فَـــنُّ السَّــــرْد

منبـر أدبـي ثقافي مغربي

recent

آخر المقالات

recent
recent
جاري التحميل ...

ظِلٌّ خَائِن I فاطمة الزهراء دحماني

 

مجلة فن السرد

مشــــــاتـــــــل 


ظل خائن


كانت تحول أنينها إلى ألحان مكتوبة بحروف من آهات دفينة في روحها الطاهرة، حاولت تنويمها حتى لا يستفيق حنينها إلى ماض قد ولى، فضلت أن تسجن شعورها حتى لا ترتشف مزيدا من الألم، تعلمت أن لا تسكب مشاعرها  مرة واحدة، فلطالما اكتشفت أن الإناء الذي تروي منه عطشها مكسور، لكن الوقت كان قد فات بسبب الرصاصة التي تلقتها في ظهرها، هي لم تقتلها، لكنها جعلتها تعيش بقلب ميت، وهذا هو أرقى أنواع الحزن، حزن يخترق العيون دون دموع، ويختفي في  القلوب، فلا تشتكي، بل تتعايش معه دون استسلام.

عاد بعد عشرين سنة ليقول لها  إنه لم يستطع نسيانها، وقد بحث عنها في كل الأماكن، ليصل أخيرا إليها عن طريق مواقع التواصل، بعد أن قررت الرحيل بعيدا عنه، لإنهاء مشوارها الدراسي وكذا العملي، في هذا الوقت كان هو قد كون أسرته الصغيرة، لكنه لم يستطع إبعادها عن تفكيره، لأنه أحبها بصدق.

أثناء تصفحها لصندوق الرسائل تفاجأت برسالة تحمل صورته، ترددت في فتحها، لكن حب الاستطلاع أيقظ عندها  تلك الغريزة، فوجدته يسأل عنها وعن أحوالها واستحلفها بالله أن تجيبه، فكرت مليا وتذكرت الصداقة التي كانت بينهما، وكيف كان يحبها ويخاف عليها، بعد أن تمالكت نفسها ردت عليه قائلة:

_ ما الذي جاء بك إلى ديارنا من جديد ؟

_قال إنه الشوق والحنين وعذاب الضمير  لمن لم تمحها السنين من القلب والعين، وأقسم عليك بالله العظيم أن تسمعيني ولو لحين.

_قالت : أسمعك  

_قال: لماذا لم تقبلي الزواج مني؟

_ردت  : ولماذا لم تستوعب أنت أن إجهاض تلك العلاقة كان خيرا من ولادتها مشوهة كما سبق ولمحت لك بذلك.

استطرد قائلا:

_ أريد أن أعوضك عن كل دقيقة عشتها بعيدا عني، اطلبي ما تريدين : ذهب أملاك سيارة .... وستجدينه رهن إشارتك

_للأسف أنت لم تستوعب ما سبق وقلته لك، أنا لا يهمني المال ولا الجاه بقدر ما يهمني العلم، فطريقنا كان مغلقا لا يمكننا السير فيه معا، لهذا أقول لك للمرة الأخيرة

_مع السس... 

لم يتركها تكمل عبارتها فقال لها : _إنني اموت !!!!

توقفت برهة وسألته :

_ربما هذه لعبة جديدة من الاعيبك القديمة .

_قال : سأرسل لك الدليل، والله على ما  أقول شهيد.

انقطع الاتصال وتركها في حيرة من أمرها، هل هو كاذب أم صادق يا ترى ؟

جلست تسترجع شريط ذكرياتها، وكيف تعرف عليها، فقد أحبها قبل أن يراها وذلك من خلال حديث والديه عنها، كان كل يوم يزداد إعجابا بها  في حين كانت هي صغيرة في مرحلة الإعدادي لا تعرف شيء  عن العلاقات العاطفية، لاحظت اهتمامه لكنها لم تبادله نفس الشعور .

