مشاتل مجلة فن السرد |
مشـــاتـــل
بداية جديدة
يسرى
البرجيجي من المغرب
نهضت من
فراشي، ككل الصباحات مرهقة، لا جديد يطرأ على حالتي النفسية، عقلي متوقف عن
التفكير، لم أنم ليلة كاملة، فالعقاقير التي منحها لي الطبيب لا تجدي نفعا، والنوم
ما يفتأ يهرب مني كلما حاولت الإمساك به، أما وجهي الشاحب لا يعرف السبيل
للابتسامة، وحينما تنعكس ملامحي على المرآة أراني كعجوز أقبل على
مجددا، أتذكر
موعدي مع طبيبي النفسي، أصنع إفطارا على عجالة، وألبس ما وجدته أمامي من ثياب، وأخرج
من بيتي متوجهة نحو عيادة الطبيب، هذا اليوم الوحيد الذي أخرج فيه من البيت، أنا
دائما أعيش الانغلاق الذاتي مع نفسي، وأقوم بسجنها في المنزل.
في طريق
مروري، نادني عمي سليم من مقهاه الخاص:
عزيزتي منى،
أدخلي، الصباحات مملة للغاية، لا لذة لها دون مذاق القهوة.
وقبل أن أنبس
ببنت شفة، وأرفض العرض، كنت قد وجدت نفسي جالسة في أحد المقاعد، وعمي سليم متوجها
صوبي بفنجان قهوة سادة، مصحوبا ببعض الحلويات الصغيرة، والابتسامة تعتلي محياه، وحينما
هم بالرحيل من أمام طاولتي، قال بحب:
إنها مجانا
طفلتي، وضحك بعفوية، اخترقتني ضحكته، وضحكت معه دون أن أشعر بذلك.
كنت مدركة
جيدا أني تأخرت على موعدي، ولكني لا أدري كيف راقني منظر البحر الهادئ، وصوت فيروز
وهو تلامس روحي، شعرت لأول مرة في حياتي أني حية بشكل ما، لم يقل لي طبيبي:
"
الأشياء الصغيرة على رغم بساطتها قد تخترق القلوب أحيانا عدة".
في مقهى عمي
سليم كل شيء يوحي بالفرح الرهيف، لكن أجمل ما فيه ذلك الركن الصغير الذي يحتضن
الكتب، وبالرغم من أن رأسي بدأ يدور، وأعصابي بدأت تغلي أمامي، أو لنقل انتابتني حالة
من الوهم الهستيري يناديني بشرب الدواء، إلا أني تغاضيت عن الأمر، ورفضت بيني وبين
نفسي رغم كل ما اشعر به من نوبة غضب أن أتعاطى العقاقير المهدئة، وفضلت أن أطفأ
هذا الهوس الجنوني بقراءة قصيدة لدرويش من ديوانه، وهكذا فعلت دون تردد، مصحوبة
بالجو الناعم للبحر، وكأنه حبيب يتحدث معي.
نهضت من
مكاني بعد الانتهاء من القراءة، وهممت بالرحيل، ففنجان قهوتي انتهى، والوقت الذي
مر سريعا ينبهني من أجل الاتجاه صوب الطبيب.
في الخارج
كان المطر قد بدأ يهطل، والناس تختبأ منه هاربة من التبلل، أما أنا فلا يهمني
الأمر، لأني لا أشعر بجسدي، ولا يعنيني أمره.
تخليت على
المظلة، وتركت المطر يداعب جسدي ويغازله، وضعت سماعات الموسيقى في أذني، ثم رحت
أجوب الأزقة المؤدية للعيادة، متمايلة مع الموسيقى بين الحين والآخر، كأني أرقص في
الخفاء، غير آبهة بعيون المارين، منحت لنفسي فرصة التحرر، ولجسدي العنان في أن
يتناغم مع الموسيقى، أن يشعر بالوجود حوله حيا، ولأول مرة أفتعل هذا الجنون، وأخرج
عن الدائرة المغلقة التي رسمتها لنفسي، أو رسمها لي الانغلاق، أو ربما الوهم، لست
أدري بالضبط، لكني أحسست أن شيئا من الفرح الصغير بدأ يجتاحني.
وبدت لي
الشوارع مفعمة بالحب، والحركة، والعشاق يتبادلون العناق، رأيت كل هذا لأني فتحت
عيني بأكملها، وتسلل لقلبي الشعور بالاطمئنان دون أن أكون قد خططت لأي شيء، رأيت
الحياة كأنها أزهار تتفتح أمامي في فصل الشتاء.
وحين وصلت
إلى باب العيادة، تأملت مليا الدرج، وقفت لبرهة من الزمن؛ فجأة شعرت بأن وجودي على
هذه العتبة ليس صحيحا، وأن هذا الدواء هو فقط وهم من الراحة المؤقتة التي أعيشها،
فإذا بي ودون أن أفكر في الأمر كثيرا، قفلت عائدة إلى بيتي.
