النّاعِم،
كأنّكَ تراه ولا تراهُ إمعانا في تحجيمهِ وتقزيمِ حضورهِ مهما انتفخَ جسديّا.
[19]"ففي حال رسم الوجوه والشخصيات الكاريكاتوريّة،
نحتاج إلى عين قادرة على التقاط النقاط المختلفة أو المميزة للوجه
والتأكيد عليها أو المبالغة في إظهارها". الإضافة النّوعيّة يسجّلها
الطّربوش التّراثيّ الّذي يتمسّك بالرّأس بلونهِ الأحمر الفاقِع كمصدرِ إدهاشٍ
وتأكيد على تمسّك البطل بالتّقاليد وانسحابِهِ الكامل لدائرَةِ انتمائهِ المُغلقة
شأنَ قُبَّعَتِهِ تماما، وعلى خلفيّة خضراء تذكّرنا بمَغربيّتِهِ القَحيحة. فلوحةُ
الغِلافِ كانت موفّقة حدّ تجاوُزِها لتقديراتِ مُصَمّمة الغلافِ نفسِها،
عِلما بأنّها التقطت بذكاء إِسقاطات الصّفات الحميميّة المُميّزة لهويّة البطل،
الطّربوش المغاربي الأحمر الّذي يعتمِرُهُ مقابِل عنوان الرّواية بذات الأحمر
الحار الصّارخ على خلفيّة خضراء باردة واسِعة. وهكذا يتمارى الطّربوش
بعَلَمِهِ ويُقابِلُهُ روحيّا وماديّا. حرارةُ الغِلاف بِأحمرِهِ الصّارِخ، نقيض
التّفاصيل الباردة الّتي فسّرها الأخضر والأزرق طَبَق على طَبق
في شخصِ البطَل. أقيسُ الأمرَ على نِسبةِ المَبيعات، والتّقاريرِ
الكثيرةِ الّتي صدرَت بحقِّ الرّواية، ولنْ نَعزُو السّببَ للمضمونِ وحدَهُ،
فالدّارُ راهنت على عملٍ نظيفٍ مُثيرٍ يستدرجُ الفُضولَ والتّداعياتِ،
وللمعلومةِ نادرا ما نعثرُ على أغلفةِ كُتُبٍ لاقت الإقبالَ الّذي حظيَت بهِ (هوت ماروك).
2.6 الغلاف المُرتَبك
بعودة سريعة لغلافَي [20]الطّبعتين العربيّتين، (دار الفِنِك / الدّار البيضاء،016) و(دار العَين / القاهرة،016) سنستنتج دون جُهد كم يبدو الغلافان معًا مُجحفين بحقّ مضمون الرواية وفكرتها الفنية. والغريب اللّافت أنّ المُصمّم في الطّبعة الصّادرة عن (دار العَين) التقط المعنى الأوّل الّذي أوردهُ الكاتب في وصف البطل عبر شبهِهِ البالِغ غير المُفسَّر بالأرنب، أرنبٌ أبيضُ حقيقيٌّ مزيّنُ البطنِ بمَا يُشبِهُ ذيلاً، لا يمكنك أن تميّز لأيّ من الكائنين ينتمي، الأرنب أم السِّنجاب، ولمن يتحيّز أكثر بينهما. هذا الارتباك الّذي يوزّع القارئ في خياراتهِ أيضا لا يترك مساحة لمخيّلتهِ أن تقرّر انحيازها، هل يكون لشكل الذّيل غير الواضح أم لصورة الأرنب ناصعة البياض.
وإذا كان الأرنب حقيقيّا في الرّواية لماذا يحتاج أن يَقرأ عنه، وهو يعرف الكثير عن عالم القوارض؟ لكنّ التّصادم الحقيقي يجري بين الغلاف العربيّ الآخر الصّادر عن دار الفِنِك مقابل غلاف (دار العَين). فهناك وضع المصمّم زجاجة مكبِّرة على وجه السّنجاب أو الأرنب الّذي نتحدّث عنه. وغالبا انحاز للوجه دون أن يهتمّ مثلا للذّيل الّذي يُحدّد هويّة الكاريكاتور الّذي يقصدُه، وسواء كان أرنبا أم سنجابا اعتُبِرا سيّان بمنظور المصمّم، لكنّ الإصرار على جنس القوارض ظلّ في عمق الفكرة الّتي تبنّاها مصمّم الغلاف والدّار الّتي يمثّلها. بالمقابل منحَ المُصمِّم الرّأس السّنجابيّة جسدا إنسانيّا يذكّرنا بشخصيّة الميناتور الأسطوري الّذي يعتمد على رأس إنسيّ وجسد تنّين. هذا الدّمج النّوعي، برغم السّذاجة الّتي اعتمدها في ترتيب جسد الرّواية فنيّا، إلّا أنّها منحت أفقا للقارىء كي يفهم معنى حضور الكائن القارض في رواية من هذا النّوع، ما لم تتنبّه لهُ (دار العين) بتاتا. وما سأخلُصُ إليه أنّ السّذاجة الّتي اعتُمِدَت في صناعة الغلافين العربيين ليست بريئة من غياب المِهنيّة. بأسفٍ أورد ملاحظتي، [21]"بسبب انشغال المِّصَمّمين بالمعنى الشّكلاني لأبعاد البطل. كأنّ الفكرة المضمونيّة التّخييليّة هامشيّة في عُرف التّحوير الفنّي ما لم تستسغهُ ذائقتي ولا