ألزهايمر | محمد فتحي علي

الكاتب: مجلة فن السردتاريخ النشر: آخر تحديث: وقت القراءة:
للقراءة
عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق
نبذة عن المقال: ألزهايمر الزهايمر الزهيمر محمد فتحي علي

مجلة فن السرد
لوحة للفنان حسن عين الحياة

 

#_مشــاتل

ألزهايمر


حركتها الدؤوبة بين مطبخها وغرفة معيشتها، كانت تسليتي الوحيدة، وأنا أجلس وحيدًا تمامًا خلف نافذة غرفة نومي، أشعل سجائري واحدة تلو الأخرى، لا يفصل بيننا سوى حديقة صغيرة محاطة بسياج وردي اللون.

 الحديقة تخص جارتي النشيطة بقوامها الممشوق وشعرها الأبيض كالثلج، اسمها امبروسين، وسيصبح هذا الإسم الوحيد الذي أتذكره، ووجهها، الوجه الوحيد الذي ألفه، بعد أن تم تشخيص حالتي - من قِبل الطبيب- بأنني في بدايات الاعتلال العصبي، الذي يؤثر على خلايا عقلي، أو كما قالت لي امبروسين بإنجليزيتها المضطربة، حتى أفهمها: "هو الخرف يا عزيزي". يومها ضحكنا سَوِيًّا وهي تعتني بنشاط واضح بحديقتها الصغيرة، سألتها مرة عن معنى اسمها، نظرت لي وأسنانها الناصعة البياض تلمع، ثم ضحكت وقالت:  يعني "الخالدة" طويلة العمر، علمت وقتها سِرّ نشاطها المثير لدهشتي وهي تقترب من عامها السبعون مثلي. 

ظهرت أمام بابي يومًا وسألتني: "مراد، ما معنى اسمك؟" فكرت للحظة حتى أستطيع شرح المعنى بطريقة صحيحة وسهلة، اتسعت عيناها بدهشة عندما قلت لها "مراد، هو المرغوب فيه والمحبوب "، مدت يدها قائلة :"تفضل أيها المرغوب، هذا بسكوت بالزبدة، أتمنى لك يومًا طيبًا".

منذ انتقلت للعيش في هذا المنزل، والذي هو في حقيقة الأمر ملك لامبروسين، اعتبرت الحياة على هذه الجزيرة الصغيرة، مكافأة تقاعد وفكرة سحرية للهروب من حياتي الماضية. أصولي الشرقية جعلت جيراني في بداية الأمر يتجنبونني، كان أغلبهم من كبار السن المتقاعدين، لا يتكلمون سوى لغتهم الأصلية، وأنا كنت لا أتحدث سوى الإنجليزية، أو هكذا خُيل لي، فمن الممكن أنني كنت أتحدث لغات أخرى، بحكم أسفاري الكثيرة، لكنني الآن لا أتذكر سوى أنني أتقن الإنجليزية، مما ساعدني على التأقلم مع العجوز امبروسين، والتي عاشت في لندن لفترة من الزمن، وتركت ابنتها الوحيدة هناك، والتي تُطلق عليها عندما تتذكرها في أي حديث بيننا "الساقطة، عديمة الرحمة".

قبل زيارتي للطبيب لإجراء الفحوصات المعتادة، لاحظ- كما هو مكتوب بدفتر ملاحظاتي- أنني أعاني من رعشة في يدي اليمنى، قلت له إنني بالأمس أسقطت كأس النبيذ، نصحني بكتابة ملاحظاتي اليومية، ومن لحظتها أصبحت أراقب جارتي العجوز وأنا في مكاني خلف نافذة الغرفة، والتي هي عبارة عن كوخ صغير ملحق بمنزلها المطل على الساحل.

تلك الملاحظات التي كلما أعود إليها، أشعر وكأنني أقرأها للمرة الأولى، هي إذًا بداية ألزهايمر، خرف من الطبيعي أن يصيب مثل من هم في عمري، لذا أحاول أن أدوّن كل ما أتذكره قبل أن أنساه تمامًا. 

أبلغت امبروسين بكل شيء عني وعن مسقط رأسي، لا لشيء سوى أن يعرف عني أي إنسان من أنا، و أوصيتها بأن أدفن هنا بإطلالة على البحر.

