تسريد التاريخ في القصة القصيرة
لبول ريكور وقفات فكرية مهمة عند كتاب( فكرة التاريخ) لكولنغوود ومنها وقفته عند فكرة تفعيل الماضي في الحاضر وسحب الحاضر نحو الماضي.
وعليها بنى ريكور تحليله للتاريخ على تصور ثلاثي الأبعاد: البعد الأول هو الجانب التوثيقي، والبعد الثاني هو عمل الخيال، والبعد الثالث هو الطموح الذي تحمله الأبنية التي ينتجها الخيال في إعادة تفعيل الماضي.
واستعمل ادواردو غاليانو هذا البعد الثالث في القصة القصيرة مستحضرا التاريخ بوصفه مسرودا والقصة هي الساردة في القصة المعنونة (قصة المنتقمة الأنثى وكبير الملائكة في قصر المذنبين) وجعل المؤلف جزءا من الحدث القصصي مؤديا دور المسرود له في رؤية واقعة تاريخية، أراد كشف النقاب عنها.
ويتخذ التسريد في هذه القصة شكل رسالة أرسلتها (القصة نفسها) إلى الكاتب، بوصفها هي الساردة وقصدها الانتقام منه، متحدية إياه ان يكون قادرا على أن يكتب قصة كالتي هي تكتبها مقدمة إليه نصائح وتوجيهات في كيفية كتابة القصة، ابتدأتها بالقول:( عزيزي الكاتب ما يدفعني للكتابة إليك ليس الإعجاب وإنما الشفقة على إلهامك وخيالك المحدودين في نثرك الذي هو ملائم بقدر ما هو مبتذل لا يجد القراء أي شيء لم يقرؤوه من قبل. تقدم لك هذه الرسالة فرصة ان تكشف عن موهبتك المخبأة. هذا إن كان لديك شيء مخبأ في مكان ما. صدقني لا تحتاج إلى أن تكون عبقريا لكي تطبخ قصة جيدة من جميع العناصر التي امنحها لك).
وسبب هذا الانتقام ناجم من غيرة الساردة/ القصة من المسرود/ التاريخ، إذ أن عناية الكاتب بالماضي أنسته العناية بالسرد. وفيها أيضا إشارة رمزية إلى الفارق الكبير بين التزمين كطريقة في تسريد التأريخ وبين التمثيل كطريقة في تسريد التاريخ.
وشتان بين( تزمين) يريد التطابق مع الماضي وبين( تمثيل) يريد تجاوز الماضي إلى الحاضر بالمجاز والاستعارة.
وإذا كان غاليانو قد رفض التمثيل الذي جعله هايدن وايت أساس التخييل السردي ليكون السرد هو المقصود لذاته وليس التطابق مع الماضي، فإنه أي غاليانو وافق ريكور رؤيته للسرد متطابقا مع الماضي الذي هو التأريخ.
وبالتخييل التاريخي ترزم الساردة الأنثى المنتقمة أحداث قصة تقترح سردها على الكاتب، وتبدأ من مشهد الهضبة العالية وعليها ماخور كوماياغوا. ويؤدي دور البطولة كبير الملائكة القزم بأنفه الاحمر وصوته كصوت الطفل ومعه كالاميتي فتاة الماخور وحصانها الشيطان وأصداء طبول الاباتشي تطاردها.
وقد تناصت القصة مع حادثة لاتينية قديمة. وبين الفينة والأخرى تقطع الساردة نصها وتخاطب الكاتب بعبارات تعليمية وتوجيهية، من قبيل قولها: ( الكاتب المحترف ينبغي أن يعرف أنه في السرد القابل للتصديق تكون اصغر التفاصيل أكثر أهمية) أو قولها: ( بوسعك أن تتخيل ان كبير الملائكة قضى وقتا ممتعا وأن الحياة هي متعة أكثر منها خلاص ولكن بوسعك أن تفترض كذلك أن كالاميتي تعبت من كل شيء.. لابد أن أحدا ما سمع صوت الحوافر والصفير. كانت تصفر لتستمع برفقة نفسها؟ لتستنهض شجاعتها؟ بوسعك أن تختار) أما قولها: ( من فضلك أتوسل إليك لا تزعجني وتسألني إن كان هذا قد حدث حقا. أنا أقدمه لك بحيث تجعله يحدث أنا لا أطلب منك أن تصف سقوط المطر ليلة وصول كبير الملائكة) فيدل على أن الساردة ميالة إلى التمثيل التاريخي ولذا وبخت الكاتب لأنه مال إلى التزمين التأريخي.