قلمي". وسأشدّد هنا على انشغال الفنّ التّشكيلي بأبواب كثيرة في التّفنين المضموني ليس آخرها فكرة التّحوير الفنّي، باب مستقل في مُحاورة النّص للفُرشاة، الجرافيت والألوان بتقنيّاتها المختلفة. يُضافُ لها الألوان المائيّة، الحبر الصّيني وسواها، لكنّ الواضح أنّ التّركيز على الحبر في التّحوير النصّي هدفهُ ترجمة مفردات الوصف الكلاميّة إلى خطوط دقيقة أو مبعثرة شرط أن تستجيب أيضا في تَبَعْثُرِها لِفكرةِ التّفنينِ التّخييلي. صِفةٌ نكادُ نفتقدها في ثقافةِ الأغلفةِ لدى دورِ النّشرِ العربيّة عُمومًا، إلّا فيما نَدَر. وخِلافاً لِما يَجري في دورِ النّشرِ العربية، فالغلافُ الّذي يُقدِّمونَهُ لكَ في الدور الأجنبية غالباً ما يقتَنِعون بنزاهةِ فِكرتِهِ وعُمقِ عَلاقتِهِا بالمَضمونِ واشتغالِها على مِساحةِ الشّغَفِ التّلقائي لدى جُمهورِ القُرّاء لِثَقافَةِ البلد، وأَعْنِي أنَّ الفِكرَ التّسويقيّ يَشتغِلُ بِقوّةٍ في الخَياراتِ الفنيّةِ للغلافِ.
وإذ نصِلُ لِمَرحلةِ الاستنتاج،
فإنّنا نُسقِط أغلفةِ الدّارين من اعتباراتِ التَّحويرِ المِهنيّ لِغلافِ الرّواية،
رواية تَنشغل أساسا ببطلٍ وُجوهُهُ غيرُ ثابتة، لكنَّها جميعاً لامعةٌ ومتداخلةٌ،
تنكمِشُ بِقدرِ ما تنفَتِحُ، وتستتِرُ بقَدرِ ما تُعلِنُ. دَورُ المُصمّمِ أن
يشتغلَ على مساحاتهِ التّخييليّة بقدر ما يفعلُ للمَشاهِد المضمونيّة الّتي تعتني بأثر
الشّخصيّة المركزيّة على جهات الرّواية كاملة، وهو ما لم ينشغل بهِ أيٌّ من تصميمي
الغِلاف العربيين، (دار العَين، والفِنِك) مع محاولتهما الجادّة
الإلتفاف على فكرة نوعيّة لم تُفضِ إلى إنجاز يمكن التّوقف عند خصوصيّته المهنيّة.
ولعلّنا لا نبالغ هنا حين نستعرض النّماذِج المُهينة لمنطق الإخراج اللّوني لدى
معظم دور النّشر العربيّة الّتي تجد في النّمط التّجريدي منجى لها من المساءلة حول
إسهاماتها في دعم الحضور اللّوني النّوعي لمؤلّفاتها. لن نُشيدَ بالأسماء اللّامعة
الّتي تعتمدها، ونشكّها بدبّوس الرّواج المُفترض، لأنّها تأشيرة سفَرِها المفتوح إلى القارئ.
هكذا، وبالعودة إلى الخلل الفكريّ الّذي نقاومه نحن ونثور على نمطيّتهِ وخلَلِه
سنكتشف دون جهد أنّ واقع التمهّن اللّوني في إصدار الكُتُب غائب تقريبا عن دور
النّشر العربيّة إلّا فيما ندَر، لاعتبارات لن نخوض في مرجعيّاتها بسبب غياب مصداقيّتها
مهما تَكُن. وإذ نستذكر غلاف الرّواية في ترجمتها الحديثة إلى الإنجليزيّة يجب أن
نتذكّر ثقافة البلد وطابعها الفِكري التّفكيكي في التّعامل مع مُسمّيات الثّقافة،
ومرجعيّات الأدب في طابِعِهِما العام، وبالتّالي تصميم أغلفة هذه المَظاهرِ وعلى
رأسِها أغلفةُ الكتب. فهل سنتوقّعُ اتّجاهاً تَعبيريّا أم شيئا لم يخطرْ في بالِ
الفِكرةِ التّخييليّةِ مُطلقا؟
2.7 بين الفكرة الرّوبوتيّة
والمساحة التّفكيكيّة
قفزة سريعة من الغلاف العربي (المغربي، دار الفِنك)
مرورا (بالمِصري، دار العَين) إلى الفرنسي (آكت سود /باريس، فرنسا) إلى الأمريكي
الصّادر عن (منشورات جامعة سايرا كوز /نيويورك، الولايات المتّحدة) ستمنح وضوحا
لمستوى التّحليل الذّهني لدى القائمين على إخراج العمل، كلّ وفق ثقافتهِ، وهواجس
جمهوره. فالواقعيّة القاسيّة الّتي طَبَّعت الغلافَ الكاريكاتوريّ دونَ إقحامِ
البُعد الذّهني في الطّبعة العربيّة، لدى (دار العَين والفِنِك) على حدّ سواء لم
تمنح فائض مخيّلة لقارئها كي يعبثَ بتصوّراتِهِ السّاخرة على الأقل، في حين ركّز
الهجس التّخييلي imaginary obsession)) على الدّمج التّقني التّعبيري expressive technical) integration) أسلوبا وشكلا في الطّبعة الفرنسيّة،