وهي غارقة في بحر أفكارها، رن هاتفها معلنا وصول رسالة جديدة، فتحتها لتجدها عبارة عن تقارير وتحاليل طبية  تستدعي صاحبها لإجراء عملية صعبة على مستوى القلب وفي أسرع وقت.

ردت عليه ببرود قائلة:

_ الله يشافيك، أرجو منك أن لا تتصل بي مرة أخرى فأنت إنسان متزوج وأنا سبق وقلت لك أنه من المستحيل أن يجمعنا سقف واحد، ثم  أغلقت المكالمة.

تضاربت الأفكار في عقلها بين صدقه وكذبه، يومان وهي تفكر في طريقة لمعرفة الحقيقة، تذكرت مذكراتها القديمة، بحثت عن  هاتف أخته التي كانت تعرف بقصتهما، فقد كانت صديقتها المقربة قبل أن ينتقلوا لبيتهم الجديد.

رن الهاتف :

_ الو من معي ؟

_تلعثمت قائلة: هذه أنا 

_ من أنت ؟

_ صديقتك ورفيقة دربك المشاغبة الفيلسوفة  ...

_ يالله هل هذه أنت مريم ؟

_ نعم أنا هي، اشتقت إليك عزيزتي 

_ ولكن ما الذي ذكرك بي بعد طول هذه السنين ؟

_ظروف ومشاغل الحياة   

_كيف حالك عزيزتي وحال أسرتك؟ 

_بخير والحمد لله أتمنى أن تكونوا أنتم أيضا بخير .

_ ماذا أقول لك نحن بخير فقط، هناك خبر محزن، بالأمس خرج أخي محمد على غير عادته وجلس في مكان منعزل ليجده رفاقه وهو غائب عن الوعي، لا أخفيك سرا فهو مريض بمرض مزمن، لم ننتبه له منذ ولادته، وعليه أن يجري عملية صعبة  على مستوى القلب .

استمرت سعاد في كلامها ومريم في عالم آخر تبحث عن مبرر لاتصاله بها، هل هو خوف من  الموت ؟أم يريد التعبير عن حب يكنه بين ضلوعه لها؟ هل تجاهلها له سبب في فقده لوعيه هل وهل وهل ؟

 استغربت  ورق قلبها كيف تقسو عليه وهو في  مرحلة الموت، ربما كلامها وردها البارد هو السبب في توعكه، وبين الحلم واليقظة، تذكرت كيف كان يغار عليها ويترقبها عند طلعاتها من البيت، كيف كان يفاجئها  في المكتبة وهي تستعد لامتحاناتها،

في حوالي السابعة توصلت برسالة جديدة، وبسرعة البرق فتحتها لتجدها عبارة عن مكالمة بين محمد وطبيبه الموجود بمدينة مراكش، يحثه فيها على الإسراع في اتخاذ قرار العملية، ودون تفكير منها ردت عليه برسالة  تطلب منه إجراء الجراحة، وأنه سيخرج منها سالما

_رد عليها :إذا أردت أن أعملها سأطلب منك طلب، 

_ قالت : تفضل 

أعرف أنك لم تخرجي يوما معي ولا مع غيري، ولن تقبلي بذلك، وأنا واثق بأخلاقك، وبأنك أحسن إنسانة رأيتها في حياتي، لكن طلبي الأخير أن تخرجي لملاقاتي، فهناك كلام كثير لم أقله لك، بقي عقدة في حلقي منذ ذلك العهد.

فكرت مليا وأجابته بالقبول .

أطالت المكوث أمام المرٱة توضب حالها وتبحث عن اطلالة توافق تورد نفسيتها ، وتعكس حالة الانشراح التي أصبحت عليها ..  

انتقت من محتويات دولابها ملابس بألوان زاهية ،  متخلية عن الأطقم النمطية التي دأبت على ارتدائها . سرحت بذهنها هنيهة ، وهي تتأمل شكل وألوان  الفستان الذي ارتدته ، فاختلطت عليها صور من خيالها ومتمنيات تتطلع إلى حدوثها على أرض الواقع ..

