قراءة في المجموعة القصصية "عراة خلف الستار" لسعيدة لقراري I محمد علي حيدر

الكاتب: مجلة فن السردتاريخ النشر: آخر تحديث: وقت القراءة:
للقراءة
عدد الكلمات:
كلمة
عدد التعليقات: 0 تعليق
نبذة عن المقال: سعيدة لقراري للقارئ أن يلمس كيف امتد الإصرار على الأمل إلى غاية العتبة الأخيرة عراة قصة قصيرة


مجلة فن السرد
القاصة المبدعة سعيدة لقراري

 

مجلة فن السرد
قراءة في المجموعة القصصية "عراة خلف الستار" لسعيدة لقراري

مجلة فن السرد
بقلم الكاتب محمد علي حيدر


عراة خلف الستار مجموعة قصصية للكاتبة المبدعة "سعيدة لقراري"، صدرت في طبعتها الأولى عن إيديسيون بلوس (EDITIONS PLUS) ـ مكتبة السلام الجديدة ـ الدار البيضاء سنة 2020... وأول ما يستوقف القارئ عنوانها واللوحة التي تقع خلفه باعتبارهما عتبة نصية أولى؛ ولما كان الأمر متعلقا بمجموعة قصصية، فإن الدلالة الإيحائية لهذه العتبة يمكن اعتبارها خيطا ينتظم 15 نصا قصصيا، لكل واحد منها عتبته النصية...

يمكن تقسيم عنوان العتبة الأولى "عراة خلف الستار" إلى وحدتين دلاليتين؛ أولاهما كلمة "عراة"، الواردة بصيغة الجمع المحيلة على مجموعة من العراة، وهي دلالة إيحائية ذاتُ صلةٍ بمصدري العري والتعرية، وبالتالي "قد" يتعلق الأمر برصد عري مجموعة من العراة، أو بتعريتهم ورفع الستار الذي يُخْفي عريهم، وهو ما يربطنا بالوحدة الدلالية الثانية "خلف الستار" التي وردت كلمتها الثانية "الستار" بصيغة المفرد، في حين أن الأمر يتعلق بمجموعة من العراة، وهو ما يطرح إشكالا دلاليا يفضي إلى التساؤلات التالية: هل هو ستار واحد يحجب عري مجموعة العراة ويحول دون تَعَرِّيهِم؟ أم إن الأمر يتعلق بستار واحد لكل عارٍ/مُتَعَرٍّ أو عارية/مُتَعَرِّيةٍ؟ أم بهما معا؟ الواقع أن الإجابة عن التساؤلات تكمن بالأساس في تعرية مجمل نصوص المجموعة القصصية كلها؛ فبعضها يقارب الإجابة عن التساؤل الأول، وبعضها الآخر يقارب الإجابة عن البقية في ما نعتقد... غير أن تأمل الصورة تحت العنوان، والتي هي جزء مما تحتمله العتبة الأولى من دلالات، يقربنا من تلمس دلالتي العري والتعري المحتملتين؛ إذ تبدو في الصورة ثلاثة ظلالٍ/أشباحٍ: اثنان منهما على يمين وشمال الصورة/اللوحة يبدوان رافعين رأسيهما نحو السماء، بغير ملامح تفصح عن سنهما أو جنسهما، ولا تبرز أطرافهما، مع ملاحظة أن الشبح/الظل على اليمين لا يقف خلف الستار، بينما يقف الشبح/الظل على اليسار خارجه، ويتوسط الشبحين شبحُ ظلٍّ ثالثٍ رأسُه مخفي خلف الستار دون باقي جسده... وكلها إشارات تفتح تأويل الصورة على الاعتقاد بأن دلالتي العري والتعري قائمتان، وأن التعري أو العري "قد" يقصد بهما الكشف عن الجوهر الإنساني الداخلي الذي يحجبه المظهر الخارجي لكل حالة من الحالات التي تنتظمها العناوين والعتبات الفرعية لكل قصة قصيرة من المجموعة، وهو ما يدفعنا إلى القول باشتغال السرد على ثنائية الخفاء والتجلي وما يستتبعها من ثنائيات كما سنتبين بعد حين...