بل نكاد نقول إنّ الفيض التّعبيري بالذّات قنَص القُرّاء بمصيدة إكزوتيّتهِ. أما الفَيْضانِ
المُتعاكسان بين الفرنْسي والعربي، (الفِنِك) حصرا، لالتِغاء شروط المعايير
الفنيّة في تصميم (دار العَين، القاهرة) فقد أحرَجَهُما الغلافُ الأمريكي القاسي
في نَصِّهِ اللّونيّ الصّلب. فهو يجنحُ للفكرةِ الرّوبوتيّة، The
Robotic Idea)) في
التّعامل مع عالم الرّواية وبطلها "النبّاش" (رحّال العوينة). [22]"وعلينا أن نلتفت لحقيقة هامّة أنَّ المصمم الذكي هو الذي يأتي بشيء مغاير
احترافي وجذاب حتى يثير خيال القارئ ويحرص ألا يكون التصميم ترجمة حرفية لما يدور
في داخل النص". وخلافا للتيّار الكاريكاتوري في خاصيّتهِ التّعبيريّة الّذي تبنّتهُ الرّؤيةِ الفرنسِيَّة
يجنحُ المنطقُ الأمريكيّ في تحوير الغِلاف للمُصمِّمة الأمريكية Lynn Wilcox، (لين ويلكوكس) نحوَ تفكيكِ عالم العوينة الدّاخلي تفكيكا ذهنيّا وإعادة
تركيبهِ كقطع بازل. وفي التّفكيكِ والتّركيبِ معا منطقٌ تراكميّ لهواجِسِهِ مع القارئ،
الّذي سيتساءل مرارًا عن حجم الجسد وتفاوت أحجام أجزائهِ. وللتّذكير فقط، لوحة
الغلاف للفنّانة O.DARKA، منها اجتُزِئ مقطع عثَرَت فيهِ المصمّمة Lynn Wilcox على
تطابق نوعيّ مع شخصيّة (رحّال). وربّما من المناسب أن نشيرَ هُنا لظاهرة يليقُ أن
نحتفي بحضورها، فاللّوحة الأَصليّة تتوفّر على شُخوصٍ ثلاثة ضمنهم شخصيّة رحّال
المُجتزأة، لكنّ فنيّة التّصميم الفوتوغرافي أملت فعلَ القصّ والتّطوير عبر لمساتِ
المُصمّمة الّتي أكملت العمل، دون أن تشعر بحرج في تبديل بعض التّفاصيل الصّغيرة
في ثوابت الرّسمة. ولعلّهُ من المُناسِب، هُنا، الإشارة لإصرار الفنّان بالعادة على
حضورِ لوحَتِهِ كاملة على الأغلِفة، وأنّهُ يَجِدُ انتقاصا من قَدْرهِا وقَدْرِهِ
حين يَجري إلغاء بعض تفاصيلها، لأنّها ببساطة تكُفّ عن انتمائها لبصماتهِ، وهو ما
أسجّلهُ هنا برَيبة وتساؤلٍ معا، جريا على عادة إطلاق الشكِّ لاستِخلاصِ اليقين. ولعلّ
المثير في خطّ التّطابق اشتغال المُصمِّمَة على المسطّحات اللّونيّة تحديدا، فلسنا
إزاءَ اشتغال لونيّ متمهّن وحَسب، بل انشغال تكنيكيّ على التّجاذب بين المساحات
اللّونيّة المُختلِفة، وتبادُلها التّأثيريّ، كمفاهيم التّضاد، The contrast))، والتّكامُل اللّوني،
Color integration))، مع تجنيد كاملِ خُطوط الوصف الخارِجي، (External description lines) الخاصّة بأَبعادِ الجَسَد. وهو ما يضيف تشديدا على حضور الشّخصيّة
الكامل جسديّا، ولو تفاوتت تقاطيعُها.
شكلُ التّفاوتِ بين أعضاء الجسد، يُحقّقُ معادلةَ فَنِّ الكاريكاتير في
بعضِ خصائصِهِ، )التّشويه، التّقزيم والتّضخيم(،
(Distortion distillation and amplification) على وجه الخصوص، تشويهٌ
يأتي من منطقِ النّص وحيثيّاته. والتّضاد هنا يحفر بقسوة في حدّة
التّداخل بين أثرِ الفعلِ الشّخصي وبصمات الجسد، فالألوان مُجنّدة
تماما لهذا الغرض. إذ تبدو الأقدام ممسوحة بينما الكفّان
تنتهيان بأظافر حادّة وليس أصابع نعرف وظائفها. أمّا الميزة الجوهريّة
في اللّوحة فهُما منطقتا الرّأس والعُنُق، فالعنق يستحيل لأسطوانة
ضيّقة مضغوطة مقارنة بالجسد، والرّأس أشبه بليمونة معصورة لانحباس
الهواء الّذي يصل إليهِ عبر العُنُق لِضيقِ إطارِهِ. ونضيف أنّ أفكار تلك
الرّأس ضئيلة، تُفَسِّرُ مُخيِّلَتِها الواسعة المناكبَ العريضة، والصّدر
الرّياضيّ، وهما نقيض الحقيقة الّتي تميّز قامة العوينة الضّئيلة
مضمونيّا، بمعنى الحرص الشّديد على رشّ مسحوقِ السّخرية بسخاء على
أبعاد الجسد. بالمقابِل يُبرِزُ المُصمِّمُ الشَّعر والنظّارة، بِحِدة.