في المكان المحدد للقاء، وبحانب البحر وجدته شاحبا وهنا، تبدو عليه علامات التقدم في السن، تألمت لحاله وحاولت أن تكلمه بلطف، لكن دموعها قد خانتها، رأفة بحاله وهو يسألها عن نفسها وأسرتها وعن أسباب عدم زواجها حتى الآن

فأجابته أنها كانت تسعى دائما لتحصيل العلم، ومع العمل نسيت قطار الزواج، كما أنها لم تجد الشخص المناسب بعد،

رد بسرعة:أتتزوجينني؟

 سؤال وقع كالصاعقة على مسامعها أريد أن أحقق حلم حياتي وبعدها أموت.

لن تموت، إن شاء الله ستجري العملية وتشفى، وتعود سالما غانما. كان هذا ردها خوفا منها  أن يدخل في غيبوبة جديدة وهو معها.

اختلفت ليلتها هاته ،بعد اللقاء العجيب، بدأت مريم تعتاد على اتصالات محمد بها كل يوم، خصوصا وأن حالته قد بدأت تتحسن، وقد أخبرها أنه سيفاتح أمه في موضوع الزواج،  فالكل يعرف بالمشاكل التي يعيشها منذ بداية حياته الزوجية، وأنه سيتصل بها في المساء لتحديد موعد مع أهلها.

تتسللت إلى نفسها الهواجس، وتضاربت الأفكار في مخيلتها،عامت في بحر التيه الذي قرأ أفكارها سائلا اياها هل تقبلين أن أكون رفيق دربك آخذك إلى أعماقي لألون حياتك بألوان الفرحة والبهجة؟ فجأة سمعت صوتا بداخلها يسألها، ماذا تفعلين؟ لقد أقسمت أنك لن تكوني له زوجة في يوم من الأيام، لماذا تعطينه وعودا كاذبة ؟ أم هناك شيء آخر لا تستطيعين البوح به حتى لنفسك يشبه انتزع الروح من الجسد،  لا تقولي أنك وصلت لنقطة التعلق به؟استفيقي ألم ترضي بالنصيب ؟وقد عوضك الله بالعلم  وأغناك  بالعمل؟

فزعت من غفوتها مستعيذة بالله من الشيطان، انتظرت ساعات وساعات  أن يتصل بها كما وعدها، لكن دون جدوى، حاولت الاتصال به لكنها  اكتشفت أنه قام بحضرها من جميع مواقع التواصل.

حاولت أن تقاوم لوعة الألم الذي يختلج صدرها، سألوها عن شرود عينها قالت إنما أشكو بثي وحزني إلى الله.

في تمام العاشرة رن هاتفها، أسرعت وهي ترتجف ظنا منها أنه هو، وإذا بصوت مبحوح بنبرة الحزن يرد عليها :

مريم أخي يحتضر إنه بالمشفى، 

 تلعثمت وهي تجيب : كككيف لا يمكن ذلك ؟

- لقد أخبرنا بكل شيء، لا يمكنك أن تتصوري فرحته بك، لكن ونحن نستعد لزيارتكم دخلت علينا زوجته،  وهي تتوعد بقتلكما معا، وأقسمت أن تجعلكما تدفعان الثمن غاليا، وبمجرد سماعه لكلامها سقط مغشيا عليه لأنه على يقين بأنها ستفعلها، فحملناه على وجه السرعة لتلقي الاسعافات الضرورية، وقد أمرنا طبيبه بضرورة إجراء العملية، ورغم شدة ألمه طلب مني أن أخبرك أنه قام بحضرك من مواقع التواصل، خوفا عليك من زوجته، لكنه لم يستطع حضرك من قلبه وكيانه، وأنه  يتمنى أن تكوني آخر صورة يأخذها معه إلى قبره.

