فَـــنُّ السَّــــرْد

منبـر أدبـي ثقافي مغربي

recent

آخر المقالات

recent
recent
جاري التحميل ...

تَعَارُفٌ فَيْسبُوكِيٌّl حسن كشاف



مجلة فن السرد



تَعَارُفٌ فَيْسبُوكِيٌّ


كان أول تواصل لهما على الفيس بوك، تواصل عن طريق الدردشات التي تملأ العالم الافتراضي الأزرق. كانت بذلك تخوض حربا ضارية ضد الملل والروتين، الذي عرفته منذ  أن رملتها الأيام، فكرست حياتها لرعاية الأبناء؛ أطفالا وشبابا، ثم مستقلين بذواتهم في نهاية المطاف.

 هنا ستبدأ وحدتها الحقيقية، غادر الجميع المنزل، لم يبق معها إلا ابنها الأصغر، كان بقاؤه مسألة وقت، وما كانت لتنزعج لقراره، وهي المتعودة على عزلته، وأنشطته ومشاريعه الخاصة، والتي لم يكن لها مكان فيها ..

     لهذا وجدت في العالم الافتراضي ما حرمت منه في الواقع؛ وجدت الرفقة، وتعدد الاختيارات أمامها. أناس من كل الأجناس والألوان، بمرجعيات وأفكار وسلوكيات مختلفة .. كانت تندهش كلما وجدت ضالتها بسرعة تجاوزت توقعاتها..

     كانت خيوط هذا العالم تجذبها جذبا، فانضمت إلى مجموعات وصفحات عدة، كما وجدت نفسها في أخرى دون أن تدري. 

       تلقت طلبات صداقة لا تعد ولا تحصى؛ اسم مستعار، وصورة لشابة حسناء في مقتبل العمر؛ كفيلة بإسالة لعاب أي رجل، مراهقا كان أو من ذوي الشوارب، فكل الذكور ينحنون أمام أجساد النساء، خصوصا إذا ظهرت منه أجزاء مرغوب فيها..

     وجدت نفسها تستمتع كثيرا بكلمات الإثراء والمدح التي تتلقاها صباح مساء، والتي تتحول         إلى قصائد عشاق متيمين في الليل. غير أن الدهر يأبى إلا أن يلطمها بصفعاته المحطمة للأفئدة، وذلك عندما يذكرها بدواليها وتجاعيد وجهها، وأسنانها المهترئة، ورأس شعرها المشتعل بالشيب.  

       استطاعت أن تكسب في غضون أيام أصدقاء وصديقات كثر، ومن مختلف الأعمار والأقطار. لكنها كانت تفضل الشباب من بين الكل، وتحرص على تخصيص وقت ليس باليسير للتواصل معهم. لهذا احتل "سعد الفارس" الحيز الأكبر، كان هذا هو الاسم الذي اختاره لنفسه. توطدت العلاقة أكثر فأكثر، وتجاوزت حدود التعارف والصداقة الافتراضية، إلى معرفة خصوصيات كل منهما. بعد أن ناقشا كل المواضيع حتى الجنسية منها..

    قادتها ثقافة سعد المنفتحة، وعدم نفوره من العلاقة القائمة على فارق السن، إلى أن تعترف له بأنها تتقمص دور شابة يافعة، وأنها امرأة في الخمسينات من عمرها، أرملة وتسعى لبدء حياة جديدة، خالية من الروتين ومليئة بالحركة والنشاط.

   بدأت علامات التغيير تطالها مع مرور الوقت، شكلا ومضمونا؛ أصبح لباسها عصريا وشبابيا.  فغيرت لون شعرها، وأصلحت أسنانها، وداومت على زيارة صالونات التجميل، علها تصلح ما أفسد الدهر. 

   بعد أربعة أشهر من التواصل عن بعد، جاءت لحظة الحقيقة، ففي غمرة من الحب ولوعته، قررا إنهاء كل ما هو افتراضي، وتدبر لقاء في مكان يناسبهما معا. وانتظرا اللقاء بشغف ولهفة كبيرين، وبطموحات مختلفة. فالشاب يبحث عن طرق استغلال أرملة ورثت ثروة، لا تريد إلا من تنفقها معه أو عليه، فالأمر سيان بالنسبة له. في الوقت الذي افترشت فيه المرأة أحلاما وردية جميلة، إذ اعتبرت نفسها محظوظة، لم لا!؟ والحب قد طرق أبوابها في هذه السن المتأخرة، وبشاب عجزت عن احتوائه الحسناوات من بنات جيله.

      تزينت ولبست العصري من ثيابها، وقصدت حديقة المدينة الكبرى، لا تفكر إلا في صورة حبيبها الافتراضي، فتخيلته تارة أزرق العينين، أشقر الشعر، مفتول العضلات. وتارة موسوما بسمرة عسلية، تزين وجهه لحية خفيفة، وابتسامة مشرقة. 

      توقفت سيارة الأجرة أمام باب الحديقة، بينما كانت تحلم بحوار افتراضي بينهما، ينبهها السائق، وترد مرتبكة: "شكرا سيدي" مناولة إياه قطعة ورقية من فئة عشرين درهما. تغادر مسرعة دون أن تتسلم الباقي ..  وقفت أمام باب الحديقة، متفحصة زوارها، واحدا واحدا، بحثا عن فارس أحلامها. أعياها التعب وأرهقها التخمين، ترجلت نحو كرسي إسمنتي تموقع تحت شجرة كستناء وارفة الظلال، استخرجت هاتفها وأجرت مكالمة:

ـــ ألووو .. السلام ..   

ـــ أهلا عزيزي .. "قالتها بتحفظ" أين أنت ؟

ـــ أهلا .. أهلا .. أنا بالحديقة أنتظرك من دقائق ؟؟

ـــ سامحني أرجوك .. مشكل في المواصلات لا غير .. 

   كلمته وهي تلتفت يمنة ويسرة، ثم إلى الخلف تواليا. لقد كان هو؛ رجل يجلس على مثل كرسيها، وقد أدار ظهره لها، يبدو أنه يتكلم في الهاتف، وتومئ يده بحركات مختلفة. 

 فكرت في مفاجأته لهذا استدركت: " أنا قادمة إليك في سيارة أجرة.." 

      أرجعت هاتفها إلى حقيبتها اليدوية، وانتظرت بضع دقائق، ثم ترجلت نحوه، وقلبها يخفق بقوة، والتهمت رهبة اللقاء أفكارها، فأحست أن قدميها تتعثر، وأنها ستسقط في أي لحظة، وانتابها شعور أن العالم بأسره يرمقها بنظرات ازدراء. لم تشعر بالمسافة المقطوعة حتى وجدت نفسها خلفه:

ـــ السلام عليكم ..

ـــ ملتفتا بدعر: »وعليكم السلام «  .. واستدرك بارتباك وصدمة

ــــ " أمي  ..  ما الذي قدم بك إلى هنا .. أعلم أنك لا تفضلين المناطق الخضراء.."  ؟! 

ــــ جئت لترافقني لاقتناء بعض الأغراض .. قالتها وهي تشعر بأن ساقيها من عجين، وأنها ستسقط مغشيا عليها في أي لحظة من فرط الصدمة .. قبل أن تستنهض ما بقي من همتها وتقاوم ..

ــــ كنت أنتظر شخصا .. وقد تأخر .. قالها دون اكتراث، فليكن كما تريدين سأرافقك حيث تشائين..

حسن كشاف

عن الكاتب

مجلة فن السرد

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

فَـــنُّ السَّــــرْد