شَعرٌ أسودُ غزيرٌ ويغطّي فروتهُ كاملة، بل ويتدلّى الى مقدِّمَةِ
الجبهةِ كأنّهُ دفيئة للأفكار المتزاحمة لديه يحميها من السّقوط،
بينما يجري التّشديد على إطار النظّارات بلونها الأحمر لتأكيد
انحسارِ الرّؤية، والبصيرة معا. عين واحدة بؤبؤها بارز، وتسبق
الأخرى في التلصّص على حياة البشر، كنوعٍ من محاولة لترجمةِ
الرّذالة فنيّا. وربّما بسبب المساحة الضيّقة الّتي يحتلّها
الأحمر الكونتوري يبدو حضورُها عميقًا ويقنصُ انتباه القارئ
كَمِغناطيس وسطَ بَحرٍ منَ الأزرقِ لِكاملِ الجسدِ المخروطِ بِفرشاةٍ
مُبلّلةٍ بالأسْودِ تخصُّ ساقا واحدة ويدين منفصلتين عن باقي الجسد.
أمّا الإسقاطات الضّمنيّة فتستعيرُ فِكرة السّاقِ الّتي تتسلّلُ
إلى حياة النّاس واليدين بِأظافرها الحادّة كَي تحفر وتغوص في
التّفاصيل، بينما الأحمر والأزرق يُنشِئان تضادّا شكليا contrast))
يعكس تناقضات الشّخصيّة الوجوديّة بأبعادها الكثيرة على خلفيّة خضراء
باردة. هكذا سيقودنا الاستنتاج لفهم حقيقة كون الأخضر،
لونٌ جامع للّونين، (الأحمر والأزرق) كَلَونين مُكمِّلَيْنِ للأخضر،
وأنّ الخلفيّة تنشِئ مع اللّونين الحادّين، (الأزرق والأحمر) تضادّا
وتكاملا في ذات الوقت لكن وسط غياب اللّون الثّالث المُكمّل وهو
الأصفر مُمَثِّلا لِعُنصُرِ الشّمس بدِفئِها الرّوحيّ. والمؤكّد هنا
أنّ غِيابَ الأصفر يُفسِّرُ النّقصَ الجوهري في المنظومة الرّوحيّة تحديدا
لدى (رَحّال) بما أنّ الأخضر البارد يستولي على الخلفيّة كاملة،
فالبطل عاطل عن الدّفء الشّعوري الّذي عوّضَهُ عبر تطوير
حاسّتهُ الجاسوسيّة الحادّة. واللّافِت أنّ التصرّف الحُر بأبعاد
اللّون يشدّنا مباشرة لمنطقة السّخونة عبر كلمة Hot الّتي تنغرز
تاؤها مثل نصل سيف في كفّ العوينة السّوداء، وهي دلالة لونيّة
مجازيّة ناقدة لليد الّتي أَثِمت في أفعال الاختلاس، والدّناءة في
تحرير معلومات حول حياة النّاس السريّة، بل وإغراقها بالنّوايا
الخبيثة عبر عوالمهِ الافتراضيّة الكثيرة وبثّها للمخابرات.
[23]"فغالبا ما تعكس الألوان التي نختارها الكتب التي
نحب قراءتها. وغالبا أيضا يريد المصممون التأكد من أن الكتاب
مناسب للمؤلفين والقراء على حدٍّ سواء".
أسفل الغلاف يظهر اللّون
اللّيلكي المأخوذ هو الآخر من جذور الألوان المُجنّدة في العمل، (الأزرق، الأحمر، مع
غِياب الأبيض المُكمِّل) ومع ميلي لاعتبارهِ متساوقا مع scal (مقياس) الألوان المتجانسة جدّا، [24]"إلّا أنّي أنحاز لاعتبار الأصفر المتوهّج (من أصول الشّمس) أنسب لقوانين التّجاذب
اللّوني في الغلاف، وأكثر تكامُلا مع الأخضر تحديدا. وكلّ الألوانِ معا تُنشئ هنا نِزاعَ قوى تُناقِضُ بعضها بعضاً، تتجانس
معا بقدر ما تتناقض". تتصالح أيضا بقدر ما تتقاتل،
وهي حتما شخصيّة البطل المكوكيّ في علاقاتهِ، المغناطيس الّذي ينجذبُ وينفُرُ بذاتِ
الرّغبةِ والإحجام. بقي أن نؤكّد حرص المُصمّمة الأمريكية على الأحمر مقابل الأخضر
كرغبة ضمنيّة بتثبيت الهويّة المغربيّة، مًتّبِعة بذلك خُطى شبيهتها المُصمِّمة
الفَرنسيّة في فِكرتِها وانتقائيّتها. ومن نافل القول الإشارة لتأثير عنوان العمل،
(ماروك) على إِشباعِ مُخَيِّلة المصمّمتين بالتّداعيات في تأكيدِهِما على حضور
العلم المغربي ممَثّلا بلونيهِ الأخضر والأحمر.
