سُقُـــوط
سرت أتساقط كأوراق الشجر، في خريف بكّر، متحالفا وصرصر. أتساقط في مهوى سحيق، منحدر عميق، لا حدود تحده، ولا قرار يرده.
تتسع الهوة، يبتعد العمق، تضيق روحي، يتكور جسدي، ويرفرف قلبي مسرعا، كأنه طائر يتعلم الطيران. يحرك جناحيه بسرعة في حركات غير منتظمة تلافيا للوقوع الذي لا محال سيقع، لكن الطائر سيقوم ليتابع التحليق؛ أما أنا سأقع في هذا المستنقع، ولن تقوم لي قائمة أبدا.
حاولت إيقاف السقوط المتسارع، لكن دون جدوى، غدا الوقوع وشيكا، وجسدي بوزن ريشة في يد رياح قوية. تدفعني، فيتقعر ظهري، تتسنن عظامه منتظرة وقت التشظي.
يقترب القاع، فيزداد ظهري تقعرا، ومخي غليانا، وقلبي خفقانا، كأنه يجري إلى مثواه الأخير؛ أما نفسي، فترتعش بشدة، كأنها محمومة...
هز أذني صفير حاد، كأنه صافرة النهاية. سرت أبتعد عنه، يلاحقني الشبح، يستحثني اقترابه لرفع الإيقاع. يطاردني، أهوي رأسا إلى حيث لا أدري، بينما هو يخطو بتمهل نحو هدفه، خطوة واحدة من خطواته تعادل لحظات من هبوطي.
أحس بأن قلبي سينفطر.
توقف ساخرا، فابتعدت قليلا، فتخفف إيقاع قلبي. بعد لحيظات، استأنف المشي، فارتفع إيقاعي وغوته في قاع جمجمتي، كاد يفصلها إلى فصين، ويا ليته فعل ليخلصني من هذه الآلام التي تكاد تقتلني.
يعلو الصفير تدريجيا، وسرعة الهبوط جنونيا، وأنا أموت لوعة وأسى.
جُنت الجاذبية، صارت جابذية، أياد تجبذني بعنف إلى بطن الأرض، أحاول جاهدا انتزاع نفسي من بين يديها، لكن حدتها فوق طاقتي.
حاولت فتح عيني لأرى مثواي، لكن الرموش صارت ثقيلة كأنها صخور. معاندا أحاول فكها، لكنها تأبى الانفكاك. تخلت عن طاعتي، عصتني، كأنها لم تغْد مني، أدفعها بكل قوتي للأعلى، بينما هي راقدة على بعضها في سلام تام؛ غير مبالية بما يعتمل في دواخلي، وعيناي، كعيني كفيف، تدوران أسفلها باحثة عن شعاع نور.
صرت أشعر بوحشة كتلك التي يشعر بها العميان، وهم يخوضون في مكان جدَّ عن مخيالهم يلتقطون أصواتا غريبة، فيبحثون عن صوت يدفع عنهم وحشة المكان، ويعيدهم إلى بر الأمان. صوت آمن ليمسكوا به وهم يعبرون المجهول.
سأنحدر إلى قعر هذا المستنقع العميق، والذي وسيغدو لحدًا، بل أنيابا ستغتال فكري، تمزقني؛ سكاكين ستقطع فؤادي إربا إربا، وقرص شمسي واقف وقفة الوداع، يجمع خيوطه المتسربلة على الحياة. يبتعد، يصغر، يميل ليسقط وراء جبل المنون.
فجأة اصطدم ظهري بوجه الماء، ارتفع شواظه عدة أقدام، فعاد صافعا وجهي، رججت رأسي، لكنه لم يرتج، فكابرت لأستدير على جانبي الأيسر، أحسست كأنني ألفُّ نفسي في كفن، لكنني لا أزال على حالي، كأن ظهري التحم بالماء، ترنحت كالذبيح عساي أنفض الثقل الكامن في أناي، وأطرد الأشباح التي تتقاتل أمام عيني.
كل شيء صامت، من حولي إلا ما يعوي في رأسي، كأنه زئير وحوش. يا إلهي، سيفترسونني، أصواتهم تقترب، أحاول لمّ جسدي المتهالك لأفر، لكن أطرافي مشدودة، يا ليت نفسي تستطيع الفرار وترك هذه الجثة المثقلة.
خبت الأصوات، ساد صمت مطبق، فانتابني شعور غريب، أحس كأنني سأبقى هنا، مرميا ككرة مهجورة. تملكني خوف رقيق، وأصوات بعيدة تناديني، أريد استغاثتها، لكن شفتي عاجزتان، فعلى لساني ماتت الكلمات.
زاد اختناقي، فجدران هذا اللحد تجتمع تأهبا لكي تطبق فكيها على نقطة النور التي تبدو كقرص شمس بعيدة بالكاد يصل ضوؤها. أحسست بحاجة ملحة إلى جرعة نور إضافية، تنقذني من هذه الورطة.
توعيت قليلا، فوجدتني لا أزال أسبح في بحر وعي مزيف، يبتلعني بطن السرير الذي غدا مسافات، مقدار أيام من المشي، بل من الانحدار....
صرت وجبة صائغة لكوابيس جائعة، أمسكتني، أخذت تتلاعب بي منتشية، ارتخت، فانفلتت من بين مخالبها ووعيي المكسور يلملم شظاياه.
ومن ذلك الحد البعيد الغائر في مهاو موحلة، صحاري قاحلة عاد صحوي متشكِّلا. فتحت عيني، فوجدتني أتصبب عرقا، وقلبي يدق دقا.
ابيه بظاك
إرسال تعليق