فدوى العبود |
الرحلة الماراثونية للكائنات الخرافيّة *
سيرك الحيوانات المتوهّمة |
ورقة حول الكتاب القصصي " سيرك الحيوانات
المتوهمة*
" للقاص أنيس الرافعي، بقلم الناقدة و
الأدبية السوريّة فدوى العبود.
بورخيس: كم
هو مؤسف أنك لم تولد نمرًا
استيقظ
جريجور سامسا ذات صباح فوجد نفسه قد تحول إلى حشرة.
ليست هناك
دلالة أبلغ على عصرنا من هذه الاستعارة التي تجسدها عبارة كافكا، والتي تدل على
عالم حديث جداً، لا يمكن مناقشة اللامعقوليّة التي تسود عالمنا الحديث، فالأسئلة
هرِم بعكاز. عاجز حتى عن رد الحجارة التي يرميه بها صبيان زمن عابث. فهل تستطيع
النية الحسنة منع سيل العالم الهادر ووحل التشيؤ عن روح الإنسان؟
ربما نستطيع عبر تعويذة، قلب مسار
العالم!
نفهم الآن
لماذا نصبح نموراً عند (بورخيس)، مهرجين فوق مسرح (شكسبير) أو زوار غابة بحسب
(أمبرتو ايكو). استعارة في قصائد (بابلو نيرودا)، أو حيوانات مفترسة في
"كليلة ودمنة" بحيث يتحدث الحيوان بصوت الإنساني ويعبر عن نزعاته وشره
ومكره وقلة حيلته.
ينتسب كتاب
"سيرك الحيوانات المتوهّمة" إلى الكتابة التي تحارب اللامعقولية، فالأخيرة تتقدم في العالم دون وجل، ولا تعويذة تحمي من سخريتها ولا مبالاتها سوى
الكتابة، ولا مجاز يستطيع التعبير عنها إلا باختراقها في أدق جوانبها خفاء، وكما
يصنع الصياد شراكاً للحيوانات سوف يتحول السرد إلى مصيدة لكل مباين ومفارق للوجود
الإنساني في معناه الأعمق.
لذلك يصبح
العالم سيركاً، يلطى فيه الإنساني داخل هيئات حيوانية. ولعل التواري هي ما يسم هذه
التجريبية، لأن العالم أحجية وحلها يتم لا عبر نزع القناع لكشف الهيئات المتوارية
للرثاثة، بل عبر الالتفاف عليها ثم تهشيمها. (فالأحجية ليست لغزاً لؤلؤه الحكمة؛
إنها سخرية الوجود)
"كل ما يجري داخل هذا السيرك من وقائع
خيالية مستوحى بالأساس من أحداث حقيقية"
بهذه الشذرة
يفتتح القاص المغربي أنيس الرافعي كتابه القصصي "سيرك الحيوانات
المتوهّمة" وبعنوان فرعي
حقيبة رسومات
ومنولوجات/
سرد
إن القارئ
معفيٌّ من البحث عن تجنيس لهذا النص، بإمكانه أن يقرأ رسومات الفنان محمد العامري
بصريًا، ويمكنه التجول في أروقة السيرك والتقاط شذراته وتأملاته وخواطره وخطاباته
الموازية لكنه ليس معفياً من إعمال الخيال وطاقات الروحي والفكري معاً في هذا
السير؛ الذي يقوم على المزج بين المونولوج وبين اللوحة البصرية والتي يمكن قراءتها
مستقلة عن النص. وثمة خيار ماثل في اشتباك اللوحة والنص كما أن إمكانية العراك والمباينة
بين -حيوانات المنولوجات السردية، وحيوانات محمد العامري الملونة-متاحة.
هذا التشابك
بين السردي والبصريّ، يذهب إلى منطقة جديدة، تجعل القارئ يشعر بأنه جوّابٌ في
العالم روحاً وجسداً وتخيّلاً عبر إسقاطات ودلالات يمكن أن تتداعى إلى ذهنه أثناء
القراءة.
إنــــــّه
سيرك الوجود اللاّهي دون أقفاص سوى تلك التي من صنع الروح. وفوق مسرحه حيوانات
مألوفة وغير مألوفة إنها مزيج بين الحيوان والإنسان كما يخلق العالم الحديث من
الأخير والآلة كائناً جديداً (السيبورغ)
لقد افتتحت
هذا المقال بالإشارة إلى رواية "المسخ" للكاتب فرانز كافكا، فالاستعارة
عنده تعبر عن حال إنسان اليوم الذي يعيش في فقاعة صلبة، فالسيولة التي بدأ بها
العالم الجديد الغير شجاع تحولت إلى جليد، إن جولة صغيرة على حافلات النقل توضح
هذه الفكرة فالناس يسيرون نحو ما يراد لهم من مكننة، إنهم كالآلات، أرواح معلّقة بأجهزة
حديثة. فقدت مغزى وجودها فبحثت عن بدائل هشة ومؤقتة.
ولكن، لو
أعطي الحيوان فرصة ليسرد فما اللغة التي سيكلمنا بها! إن مجرد تسرب الإنساني إلى
الحيواني في سيرك الحيوانات لهو ذو دلالة بالغة!
وعلى العكس من كليلة ودمنة حيث يتم الاستعانة بالحيوان للتعبير عن واقع الإنسان يتم هنا قلب الأدوار، بحيث نعثر على النزعة الانسانية في قلب كل حيوان نقرأ في إحدى الشذرات "في بحيرة كل إنسان يختبئ وحش "لوخ، نيس"أسطوري".