2.8 خُلاصة الدّراسة
هل أمكن لصور الأغلفة الّتي
أغرقنا بها هذه الدّراسة أن تزخمَ التّأويلات الفِكريّة بمِثلِ ما استفادت من اللّونيّة،
أم أنّ الدّهشة لا تزال عالقة في ذات المساءلة؟ للإجابة على هذا التّساؤل من
المناسب أن نعرضَ إلى البُنيةِ الدّاخليّة الّتي ميّزت شَكلَ التّداخل اللّوني
الّذي عبّأَها طاقة واختلافا. لكن، مقابل تساؤلِنا الأوّل سنعرضُ إلى تساؤل فرعيّ
آخر في مركزهِ فكرة تأثير نوعيّة التّداخل اللّوني، (والثُّنائي تحديدا) على كَمِيّة
الأغلفة الّتي وصلت لِيَدِ المُتلقّي. هل نجحت النّوعيّة في تثوير المفهوم
التّقليدي للنّص الكمّي حين سطت عليهِ، فكانت سببا في انتشارهِ؟ هل اختلفَ شكلُ
احتِفاء المتلقّي بالنّصوص اللّونيّة حين تفاوتت نسبة الغِنى اللّوني، وأسلوب
إخراجِهِا إلى العلن؟
لقد شكلّت فِكرة ال Fusion، (الإنصهار بين نقيضين) حالة استثنائيّة جدّا في تصميم النّصوص
اللّونيّة، (الأغلفة) لدى دور النّشر الثّلاث الّتي تناولناها، فصنعت لونا فنيّا
مستحدثا، ليس فقط لثقافة التّفكير الإبداعي لدى المُتلقّي، بل لثقافة الذّوق
الفنّي لدى دور النّشر حين انتقل التّحديث اللّوني بالعدوى، وجعلت كُلُّ دار تُفَتّشُ
بلا كلل عن ماركة تَخُصُّ بَصمَتَها الشّخصيّة في تصميم النّص الأدبي. حصل الأمر تحديدا
لدى دور النّشر الأجنبيّة، (أكت سود_ باريس، ومنشورات جامعة سايراكوز، نيويورك)
لكنّ البدايات المتواضعة لدى دار النّشر العربيّة الوحيدة الّتي غامرت في إخراج
نصّها اللّوني للعَلَن، (دار الفِنِك المَغربيّة، الدّار البيضاء) فاجأت هي الأخرى
لكن مُفاجأة سلبيّة أكسبت المُتلقّي نُفورا جاذبا دفعَهُ لاقتناء الغِلافِ بدافِع الرّغبة
في فهمِهِ بِدايةً ليس إلّا. كأنّهُ فازَ باختراغ لُغويّ لم يكُن بالحُسبان هو (النّفور
الجاذِب) على صُدْفَةٍ مُؤكّدة. لقد أدّت الطّاقة السلبيّة الصّادرة عن التّصميم
الغريب للغلاف لابتعاد يُوازى مِقدار الجذب لدى المُتلقّي، إذ ماذا يعني التصاقُ وجهٍ
فَأري بِجَسَدٍ إنسيّ، وكيفَ يتعيّنُ عليهِ المرورُ برِوايةٍ من هذا النّوع
مُعلِنا لامبالاتَهُ؟ من هنا استحال فِعلُ القِراءة لمشروعِ تجسُّسٍ بامتياز. هكذا
أيضا شَمِلَت خِطّة البَطَل المُتلَصِّص على الحياة قارئَهُ، الّذي اقتناهُ برغبةٍ
استيلاءٍ كاسِح على عالَمِهِ، فخَرَجنا بعمليتي سلبٍ لم نتوقّعهُما. الأولى
تتمثّلُ بسلبِ البطل أَسرار النّاس عبر لُصوصيَّتِهِ المتمرّسة تجاههم، انتقلت مِنهُ
لقارئ شَغِف باكتشاف أسرارِ البطل ذاتَهُ عبر لُصوصيّة مضاعَفة عَليهِ وعلى مضامين
العَمَل معا. وعليهِ نستنتج نحنُ، المتابعين لسيناريو تداعيّات التّصميم الفنّي
حقيقة مُدهِشة تعلِنُ الغُموضَ سببا في إثارةِ الفُضول ثمّ الإقبالِ على اقتناء
الغلاف، برغم الذّعر الّذي تُسَبّبُهُ لوحتُهُ للمُتلقّي. كلّ هذا يجري وسط تَرَدٍّ
ملحوظ لِمُستَوى التّصميم الفنّي المُعتَمد، إذ لن نختلفَ في اختلالِ المعايير
الّتي نُسِبَت لتفاصيل البورتريه العرَبي. اختلال أفشلَ خطّة الإنتشار المَرجُوّ
كانت المَشرِفة على الدّراسة إحدى ضحاياهُ. وكلّ هذا لا يتعارض مع منطق (النّفور
الجاذب) لأنّهُ أساسا لم يُغَذِ غير أسباب التّراجُع ذاتَها الّتي حرّضت المُتَراجِعينَ
على عودةٍ مُجَدَّدة، لأنّ المرفوض غالبا يخلقُ مُحرِّضا مُضاعَفاً على الإقبال.