انتظر جارتي كل صباح، وأنا أراقبها كعادتي تتحرك بهمة لإعداد البسكوت بالزبدة، يأتيني صوتها عاليًا مع صوت البحر البعيد منادية "مراد، استيقظ أيها الدب الثقيل، سيفوتك بسكوت امبرو". بالأمس تابعنا سَوِيًّا الأخبار المتداولة عن الهجوم على معبد يهودي يرتاده يهود الجزيرة الهادئة، وتم حرق كتب الصلوات بالمعبد، تقول إن العالم يتجه إلى حافة الجنون، وأهز رأسي غير مبالٍ. 

واليوم وأنا أدون ملاحظاتي في الدفتر، مستمتعًا بشمس الظهيرة، أحاول تدارك أمر يدي المرتعشة، وتغير سلوكي وعاداتي- أُرجعها لكلام الطبيب الممل عن أعراض المرض البطيئة- أقول لنفسي وهل الأمر يستحق؟، أدندن الجملة بصوت هادئ (لا شيء يستحق)...

لا شيء يستحق التفكير في كتابةِ ما يؤرقُ قلبي، لا شيءَ يُجبرني على شراءِ هذا الدفتر، لأعود لعاداتِي القديمةِ وأكتب عن الفاتنات اللاتي مررن بحياتِي الحافلةِ بالسقطات، فقد تقاعدت بعد سنواتٍ في اَلتَّرْحَال بين عواصمِ العالم، تعرفتَ على نساءٍ كثيرات، مزيجٌ من جنسيات مختلفة، منهن الجميلات وأكثرهن كن كأمهات لي، فلا شيءَ يستحق هذا الأمر، سوى وَحدتِي الثقيلةِ على القلب، بعد قراري بأن أقضي بقية حياتِي في هذه الجزيرة الهادئة كهدوءِ المُدن المقصوفة، تسليتي الوحيدة فيها- غير مراقبة جارتي- مشاهدة غُرابٍ اعتادَ زيارة شرفة غرفتي، والتماهي مع رائحة البحر البعيدة، والتسكع حول المنازل الممتدة على الساحل، والتي تتصاعدُ منها أدخنة اَلطَّهْي ورائحةِ البصلِ التي أكرهُها، ما الذي يجبرني على المجيء لهذه البلدةِ البعيدة سوى هروبِي من الماضي والذكريات، أيكون المرض الذي يسري بهدوء في خلايا عقلي، هو هدية السماء لأنسى، وماذا أنسى؟، السيدة الجميلة التي تركتها تُسقطُ دموعها على طاولة من الخِذلان، قد تكون ماتت منذ زمن، والفتاةُ الصغيرةُ التي ودعتها عند البحر، قد تكون الآن أم لأطفالٍ تقفُ في مطبخِها لتصنعَ وجبةَ الغداءِ لزوجِها، وغالبًا هي لا تتذكرُني حتى، وأنني في هذه اللحظة أحاولُ فقط أن أتذكر هل كان لون عينِها زرقاء كالبحر أم سوداء كليل الجزيرة الطويل، أحاولُ تذكر قُبلتي لبنت جميلة فاتنة على سُلمٍ رخاميٍّ نظيف بإحدى البنايات العتيقة، "تُرى في أي بلدٍ كانت؟!" . أدورُ في غرفتي باحثًا عن صندوقِ الأوراق القديمة محدثًا نفسي. سجائري التي أشعلتها... كم عددَها؟ خمسون، ستون سيجارة؟! لن تفيدني، التبغ والنبيذ الذي يسرِي في دمائِي لن يساعدَني على تذكر المزيد، إذن فلا شيء يَسْتَحِقّ كَلَّ هذا التفكير، قد يكون المرض ينهش خلايا دماغي، وتؤثرُ على عضلاتِ يدي، فلا تُسعفُني أعصابي على الكتابة.

هل هذا صوت امبروسين أم أنه عرض آخر للخرف (الهلوسة). سأحرق آخر سيجارةٍ بين أصابعِي، وأستسلم لمُسكن الدواء وأحاول النوم، لعلني في الحلمِ أتذكر امرأةً فاتنة أخرى..

مجلة فن السرد
محمد فتحي علي




التصنيفات

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك تعليقك هنا

ليست هناك تعليقات
2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث