حفصة اسرايدي |
مشــاتل
مجنون عاقل
هدوء جنائزي يلف المكان، لا شيء يوحي بأن هذا المربع المظلم مقهى، ولجتها إلى حين وصول الحافلة بعد أن تعبت قدماي من حملي، وأنا أراقب امبراطورية المتسولين في بلاطهم الكارطوني، واللصوص المتخفية خلف عيونهم التي تراقب أي شيء وكل شيء، ومجنون يتمتم بكلام غير مفهوم ويلعن العالم والوجود، انزويت خلف طاولة تحت نافذة مشرعة خلتها الأبعد عن سحابات دخان لفافات الحشيش والتبغ الرديء، لكنني لم أنجو فتناسيت الأمر بالإنصات لثرثرة العجزة ومن حصلوا على التقاعد قبل حصولهم على العمل.
نعل صغير رث، تخترقه قدم هزيلة ملطخة ببقع من الوحل، أصابع زرقاء متجمدة، وعلى الحواف أظافر كأنها لم تمسسها المقرضة يوما، سروال ممزق، طرفاه بين الركبتين والكعبين، مشدود الى الخصر بقطعة حبل تمسك بها يد نحيلة، اليد الأخرى تحمل علب المناديل الورقية، والصبية تنادي بنبرة المستعطف " اشتروا مني علبة (كلينيكس) من فضلكم".
أشحت وجهي للأسفل، لمحت حذاء رياضيا، حشرت فيه قدمان تلحفتا بسروال متين، ينساب عليه معطف وردي، يزين ياقته وشاح أبيض، ويغطي عنق الصغيرة التي تداعب ضفيرتيها بيد واليد الأخرى ممسكة بأصابع أمها التي ناولت بائعة المناديل درهمين في كفها، مقابل علبة حشرتها في معطف صغيرتها.
زممت شفتي حرقة وصوبت بصري نحو التلفاز المعلق، شيخ يرتدي الأبيض، ذو لحية تحجب نصف وجهه وتلامس صدره، يجلس في وضعية استرخاء على مقعده الجلدي وأمامه كأس عصير ضخم، يعدل الشماغ ويقول: " الفقر مشيئة الله وابتسامة الفقير تخبرنا أن السعادة ليست بالمال."
لعنت الشيخ والمحطة والحافلة والمقهى وخرجت لمجالسة المجنون.
إرسال تعليق
اترك تعليقك هنا
الرجاء تغيير موقع التعليقات في الإعدادات إلى مضمن