مقابل (النّفور الجاذِب) يُعلِنُ
الغِلاف الفرَنسيّ، إشباعا تعبيريّا عالي الجَودةِ والجَذبِ معا. فضمن منطق (الإنصِهار
بين نقيضين)، تتكسّب شخصيّة البطل السّلبي، (رحّال) من فضائل اليزيد (الإيجابيّة)،
نقيضهُ الأخلاقي، حسيّا ودِرامِيّا. هذا الإشتباكِ بين المُتضادّات تُفسّرهُ وضعيّة
البطل في البورتريه الّذي يتصدّر الغِلاف، والّتي أدّت حتما لإثارة فضول المتلقّي
حيالها. فالبورتريه الّذي حرص على تشكيل ثنائي غنيّ مضمونيّا داخل الوضعيّة
الواحدة، جنّد بذكاء أساليب فنيّة غنيّة أيضا مزجت التّعبيريّة بالواقعيّة بالكاريكاتوريّة
وخرجت على المتلقّي بغلاف ينطِقُ دهشة روحيّة بعيدة الأثر، ومعروف أنّ استغلال
الطّاقات الرّوحيّة الشفّافة للمدارس اللّونيّة أداة بالغة الخصوصيّة في جذب
المتلقّي، فالرّوح الّتي تتشبّع تفتِنُ العَين المُستَقبِلة مُباشرة.
خلافا للتفرّد الّذي يعلِنُهُ النَصّ اللّوني الفرنسي عبر شفافِيَّتهِ وعُمقِه،
يتّبِعُ الغِلاف الأمريكي منحى مناقضا تماما للمدرسة الفنيّة السّابقة،
فارضا منطق التّداخُل بين عالمي البطل الواقِعي والافتراضي مرجعا
مؤَسِّسا للغة الغِلاف. فالمدرسة الفنيّة هنا حادّة صارِمة تأخذ من
الطّابعِ المُجتَمعي المادّي الكثير، ولذلك تجدُ في اللّون الرّوبوتي
الصّناعي لغة ناجحة في جذب المًتلقّي. ولذلك أيضا يغلب التّسطيح
اللّوني على عُمقِهِ، وحركَتِهِ على رهافَتِه. هذا التّضاد الفاعل بِعُمق،
وبِمُستويات عِدّة يفرضُ تحدّيات أسلوبيّة حداثيّة في لُغةِ الغِلاف،
حيثُ يَغلِبُ على البورتريه الشّكل الهندسي مَدعوماً بِالمِساحة اللّونيّة،
المُثلّث مقابل الأُسطُوانة والدّائرة. ومُخالِفا تماما للمنطق الجَمالي
المُعتَمَد في التّحوير الفنّي لدى غريمِهِ الفَرَنسي. والتّغريم الجمالي
للغِلاف من عَين المُتلقّي هو من يدفعَ ثمنَهُ وبِسَخاء. [25]"فالكتب تحتاج
أغلفة تصِل القارىء بالخيار الصحيح. فدار النّشر مطالبة
باختيار الألوان والصور التي تتيح للقراء معرفة ما إذا كان هذا
هو نوع الكتاب الذي يبحثزن عنه وسيستمتعون به" كما أنّنا
وهكذا لن نجتهِد في حكمنا على الغلاف الفرنسي ونحنُ نُعلِن أنَّ مصادرَهُ
المرجعيّات الفنيّة لباريس المكان الزّخمة بالمعالم وصُنّاعِ الإِختِلاف،
متحف اللّوفر نَموذَجا.
3. دائرة مفتوحة على اجتهادات مستقبليّة
إنّ الواضح من هذه الدّراسة أنّ الحرص على القراءة اللّونيّة يمتلك من القوّة بمثل ما يمتلك مضمون العمل الأدبيّ
(هوت ماروك) الّذي تنشَغِلُ بهِ عموما، وتأويلات
أبعادهِ يعرفها قلّة جرّبوا كفاءة الألوان في تعارُضاتها، وهي حاضرة في الثّقافة
التّسويقيّة الغربيّة أكثر من سواها، لأنّها تخضع لمعايير التّسويق التِّجاري شأن
أي مادّة استهلاكيّة أخرى وهدفها تزويد البيوت بالثّقافة كما يزوَّد الطّعام
تماما، وهذا بالعموم ما تفتقدُهُ الثّقافة الشّرقيّة الّتي تسلَخُ فرع الثّقافة عن
المنظومة الاستهلاكيّة فيظلّ عزيزا ومُنزّها، غريبا وبعيداً عن احتياجات البشر، كأنّ
الرّأس لا تحتاج أن تمتلئ كما المَعِدة تماما. وعليهِ أرى أنّ النّظام التّسويقي
للثّقافة العربيّة مُمَثّلة بأدَبِها المنثور والمنظوم يجب أن تخضع لمعايير جديدة في
أشكال استثمارها، وعليها حتما أن تنضوي تحت منظومة الاستهلاك الأساسي للفرد كي
ننقذ رافدا غنيّا من روافد الإنتاج الإنساني الحضاري من الهلاك والنُّفوقِ. فالثّقافة
تُستَهلك بقدرِ ما نُهيِّئُ لها من مُحرِّضاتٍ للإقبال عليها، استدراجًا، إغواءً
ثمّ إلزامًا، "[26]ففي الآونة الأخيرة توصلت دور النشر، إلى أن تصميم الغلاف يسهم بنسبة خمسين
بالمائة، في إعطاء الكتاب أهميته وقيمته". ومن هذا الباب تُثار فِكرة التّسويق الفنّي عبر ماركة التّصميم
الإستثنائي لدى دور النّشر العربيّة جريا على ما يحصل في دور النّشر الغربيّة.