ما يلفت النظر، من جهة أخرى، أن العنوان الرئيس "عراة خلف الستار" لم تعنون به أي قصة قصيرة في المجموعة القصصية كما جرت به العادة في كثير من الأحيان، وهو ما يقرب مجموعة "عراة خلف الستار" من حدود رواية ذات فصول معنونة بعناوين عدة، ذات استقلالية ذاتية، لاسيما وأن القارئ سيلمس بسهولة حضور معاناة الساردة في أغلب نصوص المجموعة القصصية، ونبشها في ماضيها وحاضرها، وإصرارها على بناء وترميم داخلها في مواجهة واقع ترفض الاستسلام له، دون إلغائه جملة وتفصيلا، بالإضافة إلى حضور شخصيات الزوج والأم والجدة بصفة خاصة... وهو ما يزكي ربطنا العتبات الفرعية بالعتبة النصية الرئيسة، ويجعل آليتي العري والتعرية ساريتان على قصص المجموعة، بل ويجعل أدوات الاشتغال السردي فيها تستند إلى أسس ومقومات بنائية تَلْحَمُ أجزاءَها، وتمد جسورا في ما بينها، ولو إلى حد ما... وبالنظر إلى غنى مجموعة "عراة خلف الستار" بالدلالات وجماليات السرد وشعريته وما يتطلبه ذلك من صفحات، سنكتفي بمقاربة النص الأول "بين الصوت والصدى" علّنا نقدم للقارئ صورة مصغرة له، وأيضا لبعض امتداداته في بقية النصوص كما ما نزعم...

ينفتح نص "بين الصوت والصدى" على الأنا/الساردة بخطاب يهيمن عليه توظيف الفعل المضارع بما يحمله من دلالة على الحركية والحيوية وإضفاء الحياة على الحدث، وذلك في جمل قصيرة متواليات تشف عن حال وجدانية متأرجحة بين حاضر تحاول الساردة الانفلات من إساره والولوج من "خلف ستاره" إلى عالمها الداخلي بحثا عن إثبات ذاتها وتحقيق كينونتها؛ فهي ((تخلق المفاجأة لنفسها وتعلن ـ بعد تردد ـ أنها على قيد الحياة))، والمناسبة الحدث كانت ((عيد ميلادها))، وكان الرقص من طرفها وطرف من شاركنها إياه أحد وسائل هذا الإعلان باعتباره تفريغا لانفعالات باطنية وتعبيرا عن محاولة القفز على الهموم الذاتية، وبعثا للطاقة الحيوية الكامنة خلف "ستار" الجسد الراقص... يدل على ذلك تكرار كلمة الرقص ثلاث مرات، والفعل المضارع ترقص ثلاث مرات على امتداد أربعة أسطر... إنه الرقص الحدث الذي انخرطت فيه، ومن شاركنها، حفل عيد ميلادها كما يتجلى في قولها: ((يشاركونها الرقص على نبرات موسيقى صاخبة أهدت من خلالها لجسدها المتكلس الحق في الخروج عن قواعد الرقص المتعارف عليها، ترقص، ترقص، وترقص..، معظم الحاضرات تعبن من الرقص))... وإذن فالرقص تهيئة للذات الكامنة خلف ستار الجسد المتكلس للخروج عن قواعد الرقص المتعارف عليها، والولوج إلى العالم الداخلي بحسب الملفوظ السردي: ((تغوص في أعماق تتحسس فيها مرتفعات النور وحسن المآل))، وهكذا ينفتح المتلقي على اشتغال الثنائيات التي كان أولها ثنائية صوت الداخل وصداه الخارجي، وهي ثنائية متماهية مع ثنائيتي الجسد و"الروح" والخفاء والتجلي وغيرها من الثنائيات كما سنحاول مقاربته...

