فَـــنُّ السَّــــرْد

منبـر أدبـي ثقافي مغربي

recent

آخر المقالات

recent
recent
جاري التحميل ...

طغيان شعرية السرد في "نحيب المقصلة" للقاصة أمل حمزة خضير I عبد الله الميالي

        




بقلم الكاتب: عبدالله الميّالي – العراق


  قراءة في مجموعة (نحيب المقصلة)* 

 قصص قصيرة جداً للقاصة أمل حمزة خضير


(الكاتب يريد أن يقدّم فكرة أو وجهة نظر معيّنة في موضوع معيّن، وهذا خطاب، والقارئ يتلقى هذه الفكرة أو وجهة النظر كما يستخلصها هو من النص بالطريقة التي يختارها، وهذا تأويل للخطاب أو قراءة له، هناك إذن جانبان يكوّنان الخطاب: ما يقوله الكاتب وما يقرأه القارئ.)[1]

قدّمت مجموعة (نحيب المقصلة) للقاصة أمل حمزة فكرتها، وبعثت برسالتها إلى القارئ، فتحقق أحد جانبي الخطاب حسب أطروحة المُفكّر أعلاه، وبقي على القارئ أنْ يستخلص مضمون المجموعة قراءة وتأويلاً ليتحقق الجانب الثاني. 

العنوان الصادم 

في كل منجز أدبي، يمثل العنوان العتبة الأولى التي تواجه القارئ، وهنا تفاجئنا الكاتبة بعنوان صادم وغير مألوف على المستوى الأدبي (حسب زعمي) يحمل مفارقة تشي بتناقض صارخ: (نحيب المقصلة).

وحسب موسوعة (ويكيبيديا) الالكترونية جاء في تعريف المقصلة: هي آلة استخدمت للإعدام في فرنسا، تتكون من شفرة حديدية حادة تسقط من أعلى فتهوي على رقبة الذي يُراد إعدامه فتقطع رقبته.

إذا كانت المقصلة كذلك، فماذا قصدت الكاتبة من عنونة مجموعتها بهذا العنوان الصادم؟ وهل ننتظر من المقصلة وهي الصمّاء الخرساء عديمة المشاعر، وقاسية الفعل أنْ تذرف الدموع وتنتحب بالبكاء؟ 

الإجابة على هذين السؤالين هو من خلال الطواف على نصوص المجموعة التي تماهى بعضها مع موضوعة مسلسل القتل اليومي للإنسان وخصوصاً في عالمنا العربي مع اشتداد ضراوة الحروب والمعارك والويلات الخارجية والداخلية، وتصفية الحسابات السياسية التي يدفع ثمنها الإنسان البريء، كأّنّ الكاتبة تريد أن تبعث برسالة إلى العالَم، ملخّصها: "إنّ المقصلة ملّت وظيفتها التي تعوّدت عليها، بعد أن تجاوز طوفان القتل كلّ الحدود" ، وكأنّ الكاتبة تريد أن تصرخ وتهتف بالعالَم: "كفى قتلاً وترويعاً؟ كفى سفكاً للدماء؟ فحتى المقصلة وهي آلة من جماد بكت للإنسانية المعذبة، وأنتم لا يهتزّ لكم ضمير" ، فنقرأ للكاتبة نص (خطايا) حيث مقصلة التقاليد لها أيضاً حصّة في مسلسل القتل: "أمامَ عَينيها ذَبحوه, امتلأتِ المجازر، نفوسٌ انكسرتْ، في عمقِ الظلام تطوفُ أرواحٌ مزَّقها الفراق، ومقصلةُ التقاليدِ ما زالتْ تقتلُ الأحلامَ." 

القصة القصيرة جداً، نص سردي يهدف إلى بعث خطاب جديد من خلال جُمل مكثّفة ولغة شاعرية، حيث يستطيع مثل هكذا نص في بضع أسطر من جُمل مكثفة ذات دلالة وإيحاء ورمزية أن يختزل عدّة صفحات، ممّا يسمح للقارئ أن يطوف بخياله حول حدود النص قارئاً وباحثاً ومحقّقاً ومدقّقاً ومكتشفاً ومستمتعاً.       

وما يُميّز القصة القصيرة جداً، أنها ذات بُنية غير ثابتة وغير نمطية، بل تتزئبق منفتحة على الشعر من جانب، وعلى الأسطورة من جانب آخر، وعلى الغرائبية من جانب ثالث، وفي كل جانب يجب أن يكون التكثيف والقصر هما السمة البارزة في نصوص القصص القصيرة جداً وكما هو واضح من المصطلح نفسه.