ونعني بالضّرورة تأصيل بصمات التّصميم الفنّي الخاصّة بكلّ دار نشر على حِدة وفق خطّة
لونيّة تخصّ ماركة التّصميم. يجب أن تُثار مسألة الوعي القيمي لخاصيّة التّصميم
اللّوني كمرجع تسويقي استثنائي من الدّرجة الأولى كي تنهض دور النّشر العربيّة بثقافتِها
الورقيّة، بل وتبادر لِطَرحِ خِطّة فيما سنصطلحُ على تسميتهِ بالتّسويق الثّقافي،
كي يستعيد هذا المُنتَج الورقي حضورهُ وتأثيرهُ على جماهيريّة التلقّي.
لقد حدث
في استحضار رواية (هوت ماروك) كمُنتَج ورقي غير تقليدي في تصميمهِ وتسويقِهِ معا عرضا
إلى طُفرَة أدبيّة لم ينجح كُثُر في تحقيق إنجازاتِها. ولهذا السّبب تحديدا ستظلّ
دائرةُ الأغلفة مفتوحة في هذه المقاربة الفِكريّة الزّخِمة شَكلاً ومضمونا كي تتيحَ
لترجمات جديدة أن تؤدّي دورها في تغيير أشكال التّصميم الفنّي لأغلفةِ الكُتب في المشرق
والعالم العربي على وجهِ الخصوص.
أغسطس / آب، 2021
المصادر
- رواية هوت
ماروك، ياسين عدنان. دار الفِنِك. الدّار البيضاء، المغرب، 016
- HOT MAROC,
YASSIN ADNAN. Traslated by; France Meyer. ASSINDIBAD, ACTS SUD.
PARIS,020
- HOT MAROC, YASSIN ADNAN. Translated by; Alexender E. Elinson. Cyracuse Un Press. Ougust 021
- )العلاقة
الموضوعية بين الشكل والمضمون في العمل الادبي وجهان
لعملة واحد..(، مقالة، ايناس الحُسيني.
الاثنين ١ أيلول (سبتمبر)
٢٠٠٣. ديوان العرب
-
(الفنّ التّشكيلي
والكاريكاتير، هل تتكامل الخطوط؟)، مقالة. اعداد: فادي فرنسيس. 7 يناير. روز
اليوسف، 019
- (أغلفة الكتب، معارض للفنّ والثّقافة)، مقالة. د.مروة
الصّيفي, الأهرام. 17 ديسمبر 2019، العدد 48588.
- (البطل في الرّواية العربيّة الحديثة، مُهمَّش وممسوخ وغير قادر على الفعل)، مقالة، أسماء السّكوتي. مجلّة الدّوحة، أغسطس 017. العدد 118، (ص96- 98)
- (هوت ماروك لياسين عدنان .. فيضان سردي وصناعة الرّأي
العام)، (مقالة). محمود الغيطاني، 23 آب، 020 .
موقع
هسبرس.
- “Color Theory for Designers, Part 1: The Meaning of Color”,(Article). Cameron Chapman Updatedmay 2021 .Twitter, LinkedIn
- ناشرون يرونها وجوهاً للمضامين، أغلفة
الكتب.. حب مـن النظرة الأولى. (مقالة). الإمارات اليوم، اكسبو 020
- "بيكاسو والشّرق الإسلامي"، (مقالة). أوستاش دولوراي،
ترجمة:حسين هِنداوي. 17 أغسطس، 2016،ص 1
- MICHELANGELO, Painter,Sculptor and Architect. Angelo Tartuferi.
P,18-21. A.T.S/F.P.e. Colour separation: Studio Lito 69. Florense. Printed
by Papergraph 1993/ITALY
- في
مآلات الكاريكاتير العربي"، (مقالة). بطرس المعرّي. 31 ديسمبر 020 . العربي
الجديد.
- هوت ماروك، (دار الفِنِك / الدّار البيضاء،016) و(دار العَين / القاهرة،016)
- جدل العلاقة بين القناع و المتن في تصميم أغلفة الكتب الأدبية"، (مقالة). عبد الحسين عبد الواحد عبد الرزاق. الأكاديمي. مجلّد 2019. العدد 91، (31 مارس\ آذار 019) ص227-238، ص 12. جامعة بغداد، كلية الفنون الجميلة.
- أغلفة
الكتب تتكلم، (مقالة). د.صفاء إبراهيم العلوي. جريدة الوطن، البحرين. الاحد 24
نوفمبر 2019
- “JUDGING A BOOK COVER BY ITS COLOR”, (Article). L.L. Wohlwend Feb 9, 2021. https://bookriot.com/bookcover-colors/
(The colors we choose often reflect the books we like to read. Designers want to make sure the book feels right to authors and readers alike).
الّترجمة الإنجليزيّة للسطر المقتطف من المقالة أعلاه،(من المصدر)
- “How
cover design can increase book visibility by 50% (or more)”,(Article).
by Kelly Morr.
