هلوسة I يونس الشرقي

الكاتب: مجلة فن السردتاريخ النشر: آخر تحديث: وقت القراءة:
للقراءة
عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق
نبذة عن المقال: وجاءت صَرخة من حيث لا أحتسب، تصلَّبتْ لها عروقي وتفتت معها حركتي... ثم بدأت أحس بتثاقلٍ يعم قلبي، وظلام يُغلِّف عيني... ثم الفراغ... لا شيء إلا الفراغ

 

مجلة فن السرد
الكاتب يونس الشرقي

هلوسة


فتحتُ عيني ببطء أتحسَّس الضياء، كادت مقلتيَّ أن تفارق النظر لشدَّة النور الذي أعماني... جاهدتُ تدفق فوتونات الضوء نحو شبكتي، وبعد قليل بتُّ أرى بصعوبة الوجه الذي أمامي... وبعد مجاهدة أخرى تداعت معها عضلات عينيَّ، تشكلت قسماته مباشرة بناظريَّ... كان قريبا جدا منِّي، بل أرنبة أنفه تتداخل مع خاصتي... إنه وجهي... إنه أنا.
لم تكن مرآة عاكسة ولا بحيرة نرجسية ترسم قسماتك في استهزاء... بل كان أنا شحما ولحما... فكرتُ في الابتعاد فاستجاب جسمي فورا، غير أن لطافته وخفته جعلتني أبتعد أكثر... نظرتُ حولي لأرى غرفتي كما هي، غير أن ألوانها تغيرت، بل لون الحياة قد تغير... كانت نظراتي تجول بالأركان المحيطة ثم تعرج بين الفينة والأخرى نحو جسمي الممد فوق سريره... اقتربتُ منه بتؤدة، وحملت يدي لملامسة وجهي الذي أمامي، فاخترقته!
هل مُتُّ؟ ... 
هل أضحيت روحا قد فارقت جسدي دون إذني؟ ... 
لا أعلم! ... 
قذف عيُّ الفكر وقصور الفهم القلبَ بجمرة من ضلال وتيه فاشتعل ضبابا وغشاوة حجبتْ قلبي عن السداد.
لكن جسدي قد تقلَّبَ فجأة فوق فراشه واتكأ على جنبه... 
الحمد لله... إنني حي أرزق!
لكن كيف فارقت جسدي الفاني وأصبحت أسبح بالهواء فوقه... فوقه؟! ... نعم لقد كنتُ أطير... أطير كما يحلو لي مُجرد تفكير في الحركة، أي حركة، يجعلني أقوم بها! ... لا أعلم كيف، لكن جسدي أضحى لطيفا خفيفا يداعب ذرات الهواء كما يحلو له.
ثم هذا اللون البنفسجي الذي أصبح طاغيا على الفضاء قد راق لي، وأضفى على الحياة غموضا وأبهة... مزيج فريد... إنه لون المُلوك... أعدت مداعبة بصري بالنظر لأركان الغرفة التي استحالة ضبابية الآن... بل أضحت تكتسب شفافية شيئا فشيئا، كأن الدنيا بدأت تختفي لتترك مكانا لهذا العالم الذي ولجته... 
ربما هو عالم موازٍ أو عالم برزخي.
طردتُ الاحتمال الأخير من سريرتي... كأني أنفض مَوتا سرتْ أنامله بين مفاصلي.
ثم بدأتُ أحس أن روحي –أو أنا، فما عدتُ أدري-تتثاقل وتتوسل الأرض... لكن أي أرض تلك؟
نظرت تحت قدميَّ اللتين أضحيتا بمكانهما الأصلي، بعدما كنت أرفعهما وأُخفضهما كما شئت... فالظاهر أن نيوتن بدأ يزج بجاذبيته اللعينة بهذه الأرض الجديدة... نظرتُ فما وجدتُ إلا بخارا أحمر قد غطى البسيطة من تحتي... وما كادت رجلاي أن تطأ الأرض حتى أحسستُ بلزوجة باردة لامست قدميَّ... كانت المرة الأولى التي أحسست بها، فقد كانت حواسي الخمس معطلة ما عدا البصر... حتى السمع ما عاقرته إلا الآن!
بدأت تخالج عصبونات سمعي أصوات صامتة... ترسل ضجيجها على استحياء كحمم مشتعلة تتوسل سفح البركان، لكنها تصطدم بصخوره المتصلبة... 
كانت السوائل اللزجة هي التي تُحيك سمفونية ذاك الصوت الخافت، تداعب أرجلي وقد سرت بلا وجهة! ... فتارة تتحرك يمينا وتارة تتوسل الشمال بحركتها... كأمواج دقيقة ببحر لا شاطئ له... 