وما أن تتعقد الحبكة حتى تنفرج بالخيال الذي يرمز إلى التاريخ بينما يرمز الحصان الأسود إلى التأريخ، وانتصار الثاني على الأول هو توكيد لانحياز الكاتب إلى طريقة التزمين في تفعيل الماضي والتطابق معه وليس إعادة كتابته.
وتفترض الساردة أن الكاتب/ المسرود له سيتساءل: أين ذهب كبير الملائكة؟ هل عاد إلى السماء ؟ هل أصبح إنسانا؟ وهذا هو سؤال الموثوقية للسرد القصصي الذي يحتاج برهانا توثيقيا في كتابة التاريخ.
ولأن الروائيين يفتقرون إلى الدليل المادي فهم يطلبون من قرائهم ليس فقط أن يمنحوهم الحق في معرفة ما يرونه أو يعرضونه، بل أيضا اقتراح تقدير أو تقويم للشخصيات الرئيسة.
وبسبب هذا الافتقار يعجز الكاتب عن الإجابة وتجيب القصة بدلا عنه قائلة:( لا تزعج نفسك بالسؤال لا احد يستطيع الإجابة لا في كوماياغوا ولا في أي مكان على الكوكب. آسف أيها الكاتب ليس أمامك خيار سوى أن تفعل ذلك) وتوقع في ذيل الرسالة باسم( المخلص لك الاسم لا يقرأ.) كنوع من الإيهام.
إن هذه القصة بالرغم من لا طبيعتها فإنها رمزية في اعتمادها على ما في التاريخ من مساحة زمانية يمكن للكاتب أن يتجول عبرها ماضيا وحاضرا ومستقبلا.
وهذا غير ممكن مع التأريخ لان المساحة الزمنية محصورة في الماضي. وأكثر المؤرخين لا يعرفون الماضي على الإطلاق، بل يعرفون فكرتهم عن الماضي فقط، لكن التاريخ لا يكون ممكنا ما لم يعرف المؤرخون أنهم يعيدون تفعيل فعل ليس هو بفعلهم علما أن هذا الكاتب هو غير المؤلف الضمني لكن الساردة الذاتية هي نفسها الشخصية التي تحضر بوصفها شاهدة بوجهة نظر مصاحبة.
وبوصف المؤلف الضمني هو قناع المؤلف الواقعي الذي يتخفى بجعل نفسه السارد المحايث في العمل أي الصوت السردي، يكون غاليانو قد مثّل في قصصه دور المؤلف الضمني. أما القارئ الواقعي فهو تعيّن للقارئ الضمني الذي هو صورة للقارئ المفترض في علاقته بالسارد. وإذ يختفي المؤلف الواقعي وراء المؤلف الضمني فإن القارئ الضمني يكتسب جوهره المادي في القارئ الواقعي. وهذا القارئ الواقعي هو القطب الذي يقابل النص في عملية التفاعل التي تفضي إلى تكوين معنى العمل.
وما دور الكاتب الواقعي في تزمين القصة القصيرة سوى اكتشاف ما في قالبها من إمكانية التوسيع السردي. أما القارئ فيدرك أن الكاتب الذي يشرك نفسه داخل النص انما هو يعطي القارئ فرصة أن يشرك نفسه أيضا داخل النص كمسرود له هو طرف في العملية السردية .
والمحصلة أن كلا من المؤلف الضمني والقارئ الضمني سيصيران مقولتين تتناغمان مع السرد كمعادلين موضوعيين للواقع. أما ما تسفر عنه عملية الاندغام فهو أنها تصب في غاية واحدة وهي جعل القارئ منتجا وهو يتأمل حاله مشاركا المؤلف المعرفة فمثلما أن المؤلف يكتب نصا يختفي داخله ويتظاهر أنه خارجه، فإن القارئ يقرأ نصا يفترض فيه أنه خارجه بينما هو مدرك أنه موجود داخله.
وبذلك لا تكون عملية المشاركة منتهية إلى إحساس قرائي بالتمويه والمخادعة بقدر ما هي عملية مراوغة وتحد، بها يتمكن القارئ من إكمال ما تركه المؤلف من فراغات. وما ذلك إلا لأن النص السردي ليس مخصوصا بمن يكتب أو يقرأ، بل هو متزامن بين الاثنين الكاتب والقارئ. مما يتجلى في كثير من السرديات غير الكلاسيكية التي تتعامل مع الزمان تعاملا لا يقف عند حدود معرفية معينة، ويمتد سعيا إلى التجريب كما فعل غاليانو وهو يجرب في حدود القصة القصيرة فلا هو خرق المسار التاريخي للأجناس الأدبية بحجة اللاتجنيس أو الانفتاح، ولا هو أدعى ابتداع جنس أو أجناس أخرى.
د. نادية هناوي، كاتبة وناقدة عراقية.
إرسال تعليق