ورغم التكثيف الشديد للقصة القصيرة جداً (الحداثوية) فإنها استطاعت أن تعكس هموم المواطن (سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وإنسانياً ووجدانياً) ، وأنْ تجسّد أهم وأعمق اللحظات الإنسانية في حياته.

وليس كل كاتب يستطيع أن يسبر أغوار القصة القصيرة جداً رغم قصرها الشديد، إلا من كان ماهراً في اقتناص المفردة الأدبية وتوظيفها حسب السياق الأدبي المتعارف عليه في بناء القصة القصيرة جداً، حيث يتوجّب على الكاتب هنا أن يتعامل بمهارة في اختزال وبناء الحدث من جهة، والعمل على مساحة أقل بدون مناورة من جهة أخرى، مفضلاً المفردات القليلة ذات المدلولات الكبيرة التي تخدم النص.   

ويرى أحد النُقّاد وقد أصاب الهدف، بأنّ "النص الأدبي يعتمد – في جودته كنص أدبي – على شاعريته، على الرغم من أنّ النص يتضمّن عناصر أخرى"[2] .. وحيث أنّ مجال الشعرية هو: "الانتقال من لغة التعبير إلى لغة الخلق، ومن لغة التقرير إلى لغة الإشارة، ومن الجزئية إلى الكلية، ومن النموذجية إلى الجديد الذي يؤسس الشعرية، مبنية على التناوب والبحث والشكل المتحرك، والإيقاع، والرؤية المتناهية"[3] ، فقد طغت شعرية السرد على معظم نصوص مجموعة (نحيب المقصلة)، وبدت الكاتبة بارعة في اقتناص المفردات الشعرية وتوظيفها بطريقة زادت من جمالية وإبداع ورونق النصوص، كما نقرأ في النص الذي حمل عنوان (انحراف) : "استطاعَ الوصول إلى الرَّوضةِ التي أزهرتْ وردها, مضتْ برفقتهِ, بعدَ أنْ جَرَفَهما الطُّوفان عادتْ مثقلةَ الخُطى تَجرُّ أذيالَ الخيبةِ, تبحثُ عن السَّبيل للخلاصِ من الخطيئةِ التي زرعها بأحشائها."

وقد تنوّعت ثيمات المجموعة بين هموم الوطن، والحب، والهجرة والغربة، والقلق الإنساني، والثورة والحرية، والاستئثار بكرسي الزعامة، ولكن طغت موضوعة المرأة (الأم، البنت، الزوجة، العاشقة) بشكل واضح. 

فنطالع هذا النص (احتياج) على لسان فتاة ترتدي فستان الزواج وتقف أمام لوحة أمها التي غيّبها الموت: "ارتدتْ فستانها الأبيض, دارتْ حول نفسها يغمرها الفرح, وقفتْ تسألها: هل أعجبكِ فستاني؟ انظري يشبه فستان زفافك أمي, .. اقتربتْ أكثر, رفعتِ الصورةَ من الجدار وضمَّتها إلى صدرها, سالتْ دموعُ عينيها: تمنيتُ أنْ تكوني بقربي هذه الليلة."

وهذا نص (خصام) على لسان فتاة عاشقة: "لم أعدْ أكتبُ لهُ, ظلَّ القلمُ مستلقياً بينَ طيَّاتِ الورقِ, الشفاه التزمتُ الصمتَ, لكن العيون تمردتْ وافصحتْ عمَّا يحملهُ القلب من حنين واشتياق." كأنّ النص هنا يستحضر بيتي الشاعر بشار بن برد:

وإذا التقيـنا والعـيونُ روامـقٌ       صَمتَ اللسانُ وطرفُها يتكلمُ

تشكو فأفهمُ ما تقولُ بطرفِهـا       ويردُّ طرفـي مثلَ ذاكَ فتفهـمُ

وللثورة حصتها في المجموعة في أكثر من نص، منها هذا النص الذي حمل عنوان (شُعلة) برمزيّة وشعرية مميّزة أبدعت الكاتبة فيه أيّما إبداع: "طافتْ الأرض تبحث عن الارتقاء، انفجر بركانها ربيعاً، أزهرتْ قوافل تنتظر الإشارة.. دقَّ ناقوس الخطر، أطفئوها، بأمر الحاكم قلعوها من الجذور." ، تتمظهر ملامح الثورة من خلال مفردات (شعلة، انفجرت، ربيع، أزهرت، أطفئوها، قلعوها) إنها بلا شك إيحاءات رمزية لثورة موءودة.