ثم بدأتْ رجلاي في الحركة... لم أفكر في ذلك مُطلقا، ولم تُخالج طويتي رغبات الحركة... لكن الرجلان قد دُفعتا ذاتيا، وبدأت تعقل وجهتها مكتفية بما تُمليه هي على نفسها، وقد هَجَرتْ وتمردت على عقلي الذي طالما طاوَعَتْه، وامتثلت لأوامره الصارمة!
رفعتُ عيني بعدما تحسستُ موقع القدمين، وتيقنتُ ألا هلاك ينتظرني بالأمام... رفعتهما لأجد السماء قد غدَت زجاجا مصقولا يعكس رؤوس خلقٍ كثير. كانت أمهات رؤوسهم تظهر كجيش نمل يرنو على ضحية غير مرئية وراء الضباب... التفتُ لكن لم أر أحدا حولي... أعدتُ العروج إلى المرآة الضخمة فرأيتهم يدبون من بين البخار الذي بات عَطِنا يزكم الأنوف... كانوا بجانبي وقد مُلِئت البسيطة بهم... لكني لا أراهم والظاهر أنهم لا يرونني.
ظللت على تلك الحال مدة من الزمن... لم أقدر على استيعاب حدودها، ولا تقييمها... أهي مدة طويلة، أم قصيرة؟ ... بل هل سرتْ قدماي أم لا؟ ... أتحركت أم لا؟ ... لا أعلم، وما عقفت مادتي الرمادية إلى تقييم الوقت إلا انتكستْ وأصابها القصور!
ما عدتُ أعي شيئا ولا أفقه شيئا... كأن تيها ذميما قد أحاط بي من كل جانب... كأن وحشا أسطوريا قد ابتلعني دفعة واحدة، وها هي ظلال أحشائه تُخيِّم على قلبي العليل... تُغلفه وتقذف به إلى أرض يباب لا قبس نور بها، ولا شعاع ضياء يهدي السبيل.
تذكرتُ جسمي، فأنا الآن أتحركُ بدونه، أو به! ... ما عدتُ أستوعبُ شيئا ولا أفقه سوى هاته المرآة التي تختلس النظر إلي من علِ... ثم هي تستهزئ بي وتمدني بمعلومات لا أراها وبصور لا تحيط بي!
بعد مدة... واعذروني إن استعملت مصطلحا زمنيا لا أفقهه... فهنا لا زمان ولا عقارب ساعة تتحرك... بدأتُ أرى من بعيد تلالا تتذبذب في غنج... تتمايل كأمواج ضخمة متثاقلة... وما كدتُ أقترب منها حتى استحالت سرابا... بدأ المشهد يتكرر معي، وما أكاد أن أصل لإحداها حتى تختفي... أردتُ أن أعرف كُنهها وماهيتها، فخالجت كينونتي فكرة النظر إلى المرآة، فما اقتربتُ من إحداها حتى عرجتُ بنظري إلى الأعلى، فصُعقتُ واختل بصري حتى كدتُ أقع أرضا، لولا أن أمسكتني أرجلاي من الميلان الشديد... فقد قلتُ لكم أنها لا تتبع أوامري، ولا تفقه إلا السير المتواصل!
كانت التلال تظهر كمبان شاهقة... كأبراج مشيَّدة... تملؤها الأنوار والأضواء... يكاد بصرك يخفت وينجلي من شدتها... وذاك ما أربكني... 
وصلت إليها مرة أخرى واختفتْ... حملتُ عزيمتي على راحة يدي أن أغوص بشأنها المرة القادمة، وأن أكشف عورتها بهذه المرآة الكاشفة... فوقع ما وقع واختل بصري مرة أخرى، لكنني لاحظتُ هذه المرة أن أناسا تختفي بجانبها... ربما تلتهمهم أو يلجونها... لم أستطع كشف ذلك... ثم تابعت المحاولات وتابعتُ حتى بدأت مُقلتاي تعتاد وتخطف مشاهدَ أكثر... فمثلا بمرة من المرات شاهدتُ أناسا يرقصون ويغنون فرحين مسرورين وسط غرفة مُظلمة... نعم مُظلمة... ولا أعلم كيف استطاع بصري تلقُّف ذلك... ومرة شاهدتُ شخصا واقفا يمسك بطرف خيط... وقعتْ عيناي بعينه فابتسم في مكر واضح ليُرسل الخيط الدقيق الذي استحال حبلا ثم أفعى غرستْ أنيابها بعنق طفل رضيع... تكرر هذا المشهد كثيرا... لكن الشخص الأول كان يتغير مع تغير المشاهد، أما الرضيع فقد كان بنفس قسمات المرة الأولى... قسمات تجمع رقة الطفولة وبراءتها مع كلفٍ مظلم يتغلل تحت عينيه وأسنان قد نبتتْ لتضفي مسحة من الرعب على وجهه.
