هَبَّـــــــةُ مُسِــــــنّ
عكّازان يَتوكّـآن على رَجُلٍ عجوز برِجْلٍ واحدة.. هكذا كنت أراه، وهو يمشي بمُرونة وخِفة، أو يداعب الكرة مع أبناءالحي بمهارة. تجده، دومًا، واقفا في دُكّانه مثل شجرة زيتون مرابطة، ومنتصبة في مكانها منذ زمان.
كان أول من احتضَنَني، ورَحّب بي عند انتقالي للسكن وحيدًا بحَيّ "لابيطا".. إنه بقّال الحي المعروف بـ"الرّايسْ"؛ الكهل ذو الرِّجل الواحدة. لقاؤه غيّرَ لديّ، منذ الوهلة الأولى، تمثلا قديما كنت أؤمن به إيمانا راسخا، وهو أن الكبار يَحْكون عن حروبهم ومعاركهم وانتصاراتهم الخالدة وهم جنود.. معارك ضد الأعداء، وأخرى ضد حلفاء الأعداء، أو أعداء الحلفاء.
"بَّا الرّايس" كان يستحضِر حربا أخرى.. حرب الطبيعة على البشر؛ تلك الحرب السرمدية اللامتكافئة!
كان يسرد كلَّ يوم أحداث زلزال أﮔـادير لسنة 1960؛ الكارثة التي دمّرت المدينة بأكملها، وذهب ضحيتَها عشرات الآلاف من الأرواح، من بينهم أسرته الصغيرة.. ابنه ذو الخمس سنوات آنذاك، وزوجته المعلِّمة بالسلك الابتدائي.
يقول "بّا الرايس" بحسرة، ودون مقدمات: "صحيح أنني تعذبت بعد رحيل قرة عيني زوجتي، وفِلْذة كبدي ابني، كما بُترت قدمي اليمنى، لكنْ ما آلَمَنِي أكثر هو أنني عندما خَمَدت تلك الهزة، وأفَقْتُ من غيبوبتي، كنت عاجزا عن مساعدة زملائي في العمل، الذين انتشلوا جثث الضحايا من الأنقاض، الأحياء منهم والأموات، المكتملين منهم والمنقوصين.. كانت بالنسبة إليّ فرصة مُواتية لخدمة الوطن، لكنْ للأسف...".
أحاول أن ألَطّف الجو، وأنا ألعب بولّاعة بين أصابع يدي: "هذا ما آلَمَك حقا "أَبّا الرايس"؟ متأكِّد؟ سمعتُ أن قرارا رفيعَ المستوى رَخَّص لرجال الوقاية المدنية بالإفطار في نهار رمضان - لأن الكارثة تزامنت مع الشهر الكريم - ريثما تزول تلك النكبة! كنتَ تريد أن تُفْطر معهم فيما أظنّ".
يبتسم، ويطردني بعُكّازه برُوح مَرِحة، ودون عُقَد.
ذات يوم أُغلق الدكان على غير العادة. كان سِن "بّا الرايس" قد قارب الثمانين، وصِحّته تدهورت؛ فغابَ عن الأنظار يوما وأسبوعا فشهرا، حتى نَسِيَه سكان "لابيطا"، أو كادوا، لكنّ الجميع تذكّرَهُ وذكرَه عندما شبَّ حريق مدمِّر بدُكانه؛ حريقٌ أكّال، لَوَّنَ سماءَ الحي بالأحمر والأسود والبرتقالي؛ انفجار وليس حريقا، جعل الرجال يبتعدون حاملين هواتفهم من أجل التوثيق، أما بعض النساء، فكُنَّ يردِّدْن: الإطفائي أضرم النيران.. الإطفائي أضرم النيران، الإطفائي سيقتلنا...
وقبل أنْ يحْضُر رجال الوقاية المدنية بقليل، ظهر "بّا الرايس" من بين الحشود، وسط الشَّرَر المتطاير، لابسا سترة رجال الإطفاء، وخوذتُه الحمراء على رأسه. لأول مرة رأيته يتوكّأ على عُكّازيه، ويتحرك بصُعوبة.
توجهت نحوه بسرعة. أبعدته عن موقع الخطر. أمَرْت زملائي بالقيام بالمُتَعَـيّن. دوّى انفجار مفاجئ تداعَتَ له جُدُرُ الدُّكان والمنزل المُجاور له. النصف السفلي من جسمي غطّاه الركام. فقدتُ وعيي.
أحمد شرقي
إرسال تعليق