تمتثل اللغة
عند القاص أنيس الرافعي لفكرته حول هذا السيرك الكوني، لذا يشحنها بعاطفية تجعلها
أقرب للسخرية والعبث، فما اللغة إن لم تسخر من العالم وتبتكره!
إنها تراوغ قارئها وتشاغبه عبر
افتراضاتها ومن خلال التواري خلف شجرة الفكاهة بقلب معاني الكلمات مرة، وفي
استدعاء شخصيات أدبية (اليخاندرو خودروفسكي نبّاش الأرواح-فرناندو آرابال الغرائبي
المجنون كي يتولى حراسة كواليس السيرك)؛ وعبر تشبه الحيوان بالسلوك الإنساني ما
يجعل الاخير مشكوكًا فيه؟
نقرأ في
الشذرة 91 "الحيوان الذي يصعب القبض عليه هو الإنسان، قناصه الوحيد هو الردى"
إن السقف
الأعلى في اللامعقولية هو التواري والفكاهة وتفكيك معنى هذا العالم المخيّب للظن،
فالاستعارة بالمعنى الذي أرادها لها: نيرودا تأملٌ حالمٌ في اللغة
لكنها هنا،
سخرية تقوم على بناء جماليّات مضادة للمألوف، جمال يقوّض وينقض ويختَرِمُ روح
الوجود. نقرأ في إحدى الشذرات "خلف كل سيرك للحيوانات المتوهمة توجد مقبرة لا
مرئية، وخلف كل مقبرة لا مرئية يوجد برلمان للأوغاد"
تعرض أمامنا
المرايا والصور المتكاثرة للإنسان الذي يصبح الكل ولا أحد؛ لقد استلت روحه بمسلة
عالم صناعي ومدن متناسخة، وهو الذي تقمص آلاف الصور حتى فقد الأصل.
ننتهي من
جولتنا الشذرية بتذكرة دخول: "رجاء ادخل إلى السيرك بثقة فلن التهمك"
فنعثر على
(الجرذ، الفيل، الأفعى، القندس، الكناري، الخنفساء وغيرها) وتُحيل كل دلالة منها
على رمز ويمثل كل مونولوج حالة وجودية من حالات الكائن.
يمكننا قراءة
النصوص دلالياً، كمونولوج الحوت كنايةً عن التوجه الحتمي للإنسان نحو خاتمته، إن
رحلة الإنسان هي رحلة ضياع الحوت في عباب البحر، وعبر الموازاة بين تجريد الحوت من
العنبر (بلورات العنبر غالية الثمن المستقرة كالكنز في تجويفنا الدماغي، وتجريدنا
من ملكاتنا الإنسانية.
هذه الرحلة
الماراثونية لنصل إلى "غروميس" وهنا يجري قلب للكلمات، فما غروميس سوى
الكائن الخرافي في منطق الطير إنه "السيمورغ "
تنشغل
"سيرك الحيوانات" بالبحث عن الحيوانيّ في الإنسان عبر مونولوج إنساني
بفم الحيوان الذي يتقمص خصائص إنسانية (القباحة، المكر، الخديعة، التحلل، الخبث)
تساهم
اللوحات والرسومات التي تتقمص فيها الحيوانات نظرات إنسانية في قراءة بصرية موازية
للقراءة السردية أو مناقضة.
سيرك
الحيوانات المتوهمة نص تجريبي، يتوارى في أعماقه موقف وجودي من السلطة
والميتافيزيقا ومن الكائن المشوه العولمي. فالوجود (هذا السعير) جحيمٌ حقيقيٌ لا
يمكن مواجهته إلا بتسعير ناره حتى يصير رماداً.
في
"مونولوج الضفدع" نعثر على الإنسان الذي خربت منعكساته فعجز عن السير
والتفكير؛ وفي مونولوج الديناصور: يمكننا وعبر تقنية الواقع المعزز تشكيل واقع
اندثر. بهذا يتراجع الواقع من أجل شبه الواقع والإنسان من أجل شبه الإنسان.
أخيراً يغلق
القاص المغربي أنيس الرافعي السيرك، بتلويحة محبة للكاتب دينو بوتزاتي الذي كان
آخر ما كتبه يتعلق بحيوانات عجائبية، وقد ذكّرنا بمخلوقات بورخيس العجيبة، لتضاف
للتخييل متعة رابعة؛ تمثل في رؤية مخلوقات كل كاتب ضمن سياق وجوديّ ونفسيّ، مختلف
ومفارق للآخر. أما نحن سندفع تذكرة السيرك المتخيل لكننا موعودون بالمتعة
والاكتشاف والغرابة التي تجعل من "الحيوانات المتوهّمة" صورة مكبّرة
للوجود بين ضفتي كتاب.
*نُشر نقلا عن( مجلة الصباح ) العراقيُة العدد 5520 وبعد موافقة كاتبة المقال الناقدة والأديبة
فدوى العبود.
*" سيرك الحيوانات المتوهمة": كتاب قصصي للقاص المغربي اللامع أنيس الرافعي، تم إدراجه في بداية أكتوبر الجاري ضمن القائمة الطويلة الخاصة بجائزة الملتقى للقصة العربية في دورتها الخامسة 2021 – 2022 ، وكان قد صدر العام الماضي 2021 عن دار خطوط وظلال الأردنية.
مجلة فن السرد
إرسال تعليق