يظل الفعل المضارع مهيمنا على الخطاب السردي وما يحمله من شاعرية تتجلى في القاموس اللفظي الموظف في عملية مسحٍ للحالة الوجدانية التي كان الرقص مقدمة لها عبر إنهاك الجسد، وهكذا، وعلى عجل ترتمي الساردة ((على قنينة ماء وتسكب ما بها في جوفها كأنها تخمد نارا ولا تطفئ عطشا))، كما يتضح أيضا أن الاشتغال على ثنائية الماء والنار/العطش أن العطش تعبير عن ظمإ داخلي لا يتحقق إلا عبر الخلوة بالنفس وتعريتها خلف ستار الجسد المنهك بعيدا عن الآخرين وبحثا عن الارتواء، وفي تماهٍ جليٍّ ينفعل الخطاب السردي المصر على توظيف الفعل المضارع الدال على ديمومة الظمإ الروحي، موظفا أسلوب الحصر في الملفوظ السردي التالي: ((بعد انصراف آخر ضيوفها، تستدير، تحكم إغلاق الباب، تمسح بنظرها أركان البيت، لا ترى إلا فوضى تملأ المكان وتملؤها هي أيضا..))، وفي المسار نفسه يبرز تماهٍ آخر بين ثنائية الذات/الجسد من جهة، والزمان/المكان من جهة أخرى؛ فكلاهما تعمه الفوضى التي تقود إلى الانخراط في ثنائية النوم والأرق والتأرجح بين طرفيها في حيرة يجسدها الإصرار على توظيف أسلوب النفي في الملفوظ السردي التالي: ((ترفع عينيها إلى الساعة الحائطية، الوقت متأخر لا يسمح لها بالاستمرار في الرقص ولا الخلود إلى النوم، ما زالت تشعر بثقل وطأة حوافر الأرق على جفنيها، ما عساها تفعل أمام اجتياح هديره في أنحائها))، وسرعان ما يأتي الجواب على شكل همس يؤذن بحوار داخلي، وبرحلةِ رفعِ ستارِ الحالِ، والتعري من خلال الغوص في الأعماق الداخلية، مع تضمينٍ موفق لجزء من آية قرآنية في سورة النساء تنفي ادعاء صلب المسيح عليه السلام ((وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ))، في إشارة بلاغية ذات مسحة شعرية ودلالية عميقة على التماهي بين ثنائية الصلب من عدمه، ليطفو الوعي بقيمة الذات إلى السطح، والإصرار على تحقيق الكينونة الذاتية المعرضة للصلب والانمحاء من طرفٍ آخر، سيتبين في ما بعد أنه الزوج، وأيضا في انفتاح على ثنائية المنفى والوطن: ((هامسة تقول: ما قتلت كلماتي وما صلبت وإنما هُيِّئ لك.. عجبي... بي تبحث عن وطن، وبداخلك منفى يزهر..)).

يظل الخطاب السردي منهمكا في الاشتغال على الثنائيات، فتنبثق ثنائية الصمت والكلام على أنقاض نفي صلب كلمات الساردة التي تحقق كينونتها: ((كزهرة الظل، المحبة يغرقها تدفق الكلام، وتنعشها حكمة الصمت))، وبالتالي يبدو أن الخطاب السردي في نص "بين الصوت والصدى" يتمثل منهجا "هيجيليا" يوظف تجادل الأطروحة ونقيضها للعبور نحو أطروحة تركيبية جديدة...