فتحت باب
المنزل، وشغلت الأنوار كلها لكي تضيء المكان، أنا الذي ألفت الظلام، شعرت كأني
لفظت من رحم أمي من جديد، ووجدتني أفتح عيني على حياة مليئة بالضياء، صنعت عشاء
شهيا للغاية، شاهدت فيلما بعدها، ثم لا أذكر كيف ألقيت نفسي في الفراش، ونمت في
غفلة مني، إلا حينما استفقت في الصباح، وأمامي علب الأدوية ما زالت مملوءة، التي
كان من المفترض شربها البارحة.
ولكني نمت بخير،
غريب!
وإذا بي أتجه
نحو قمامة النفايات حاملة كل الأدوية، ورميتها كلها؛ ثم بعدها لبست ثيابا أنيقة
وحملت حقيبتي، وخرجت من المنزل دون وجهة.
الساعة
الثانية ظهراً أعددت الغداء، طال انتظارنا، الغريب أن زوجي دقيق في مواعيده و التي نمت مع حياته العسكرية
المنضبطة... لكنه تأخر.
أصابني
و أولادي القلق، سألت عن طريق الهاتف من يعرفونه، هاتفه كان مغلقاً. عند
المساء طرق بابنا طارقٌ، استعذت و بسملت، تمنيت أن يكون هو، مع فتح الباب ولج
أحد جيراننا، أغلق الباب خلفه مرتعشاً، بصوتٍ خفيض أخبرني بأن زوجي قد تم اعتقاله
مع بعض العسكريين و المدنيين بتهمة محاولة انقلابية فاشلة، مع تحذيري
بعدم
ذكر اسمه بأنه هو الذي أخبرني.
زوجي
رجل طيب، ليست له تطلعات كأخيه الأصغر، الذي كان يطمع بأن ينال رتبة عسكرية
عليا كباقي أصدقائه.
فزوجي
يدرك جيداً أن إمكانياته الدراسية و العسكرية لن تعينه إلا في حصوله على رتبة
رقيب ليس أكثر! و هو قنوع بذلك فهمّه هو تعليم أبنائه.انقضت
أشهر و نحن نجهل مكان اعتقاله و لم يسمحوا لي حتى برؤيته، أما أخيه فقد
عجزت
السلطات على العثورعليه... فهو واحد من الرؤوس الرئيسة في المحاولة.
كل
يومٍ، منذ الصباح و أنا أخرج و أتردد على كل الأمكنة التي يحتمل وجوده بها، و
لكني لم أفتر و لم أتقاعس عن البحث حتى منازل و فيلل المسؤولين، طرقتُ أبوابها
بغية الوصول إليه و الاطمئنان على صحته لكن لا أحد يشفق عليّ... و لا على
أبنائي... و لا حتى بإجابةٍ تبث فيّ روح الأمل و التفاؤل.
قال
لي أحدهم هامساً:
- عليك ان تتصرفي قبل أن يصدر الحكم...
و إلاّ ستفقدونه!
قلت
له مستغربة:
- لكنه بريء
قال
:
- ليس بينهم بريء، فاسمه موجود من ضمن
القائمة.
يومها
لم أذق طعم الأكل و لا النوم، خاصة و قد لمّح لي بأنه ربما يصدر حكماً بإعدامهم...
رمياً بالرصاص.
منذ
ساعات الصباح الأولى و أنا أطرق باب مكتب أحد الذين وعدوني بأن يساعدني بالإفراج
عنه إذا ما لبيتُ طلبه.
حين
رآني رحب بي و أدرك بحسه الخبيث مجيئي إليه، وعدني على أن ألتقيه مساءً...
ليضع
لي النقاط فوق الحروف العارية كما زعم لي. حين
دنت ساعات المساء نازعتني نفسي، فقده و موته كان عصياً عليّ، تمنيت أن أفديه
بروحي، و نحن بشوق ننتظر عودته، و بينما أنا كذلك وقفت سيارته بجواري و مضينا
نغوص في الظلام بين ارتعاشةٍ و غبطةٍ!.
وعدني
بأن أراجعه بعد أسبوع، كنت أحسب الساعات و الأيام رغم الألم الذي كان
ينتابني
كلما تذكرت ذاك المساء!..
***
حين
أرى صغاري تدمع عيني حسرة على لهيب النيران التي كادت تحرق دارنا فجأة، و استعصت
عليّ إخمادها الا بنار أخرى تأجج فيّ نيران الحسرة و الندم. اليوم
صدر الحكم بالإعدام على كل المعتقلين، هرولت إلى المسؤول الذي اغتصب ماضي
البراءة و العفة و الإخلاص مني، وجدت مكتبه مغلقاً، منعت من مقابلة أي أحدٍ
منهم، ضاقت بي الدنيا، لم أكد أعرف ما سوف أعمله، فقدتْ بوصلتي كل الاتجاهات
التي سوف توصلني إلى غايتي و إلى زوجي... و إلى الفرح الضائع بين الأكذوبة
و الشرف.
صباحاً
نفذت السلطات أمرها، و بدت أيامي بلا طعمٍ و لا مذاق... أغلقنا دارنا علينا...
أنا و أطفالي و الحزن.
إرسال تعليق