[1] (العلاقة بين الشّكل والمضمون في العمل الأدبي،
وجهان لعملة واحدة). ايناس حسيني. ديوان العرب. ص1
[2] (هوت ماروك) الّتي يتناولها البحث رواية للأديب
المغربي ياسين عدنان. تتناول عوالم النّاس الإفتراضيّة مقابل حياتهم الواقعيّة
بفنيّة بالغة الخصوصيّة. إذ يضعنا الكاتب في خضمّ أحداث تعصف بالمجتمع المغربي
بكافّة أطيافهِ ومرجعيّاتهِ السّياسية والإجتماعيّة المختلفة معتمدا تشكيلة نوعيّة
من الشّخوص الّتي تؤدّي دورها بأمانة من خلال لغة كاريكاتوريّة عميقة، تَغرق فيها التشوّهات
الفِكريّة والنّفسيّة بأسلوب طريف جاذب. في مركز الطّوفان البشري الّذي تنشغل فيهِ
الرّواية تحضر شخصيّة "رحّال العوينة" كدينامو مُحرّك لكافّة أنواع
التشوّهات الإنسانيّة الممكنة الّتي تُلقي بظلالها المتشابكة على حياة النّاس في
مجتمع يغرق هو الآخر بأمراض اجتماعيّة لا تقلّ سوادا عن البطل -السلبي- الّذي يعبث
بها.
[3] (الفنّ التّشكيلي والكاريكاتير، هل تتكامل الخطوط؟)، اعداد: فادي فرنسيس. 7
يناير،019. روز اليوسف
[4] هو البطل السّلبي المُركَب، الّذي يشغل أحداث
رواية، "هوت ماروك". الرّواية الّتي تشغل مركز البحث.
[5] اللّوحة اللّونيّة الّتي لشخصيّةِ البطل، (رحّال العوينة) وتظهر على غلاف
الرّواية
[6] (أغلفة الكتب، معارض
للفنّ والثّقافة)، مقالة. د.مروة الصّيفي, الأهرام. 17 ديسمبر 2019،
الصّفحة.
[7] هوت ماروك" لياسين عدنان .. فيضان
سردي و"صناعة الرأي العام، (مقالة). محمود
الغيطاني، 23 آب، 020. موقع هسبرس، ص3
[8] (البطل في الرّواية
العربيّة الحديثة، مُهمَّش وممسوخ وغير قادر على الفعل)، مقالة، أسماء السّكوتي. مجلّة
الدّوحة، أغسطس 017. العدد 118،
ص96)
[9] اللّيمونة،
هي الوصف الكاريكاتوري لرأس رحال الصّغيرة كتعبير مجازي عن محدوديّتها وضيق أفقِها،
الّتي لم تتّسع لأبعد من أحقادهِ الشّخصيّة على العالم
[10] Color Theory
for Designers, Part 1: The Meaning of Color, Cameron Chapman Updatedmay
20, 2021. Twitter, LinkedIn
[11] ناشرون يرونها وجوهاً للمضامين، أغلفة الكتب.. حب مـن النظرة الأولى. الإمارات اليوم، اكسبو 020
[12] البورتريه
بمفهومه الفنّي، (الصّورة الشّخصيّة)
[13] ونعني
تحديدا المميّزات الّتي عرّفنا وفقها حضور (البطل بمفهومهِ الفنّي، ص5)
[14] "Understanding
Eugène Delacroix through 5 of His Most Provocative Artworks”. (Article). Alexxa
Gotthardt,
Sep 10,
2018 5:14pm. Artsyhttps://www.artsy.net
[15] "بيكاسو
والشّرق الإسلامي"، (مقالة). أوستاش دولوراي، ترجمة:
حسين هِنداوي. 17
أغسطس، 2016، ص1
[16] بطل رواية هوت ماروك، "رحّال العوينة"
[17] إشارة لتمثال
"داود" المُنجز على يد مايكل أنجلو، (قاعة الأكاديميا، فلورنسة، 8
أيلول، 1504).
[18] MICHELANGELO, Painter,Sculptor
and Architect. Angelo Tartuferi. P,18-21. A.T.S/F.P.e . Colour separation: Studio
Lito 69. Florense. Printed by Papergraph 1993/ITALY
[20] (دار الفِنِك / الدّار
البيضاء،016) و(دار العَين / القاهرة،016)
[21] "جدل العلاقة بين القناع و المتن في تصميم أغلفة الكتب الأدبية"،
(مقالة). عبد الحسين عبد الواحد عبد الرزاق. الأكاديمي. مجلّد 2019. العدد 91، (31
مارس\ آذار 019) ص227-238، ص 12. جامعة بغداد، كلية الفنون الجميلة.
[22] أغلفة
الكتب تتكلم، (مقالة). د.صفاء إبراهيم العلوي. جريدة الوطن، البحرين. الاحد 24
نوفمبر 2019.
ص1
[23] “JUDGING A BOOK
COVER BY ITS COLOR”, (Article). L.L. Wohlwend Feb
9, 2021. https://bookriot.com/book- cover-colors/
[24] JUDGING A BOOK COVER BY ITS COLOR”, (Article).
L.L.
Wohlwend Feb 9, 2021.
https://bookriot.com/book- cover-colors/ P:1
[25] “How cover design can
increase book visibility by 50% (or more)”,(Article). by Kelly Morr.
https://99designs.com/. SEP, 2017
[26] أغلفة
الكتب تتكلم، (مقالة). د.صفاء إبراهيم العلوي. جريدة الوطن، البحرين. الاحد 24
نوفمبر 2019. ص2
إرسال تعليق
اترك تعليقك هنا
الرجاء تغيير موقع التعليقات في الإعدادات إلى مضمن