مع استمرارية هيمنة الفعل المضارع، والتأرجح بين عدة ثنائيات في نص "بين الصوت والصدى" إلى حد بعيد، يبقى المسار السردي أيضا منفعلا ومتفاعلا مع هذه الثنائيات سلبا وإيجابا؛ فتراه محتقنا بقاموس المعاناة المهيمن، منفتحا في الآن نفسه على المنبثق من أمل وإصرار على التخلص من المنغصات... ويبدو أن جوهر المعاناة يتبأَّرُ حول ثنائيات مركزية تتجلى في المقابلة بين الزوج/الأنثى والزوج/الذكر، وبين المظهر والجوهر، والضجر والأمل، والماضي والحاضر من جهة والمستقبل من جهة ثانية... ومن تجليات احتقان الخطاب السردي بالقاموس اللفظي المؤطِّر للتأرجح بين كل الثنائيات السالف ذكرُها تكرارٌ ملحوظٌ لبعض الألفاظ وما يندرج في معناها أو يرادفها، مثل: الصمت والتعب والألم والأمل، والأيام والقدر، والحزن والفرح، والضجر والغضب، والوحدة والغيظ والحرمان، وغيرها من المفردات التي يسهل على القارئ رصدها... ويهمنا في هذه العجالة التي لا توفي مجموعة "عراة خلف الستار" القصصية حقها، أن نقف عند بعض تجليات المعاناة ومحاولة التفلت من إسارها، ملتمسين في الآن نفسه بعض مظاهر شاعرية الخطاب وخلفياته السوسيولوجية والسيكولوجية، وما يؤطرها من خلفية ثقافية "إيديولوجية" في ما يلي.

في سياق المقابلة بين الزوج/الأنثى والزوج/الذكر نقف في "بين الصوت والصدى" على المقطع التالي الذي يلخص إشكالية هذه الثنائية وزاوية الرؤية إليها: ((يمشي على فراغ، تصعد نظراته السلم، بخطوات ثابتة، يصل القمة، ينظر إليها في الأسفل تقدم عمرها قربانا للسنين. على متن العمر، تكتشف صدفة، أو بعد تأمل، أنها وقعت في أسر، قضبانُه أوهامٌ وقفلُه تنكرٌ للذات وسعيٌ لإرضاء الآخر...))، وللتخلص من الوهم/الأسر ومن التنكر للذات ينبثق القرار: ((إكرام الوهم، إيجاد قبر يأويه..))، ويكون الاختيار أن: ((تلغي من حولها الجدران، والأبواب، والنوافذ وتردد "آه لو يدري من يكن لي سوادا، كم من بلاد بيضاء تُفتح بفضلهم داخل قارات قلبي..))، ومع ذلك يظل التأرجح بين مرارات الحاضر والتطلع إلى الخلاص قائما؛ فالجسد يشيخ وتكر عليه السنين كما تشهد بذلك المرآة/لمْرايا التي تكرر ذكرها ست مرات على امتداد الصفحتين الثامنة والتاسعة باعتبارها ((بَلْية لا تنفك تعود إليها لتخبرها أنها تجاوزت الأربعين من عمرها))، وتتداخل حاستا السمع البصر لتؤديا دورا وظيفيا يكاد يكون واحدا: ((بعينين محملقتين تسمع المرآة القاسية، تتسارع إلى البحث عن قياس مساحة الشيب بين خصلات شعرها الداكن السواد، تشتعل غضبا والمرآة المتطفلة لا تكف عن تحديد مناطق زحف التجاعيد بجسدها الرشيق.. "يا لطيف، التبركيك ما خْطاش حتى لمْرايا!"))؛ هكذا تتجسد المرآة شخصيةً زمنيةً متطفلةً، ذات بصر يمارس تعرية جسد الساردة، ويكشف فعل الزمن فيه، ومع ذلك تصر الساردة أن تراه رشيقا، لأن التحولات الطارئة عليه قد سبق تبريرها بأعباء الزواج والأمومة: ((جميل! أنا أم مثالية، زوجة رائعة، هذا ما يقولون وتثرثر به الصديقات عند مصففة الشعر وفي حمام الحومة [...] أنا أم مملوءة بأبنائي وامرأة يسكنني زوجي..)). لكن ما مارسته المرآة من تعرية لفعل الزمن من خلال الشعيرات البيضاء لم يكن ليُدْخِل الساردة في دوامة الحزن والألم بكيفية مطلقة، بل سرعان ما تهرع إلى الخلوة كما فعلت بعد حفل عيد الميلاد، لإيمانها أن: ((الوحدة أحيانا منتجع مثالي نتعرف فيه على ملامحنا..)) مع الاعتراف التالي: ((وللخيال في ذلك يد..))، ومن ثَمَّ فلا عجب أن تسعى الساردة إلى تحقيق التوازن النفسي عن طريق الحلم: ((بجيوب الحلم أحتمي، هناك، أغزل حكايات على مقاسي، أفرغني من الضجيج))، وتصر على القول: ((ساخرة أغسل وجه الحزن، خارج الأنين أغريه برحلة إلى ديار تأويه وتلبسه دفءا)).