الهمّ الإنساني ومعاناة النفس البشرية لموقف أو حدث ما، لم يكن ببعيد عن قلم الكاتبة وهي تبعث بخطابها إلى القارئ، كما في هذا النص (عَوَق) حيث بطل القصة المعاق يتمنى لو كان صحيح القدمين ليستمتع بالرقص تحت زخات المطر، في هذا النص (كما في معظم نصوص المجموعة) تكفّلت الكاتبة بنصف ما تريد قوله تاركة للقارئ النصف الآخر: "عادَ الشتاء محتفلاً بحياة جديدة, تراقصتْ حبات المطر على أضواء البرق, سئمتُ النظر من خلف الزجاج, فكرّتُ بمواجهة نفسي فوجدتها عاجزة عن الوقوف احتراماً لصبرها, أتنفس بعمق وأجلس على ركام اليأس، فلا أمَلْ في الرقصِ تحت المطر."   

لأنّ الفاقة هم أم الجريمة، جاء هذا النص (فاقة) ليكون شاهداً على سقوط بطل القصة في مستنقع الجريمة: "خَلَعَ الليلُ رداءه, تبعثرتْ نجومهُ سقطتْ في فضاءِ التِّيه, كشَّرتِ الذئابُ عن أنيابها, تَولَّدتْ حكاياتٌ ما زالت تنزفُ ألماً, هَربَ من واقعٍ مظلمٍ؛ غاصَ في وحلِ الخطايا." 

تتنوع صورة المرأة الضحية في مواقف وأحداث لا تعدّ ولا تُحصى، كأنّ قدرها أن تكون كذلك، في نص (هَجر) تعتصر الزوجة ألم هجران زوج لم يفكر حتى بفلذة كبده، فيخبو أمل عودته لتبقى صور الذكريات هي أنيس حُلُم موءود: "تصفَّحتْ مذكراتها, ذلكَ الأمل ما زالَ يسكنُ السطورَ, تنهيدةُ  شَجنٍ, وئدتْ حلمها بعودتهِ, توسدتِ الألمَ وفي صدرها صوتُ طفلةٍ تناديه."

وعلى منوال النص السابق، جاء هذا النص (جَفاء) لتثبت الكاتبة أنّ مجموعتها تنتصر للمرأة الضحية، وهذه المرّة المرأة/العاشقة التي نثرت بذور الحُبِّ في أرض غير صالحة، عندما اختارت الرجل الخطأ: "دنا من أسوار قلبها, زرعتْ أرضهُ وروداً, اعتلتْ قمم العشق, جفَّتْ ينابيعه, ذبلتْ ورودها وهو يسقي  ما حولها."

وحيث نستشهد بمقولة أحد الباحثين في أدب القصة القصيرة جداً: "إنّ هذا الضرب من السرد القصصي، ضرب فني أصعب من سواه، لأنه سرد فاضح لمن لا يمتلك موهبة قصصية حقيقية، فهو يلزمه اللعب فوق رقعة محدّدة، وإمكانات مقتضبة، بمهارة رجل السيرك الحاذق، فإما النجومية أو السقوط المدوي"[4] ، فلعمري أنّ الكاتبة أمل حمزة خضير قد امتلكت ناصية المهارة والإبداع في هذه المجموعة المتميّزة (نحيب المقصلة) كما أبدعتْ بشكل متميّز في توظيف اللغة الشعرية بطريقة محكمة ومنسجمة مع الخط السردي العام للنصوص، إضافة إلى أركان وأسس القصة القصيرة جداً من (تكثيف، واختزال، ورمزية، وإيحاء، وفعلية الجملة) فأضافت لمكتبة القصة القصيرة جداً مجموعة متميّزة جديرة بالقراءة والاهتمام.   

الهوامش: 

*أمل حمزة خضير، نحيب المقصلة، قصص قصيرة جداً، دار الوارث للطباعة والنشر، 2020  

1 – محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر، ص10   

2 –  عبدالله محمد الغدامي، الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحية، ص23 

3 – منال بن ساحة، فاطمة بن خالد، شعرية السرد في القصة القصيرة جداً، ص18 

4– صالح هويدي، السرد الوامض، ص12  


عن الكاتب

مجلة فن السرد

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

فَـــنُّ السَّــــرْد