أصبحت لا تستطيع النوم، فتحرك سكون الليل بالصلاة والدعاء،  حتى تطرق  أبواب أوقات السحر،تراقب النجوم، متوسلة بشفاء قلبه السقيم،

لم تنم مريم تلك الليلة وهي تفكر في طريقة لزيارته دون أن تحس بها زوجته.

في الصباح الباكر، توجهت إلى المشفى  وقد كتبت ورقة مفاذها أنها تنتظره بعد إجراء العملية،أرسلتها له مع الممرضة.

مرت ثماني ساعات، هاهو ياخذونه لغرفة الانعاش، قال الطبيب سنتجاوز  مرحلة الخطر بعد مرور 24ساعة، وقد فعلنا كل ما بوسعنا والأمل في ا لله كبير، هو الآن يسألكم الدعاء له. تسمرت  في مكانها، فقد كانت متخفية في وزرة ممرضة باتفاق مع الطبيب لأنه يعرف القصة بأكملها فهو طبيبه الخاص.

 عندما أفاق من أثر المخدر ، تطلع فى الوجوه، يبحث عنها، إنها هنا ملاك الرحمة، هكذا كان يسميها، تبسم ابتسامة ألم لم تستطع هي كبح تلك العبرة التي خانتها، والفزع الذي يأكل ملامحها، إنها تحترق بحمى التفكير، فهم كل شئ، وجوه الأطباء والممرضات، و أولاده  وزوجته، وعائلته، أكدت ما قرأه فى وجوههم، فهم أن كل شئ قد أنتهى، وأنه لا أمل ...كانت قواه خائرة، وقد تلاشت صلابته المعهودة، كان ساهماً طوال الوقت، غارقاً فى التأملات، غائباً عمن حوله،الا عنها وحال لسانه يقول :ماذا لو  توقفت عقارب الساعة عند ثغرها...وظللت متدثرا بغطاء عطفها وحنانها...ماذا لو اعتذرت الشمس عن المغيب، وأتوسل للقمر أن لا يظهر قبل أن تفيض عيوني بك وارتوي منك حتى الموت.

سمع رنين متواصل، خط الشاشة استوى مستقيما، منذرا بحلول خطب ما،تسرع الأقدام من كل حدب، تعالت الأصوات، لا بد  من إخلاء القاعة 

يزداد تباطئ النبض، أسرع الطبيب لحمل طارات جهاز الصدم الكهربائي، صاح بأعلى صوته :

_هيا ضعيه على أعلى درجة بسرعة

_ردت الممرضة بنظرة مترددة، قد يموت...

_لا وقت لدينا ...

ساد  صمت مخيف، إلا من خفقان القلوب والأجهزة...فجأة سمع طنين الجهاز.

_لقد عاد النبض ...النبض مستقر...

مر الزمن رتيبا، هاهو محمد قد عاد كما غادر دون سابق انذار معلنا انتعاش قلبه من جديد،  وبدأ اليأس يغادر مفسحا المجال لأمل انبعث فجأة ، الكل في قاعة الانتظار يترقب النتائج التي سيعلن عنها الطبيب، 

_الحمد لله تجاوزنا مرحلة الخطر،

ردت عليه زوجة محمد :

_ هل يمكنني رؤيته؟ 

_ فقط شخص واحد يمكنه الدخول.

_ أنا زوجته....

وجدت مريم نفسها أمام أحداث جديدة على مفترق الطرق، فلا هي في سجنها المؤبد ولا هي حرة قادرة على استنشاق هواء طلق، أطلت من شرفة سطر فارغ لعلها تجد إشارة للعودة لكنها اصطدمت بيده في يدها، ونظراته التي توهم بولادة إنسان جديد.

تراجعت خلفا إلى الوراء ارتطمت بظلها فصرخ قائلا لما لا نرحل وندعهم في سلام؟

 بقلمفاطمة الزهراء دحماني

عن الكاتب

مجلة فن السرد

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

فَـــنُّ السَّــــرْد