هكذا تستظل الساردة بصورة المرأة/الأم، والزوجة الوفية المتحملة الصابرة الصامتة صمتا لا يُخْرِسُ دواخلها، ولا يطفئ بريق الأمل في تحقيق ذاتها رغم تعرية المرآة لما فعله الزمن بها، بل إن التضحية والصبر والمصابرة على غطرسة الزوج بما ترسب في أعماقها من جذور الثقافة الشعبية التي جسدها الملفوظ السردي لأمها المؤثث بالخطاب العامي الذي له بلاغةٌ قد لا تفي بها العربية الفصيحة: ((قد يكون وراء رجل عظيم امرأة عظيمة، وقد يكون وراء رجل غير عظيم امرأة عظيمة، وقد يكون وراء رجل غير عظيم امرأة غير عظيمة.. إيوا يلا شفتي جوج متفهمين ربما دْرْك على واحد، لذلك نقول، كاين شارب عقلو، وكاينة لهبيلة، أو العكس))...

واضح أن خطاب الأم المتقدم ذو حمولة ثقافية تستعرض اختيارات شتى، لكنه يصب في اتجاهٍ يرجح تغليب الحكمة والتعقل لتحقيق وئام لن يتأتّى إلا من خلال تحمل أحد الطرفين العبء أكثر من الآخر، وهو ما جعل الساردة تتأرجح حيرة: ((بين السطور والسطح تجعلني أترجح حيرة وأنا أغوص في ما تقول..))، وهنا تبرز دلالة عنوان المجموعة القصصية "عراة خلف الستار"؛ حيث يمكننا القول إن سطح السطور ستار، وما تحمله بين طياتها هو كشفٌ وتعرية لما خلفه، وأن العمل بما بين السطور هو الذي جعل الساردة تقفز فوق جحود زوجها وما فعله الزمن بها: ((بعد مرور أيام وأعوام من الانتشاء، يسقطني رمادا من بين أصابعه المحترقة.. وتظل لافتة "مغلق" على الباب معلقة..))، وتستغبي مشاعرها وتقول: ((أظن، وهو يلقي لي فتات كلمات مبتورة، أن صوتينا يحطان في مصب الحب تماما. أقضم أظافر وقت أراه يضيع، ويتدفق بأرض صخرية لا تزهر.. ليس لدي إلا كذبة جميلة، نفخت فيها من روحي))... تلك هي زاوية الرؤية لمسارِ حياةٍ، وإن ضجت بالألم والحزن والمعاناة، فإنها أصرت على عدم الانسحاب إلى نهاية العمر: ((عرق بارد يغسل جسدي الآيل للانطفاء، وأنا أتوقف بزاوية بانورامية تطل علي، فأرى نفسي أشرف على موت محقق بلا كفن، ولا قبر..))، ورغم قتامة الصورة والشعور بالاقتراب من النهاية المحتومة تظل الساردة متشبثة بخيوط الحكمة والتعقل، لتختم قصتها القصيرة "بين الصوت والصدى" بالقول: ((لنستعد للموت كما نستعد للحياة))، وتلك هي المعادلة الصعبة والثنائية ذات الطرفين المتجادلين... وهو ما ينسجم مع إصرار الساردة في النص كله على التشبث بجيوب الأمل ولو كان مجرد أمنيات، كما مر بنا... ولا أفشي سرا إن قلت بأن مجموعة "عراة خلف الستار" مؤثثة بالعديد من الحِكَم والمشاهد السردية ذات النفس الشعري، وامتدادات البحث والتشبث بالأمل في أحلك الظروف، حتى لو تعلق الأمر بتوهم ذلك، وهو ما سنحاول أن نختم بمقتطفات منه هذا المقال...

1 ـ الحِكَم والمشاهد السردية ذات النفس الشعري:

الحكمة معرفة مكتسبة من الخبرات والتجارب الإنسانية؛ الذاتية منها والمتوارثة عبر الأجيال، كما أنها تمكن مكتسبها من حسن التصرف وتحقيق التوازن بين الواقع والطموحات، والتعايش مع الآخر بما يضمن الأمن والاستقرار الاجتماعي والنفسي، ويسمح للحياة أن تمضي قُدُما... وكلها معانٍ حضرت بقوة في نص "بين الصوت والصدى" كما مر بنا، وفي أغلب نصوص مجموعة "عراة خلف الستار"، باستثناء بعضها. واللافت للنظر امتزاج شاعرية الخطاب باستخلاص الحكمة وبعض دروس الحياة في بعض الأحيان، حتى يغدو بالإمكان تحويل بعض المقاطع إلى شعر منثور بمجرد إعادة توزيعها في فضاء الصفحة، ومن أمثلة ذلك المقطعان التاليان اللذان يتكرر فيهما حرف الحاء بما يحدثه من إيقاع داخلي، وبما ينفتح على الثنائيات التي سبق الحديث عنها؛ وهكذا نجد الحاء تنفتح في المقطع الأول على الحزن والفرح والحدث، وكيف انقلبت الأشواك ناعمة، لتنبثق حكمة الارتكان إلى الطمأنينة من خلال ذلك (تعمدنا كتابة المقطع على شكل شعر منثور):

((حين يحدد الحزن حجمي

يصعب على الفرح ارتدائي

لكن

يحدث أحيانا أن تشعرني الأشواك بنعومتها

فأضع رأسي على كتفها مطمئنة)).

ولنتأمل أيضا الإيقاع الداخلي لحرف الحاء المنفتح في المقطع الثاني، وكيف انفتح على الحرمان والصحة والحزن والفرح والحنين والأحبة، وكيف حولت الحِكَمُ المستقاة من دروس الحياة الحرمان إلى تقدير النعمة، والمرض إلى المحافظة على الصحة، والحزن إلى الاستمتاع بلحظات الفرح، والحنين إلى صون عهد الأحبة: ((فالحرمان علمني كيف أقدر النعمة، والمرض علمني كيف أحافظ على الصحة، الحزن علمني كيف أستمتع بلحظات الفرح، الحنين علمني كيف أصون عهد الأحبة))...

هذا، وخارج سياق اقتران الحكمة بشعرية الخطاب السردي، يجد القارئ نفسه أمام كشكول من الحكم المستقاة من التراث العربي والديني والأمثال الشعبية، وكلها تندرج ضمن السياقات المتعلقة بتجادل الثنائيات والعبر الموجِّهة للحياة أو المستخلصة منها، ومن بين ما نجده في نص "بين الصوت والصدى" الحكم التالية:

((المحبة يغرقها تدفق الكلام، وتنعشها حكمة الصمت ـ يوجد بالسفح ما لا يوجد بالقمة ـ لنستعد للموت كما نستعد للحياة ـ إيوا يلا شفتي جوج متفهمين ربما دْرْك على واحد ـ التبركيك ما خْطاش حتى لمْرايا)).

وفي نص "من يوميات دفء بارد" نجد التالي: ((ما أصعب حالنا وأحبة لنا نرمقهم من ثقب الحنين أمواتا فوق الأرض ـ قول مولانا جلال الدين الرومي "لا تجزع من جرحك، وإلا فكيف للنور أن يتسلل إلى باطنك؟")).

وفي نص "أجنحة لا تتكسر" تحضر الحكم التالية: ((الضيف سيد إذا حل ببيتنا، جيراننا الأكبر منا سنا، احترامهم فرض عين ـ "نقطة بنقطة يحْمل الواد، وسير بلمهل توصل" ـ وما الحياة إذا خلت من الحماقات)).

وفي نص "خالي امحمـد" نجد مثلا: ((لا يخاف السقوط لأن حب الحياة يقصر الطريق ويطرد الحفر ـ لا حاجة لصوت الحق إلى مكبر صوت)).

وفي نص "صرخة من صمت" ترد مجموعة من الحكم، كل منها في سطر مستقل، نختار منها: ((المحبة، إعاقة ـ الحب، غفوة ـ السلام، سجن عار من القضبان ـ من الغضب ما يحرق، ومن الغضب ما يحترق))...

2 ـ امتدادات التشبث بالأمل أو البحث عنه في نصوص المجموعة:

يظل التشبث بالأمل حاضرا بقوة، إلى جانب توظيف الفعل المضارع الدال على الديمومة ومواكبة الحدث والغوص في أعماق المشاعر وبناء الشخصية، مع توظيف ضمير المتكلم ذي الصلة الحميمة بالذات الساردة، والكاشف عن معاناتها وأحلامها، دونما انفصال عن توظيف بقية التقنيات القائمة على تجادل الثنائيات التي تحدثنا عنها سابقا، وهو ما يبدو جليا في المقطع التالي من نص "طريق في اتجاه واحد": ((على حَبْلَي سُخْطِ ورضا الأيام أراقص الجروح، وبين التجاعيد، أتسلل خارجها، ألتقط حطبا لمدفأتي، ثم أعود))، وواضحة هي ملامح الإصرار على التشبث الأمل في سياق ثنائية السخط والرضا، والتسلل خارج سلطة الزمن التي رسمت التجاعيد.

وفي سياق المقابلة بين الأنا/الأنثى والآخر الذكر (الزوج) يبرز الصمت من جديد سلاحا لهزم جنون الغطرسة، والتعايش مع الواقع بما لا ينفي خصوصية كينونة الذات المستقلة ولا يلغي الطرف الآخر، وهو ما ينسجم إلى حد بعيد مع الحكم المستخلصة من حياة الساردة، مع حضور الفعل المضارع وضمير المتكلم، حيث نجدها تعلن في نص "من يوميات دفء بارد" ما يلي: ((بفضل ثرثرته أصبحت أتقن فهم لغة الصمت، أتجنب كثيرا الانسكاب في جريانه المجنون، لكن سأعيش عالمه المنتعش بالغموض وأعيش عالمي حقيقة لا غبار عليها [...] أغرس خطاي بأرض متحركة، أستجمع ملامح حياتي من بين أيدي أطلال متلاشية، كل صباح من صباحاتي الشتوية، أستدير إلي حتى أرتدي ابتسامتي)). بل إن الخطاب السردي في النص نفسه يصرح بالإصرار على انتزاع السعادة ما دام الفرح والحزن وجهين لعملة واحدة، هي الحياة؛ وفي ذلك ما فيه من انسجام مع باقة الحكم المستخلصة من الحياة نفسها، ومن صميم الوسط الاجتماعي الذي احتضن الساردة كما سبقت الإشارة إليه. تقول الساردة بخطاب ينضح شاعرية لا تخفى: ((وبما أنني أومن أن كلا من الفرح والحزن وجهان لحياة واحدة فسأحاول أن أنتزع السعادة بعدما آلمتني حقيقة أنها لا تُعطى [...] هذه أنا.. اُنظر كيف أغزل ابتساماتي أملا في العتق من ثقل الأوزار [...] أبحث عن لون يتماشى وآفاق تطلعاتي في ركام زوابع مجنونة..))... وللقارئ أن يلمس كيف امتد الإصرار على الأمل إلى غاية العتبة الأخيرة لمجموعة "عراة خلف الستار"، وأعني بذلك توشيح الوجه الأخير للغلاف بمقطع أراه البؤرة التي تتمحور حولها أغلب نصوص المجموعة، وكفى.    

مجلة فن السرد


التصنيفات

قد تُعجبك هذه المشاركات

إرسال تعليق

اترك تعليقك هنا

ليست هناك تعليقات
2455631403162698945

العلامات المرجعية

قائمة العلامات المرجعية فارغة ... قم بإضافة مقالاتك الآن

    البحث