قــــراءات ودراســــات:
الطابع التجريبي في قصص "زمن عبد الرؤوف"
لعل أبرز ما
يميز مجموعة « زمن عبد
الرؤوف » القصصية
للأديب المغربي محمد صوف، هو طابع التجريب من خلال استعمالات إبداعية بميزات وسمات
نابعة من كتابة بآفاق مغايرة ، وأشكال مختلفة تنحو معها تجربته السردية منحى يشذ
عن المقومات القصصية المعروفة من انتظام لمسار الأحداث والشخوص ، وما يؤطرها من
علاقات تجاذب وتنابذ ، وما تزخر به من تفاعل وتنافر ، وتواصل وتناشز . وسنعمل على
ملامسة بعض مظاهر التجريب، بالخصوص، في قصص الأضمومة من خلال عناصر:
ــ الانزياح : حيث تطالعنا
تعابير مثل : " دون صوت قال ما مفاده .. " (6) ليظل القول مشرعا على أفق
تأويل متعدد الاحتمالات والتوقعات في وضع شاذ ومنزاح يتجرد فيها القول من خاصية
الصوت ، وفي عبارة : " عدت من الموت بلقاء محتمل . " (6) ، ففعل العودة
من الموت غني بدلالات وجودية وميتافيزيقية مع ضرب موعد للقاء محتمل مع الموت غير
محدد الآجال ليغدو الانزياح مطبوعا بغرائبية تضفي على المتن القصصي غنى دلاليا ،
وزخما جماليا : " دمعة الرجل تزحف على البيت وتمحوه ." (18) .
ــ التفلسف : من خلال
موضوعات ك « النضج » في تعريف أكثر عمقا وغنى وانفتاحا : " النضج سفر
في أعماقك . تجربة معك . كلما غصت في أعماقك تيسر لك النضج . ادخل إليك . حاول أن
تدركك.." (25)، في سبر لدواخل النفس واستجلاء بواطنها ، وليس في كسب التجارب
عبر توالي الأيام وتعاقبها لتشكل تراكما
كميا بل ما يغوص في الدواخل مستجليا ومستكنها
لتحصيل نضج نوعي عبر عمق الإدراك ، وتجليات الاكتشاف لارتياد آفاق أكثر سعة
ورحابة : " عندها سيصبح لك جناحان . تصبح السماء ملكك . وتعي آنذاك أنك صلة
وصل بين السماء والأرض . بين الجسد والروح . " (38) ، وما تحبل به من حمولات
رمزية ( جناحان ) كأداة للتحليق في فضاءات لا محدودة ولانهائية بحثا عن الحرية في
أسمى معانيها ، وأرقى تمظهراتها ، وانعتاقا من ربقة حيز محدد ومحدود يُمَكِّن من
امتلاك السماء (تصبح السماء ملكك) ، مما يُوَلد وعيا يربط بين السماء والأرض ( أنك
صلة وصل بين السماء والأرض ) ، والجسد والروح ( وبين الجسد والروح) ، مع منح الروح
سمة علوية تستعصي على الإدراك العقلي ، والتمثل الذهني : " روحك شعلة تنبعث
من قوة لا تدركها العقول . " (42).
ــ الحلول : كنظرية فلسفية
صوفية حيث تمتزج الأرواح وتتحد كما نقرأ في قصة « حديث في حضرتهم » :" حلت فيه غائبة في داخله ضدا على كل
قواعد الكيمياء. " (29) ، وبصيغ منزاحة عن المألوف على المستوى التعبيري
والدلالي : " سكبت روحك في .. وإذا بي أعرفك كما أعرفني . " (31)، حيث
تتحد الأرواح والنفوس مذوبة كل أشكال الاختلاف وخصوصياته : " إذن أنا الآخر .
إذن أنا والآخر واحد.." (36) لتصير ذات واحدة وإن بصيغ مختلفة بين
الحلول : "حلت فيه " (29) ،
والاندساس : " اندست في " (55).
ــ التضاد : وقد ورد في سياق قصص مثل « حديث عن لحظة خارج الزمن » : " وسعيت إلى البحث عن البياض الذي يريني
الشمس حالكة .. " (24) ، ليس فقط في الاختلاف / التضاد بين لوني البياض
والحلكة ولكن في الاستعانة بالبياض لتحديد حلكة متحولة لشمس من ميزاتها الضياء
والإشراق والتوهج . وقصة « حديث بصيغة أخرى » حيث يتقابل الجهل بالتأدب ، والبخل بالجود ، والجبن بالشجاعة : " لو
كان جاهلا لتأدب . لوكان بخيلا لجاد. لوكان جبانا لتشجع. " (47)، صيغ لصفات ،
في نسق تضاد اختزلت في تمني (لو) لم يعوض حلقة الصفة المفقودة والمبحوث عنها ، أو
ترديده بشكل يجسد قصورا عن التغيير لوضع موسوم بالسكون والثبات : " لا
تتوقفين عن ترديد قول من يفنى بفنائه ويسقم بسلامته ... " (49)، ترديدا لقول
مكرور ، وكلام معاد . وفي نص « حديث عن حالة لا توصف » : " الآن فقط قد تكون أجابت أن ما تعارف من الأمواج ائتلف وما تناكر
منها اختلف . " (56) بأسلوب عصي عن الفهم والإفهام بمكنته إضاءة ما تراكم من
غموض والتباس : " هل فهمت شيئا ؟ لا عليك فأنا بدوري قاصر عن الفهم . "
(56).
ــ التعابير المختلفة : تصادفنا في سياق تعبيري باستعمالات منزاحة عن المعهود كما في قوله : "
لعلني بدأت أحبني. " (38) مختزلة المعنى في اقتصاد لغوي ، وتكثيف دلالي ،
وأيضا في : " أبحث فيك عنك . "(49) ، وما يستدعيه من تفكيك مكونات جملة
ممعنة في الاقتضاب والابتسار. وفي خلع صفات إنسانية على حالات ك « الغيظ » : " كانت تخاطب غيظها المتلاشي . " (
66) ، أو وضعها وموقعتها في مقام التماهي والمماثلة بالنسبة ل « الحزن » : " إن الحزن كائن مثلك . مثلي . مثل كل
الكائنات ." (72).
ــ المسكوت عنه : حيث يعلق أفق
انتظار القارئ على أحداث مرهونة لنهاية حبلى بشتى التوقعات والاحتمالات التي يوكل
إليه ، أي القارئ ، تأويلها ، وتصور مآلها : " عاد هو إلى صمته ... أما
هي..." (79)، الذي يتم إشراكه في عملية
قراءة ما يصدر من حركات وإشارات : " وبحركة من رأسه قال الكثير .
" (85) تستدعي رؤى تأويلية وتفسيرية متعددة ومختلفة .
ورغم الطابع التجريبي الذي يهيمن على نصوص المجموعة فإنها لم تخل من عناصر
قصصية أساسية كالحوار ، والأحداث والمكان والموضوع ؛ كموضوع « الغيرة » في قصة « حديث بصيغة أخرى » : " أشم رائحة امرأة غيري ألقت شباكها
عليه . " (48) ، والشخوص في نص « حديث عن عبد الرؤوف » : الابن ووالده ،الرجل وأسرته ، وشخصية عبد
الرؤوف الفكاهي المعروف ، والذي حملت المجموعة اسمه في تجاذب وتقاطع بين صورة
الغلاف وعنوانه وآخر نص موسوم ب « حديث عن عبد الرؤوف » ، فضلا عن ذكر أسماء كتاب وقصاصين مغاربة : عبد
النبي دشين ، وإدريس الخوري ، والشاعر المصري عبد المعطي حجازي .
فقصص « زمن عبد الرؤوف » تجربة برؤية مختلفة ، ونزعة
تجريبية نهلت من مرجعيات متنوعة ( فكر ، تصوف ، فن ...) متوسلة بأدوات تعبيرية
ولغوية أثرت موضوعات المجموعة و« تيماتها » بما أضفته عليها من ميزات وخاصيات تشذ عن الأشكال والأنماط القصصية
المعروفة و المعهودة .
عبد النبي بزازــ المغرب
زمن عبدالرؤوف (مجموعة قصصية )، محمد صوف، سليكي
أخوين ـ طنجة 2014
إرسال تعليق