كما أن مشهدا آخر بدأ ينبتُ بالمرآة... رجال بيض لا يلبسون شيئا يغرسون رماحهم بقلوب رجال سود... لكن المشهد ما تكرر إلا وقد بُدلت الإمكان فصار السود هم من ينكزوا قلوب البيض.
لكن مشهدا أخيرا بدأ يخطُّ تفاصيله بالمرآة الضخمة... غجرية قد تزينت ونمقَّت نفسها في أبهى حُلَّة... تجري بطريق لا حدود له، وباتجاهات شتى، يتبعها الكثير من الخلق، يحاولون إمساكها، ولا يصلون... كان المخاط يخرج من أنوفهم واللعاب يسيل من بين شفاههم، وأعينهم حالمة مثبتة على الغجرية التي ترسل غنجها وتمايلها مرة بعد مرة، كما كانت تُرسل ضحكات بديعة، تستحيل صراخا مدويا كلما دخلت حيِّز سمع أحدهم... ليقف الشخص بعدها، وتبدأ أعضاؤه في التفتت والانصهار ويختفي تماما، ثم يُعوَّض بآخر، يسير على خطاه ويقتفي أثره... لكن لا أخفيكم سرا أن الغجرية راقت لي، وسلبتْ عقلي وعصفت بفكري... بدأتُ أحس بلعاب سال من اطراف فمي فما قدرتُ على لملمته ولا مسحه... ثم مخاط ذميم قد خرج من أنفي وعينيَّ... وما كدُت أراه بالمرآة حتى جاورت التلال المتحركة فالتهمتني... وبتُّ واقفا أمام الغجرية... مسحتْ على وجهي بيديها الناعمتين وقبلت جبيني كطفل صغير تداعب سريرته حنان الأم وولع العشيقة... حرَّكتُ يدي كي ألمسها، وآثرت طويتي أن تعانقها... فما كدتُ أفعل حتى انزلقتْ من بين ذراعي واستقرت بعيدا وهي تضحك بنبرات تنشر بين مفاصلك رعشة جميلة لذيذة... فتبعتُها... لا أدري كيف لكني اشتقتُ لتلك القبلة وذاك العطر الذي امتلأت به جيوبي الأنفية... اشتقتُ للمسها وعناقها... اشتقتُ لها وما كانت تكفيني تلك الضحكات القليلة التي جادت بها على فؤادي العليل، ولا ما تبْعتُ من أريج خفاق ليخفق معها فؤادي ويترنم على سمفونيتها الأنيقة... لم نكن إلا نحن الإثنين، لا ثالث لهما... 
المرآة؟! ... كانت تكذبُ وتكذبُ... مرآة كاذبة...
أما هاته الغجرية... فهي حياتي ومستقر فهمي وعلمي!
وجاءت صَرخة من حيث لا أحتسب، تصلَّبتْ لها عروقي وتفتت معها حركتي... ثم بدأت أحس بتثاقلٍ يعم قلبي، وظلام يُغلِّف عيني... ثم الفراغ... لا شيء إلا الفراغ... 
وفجأة وبدون سابق إنذار اشتعلتِ النيران من حولي وصار جبيني يتصبب عرقا... حاولتُ مسحهُ... نجحتُ... لكني اكتشفت ماهية العرق... فلم يكن السائل الذي تفرزه مسامي إلا نجيعا أحمر... تقاذفتْ زخاته بعيدا فأضحيتُ كشلالات دم لا تعرف التوقف، سيل جارف من الدماء... ليتلبد ويُحيط بي من كل جانب... حتى إني أردتُ الصراخ فما استطعت... أردتُ البكاء فما استجاب معين الدمع... حاولتُ وحاولتُ ثم أخرجت صرختي من بين أضلعي مُمَزقة غشاء الكبح، ومُشتتة الهالة الحمراء الصلبة التي أحاطت بي.
فتحتُ عيني لأرى نفسي ثانية... انخطف قلبي وطار من بين أضلعي... لكنه رجع فاستقر واطمأن... فقد كنتُ أنا الذي أمامي... وجهي المُنعكس على مرآة غرفة نومي.

يونس الشرقي
التصنيفات

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك تعليقك هنا

ليست هناك تعليقات
2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث