الأَعْرَج
كان يتقدم نحو الدوار، بتثاقل شديد تحدثه هذه الرجل العرجاء، يعوضها عكاز خشبي، حتى صار كرجل ثالثة، تسببت في ارتفاع كتفه الأيمن عن الأيسر، ليتحاذى مع أذنه.
"العْرَجْ" لقب التصق به منذ أن فتح عينيه على هذه الدنيا، وقد زادت هذه الصفة الخلقية من نسب الشتائم والتنكيل المتقززة من أصوله، والتي لا يعرف عنها شيئا، سوى أنه ابن زنى، وجد مرميا بجانب الطريق، وقد تكلفت به عجوز، يتناقل أهل القرية أن لعنة أصابته بسبب تعويذاتها، قبل أن تتوفى وتتركه في سن السادسة.
"هذا الدوار أملي الأخير.." بصق هذه الكلمات كسم زعاف اختلط بِرِيقهِ، مواجها شمسا ملتهبة تحرق الوجوه، بينما انسابت شلالات العرق من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه، كان يأخذ بين الفينة والأخرى قسطا من الراحة، لكنه لا يلبث أن يشــــــــد على عزيمته، لإخــــــــــــــراج كل ما في جعبته بهذه الكلمات: "هيا يا عبد السلام، عليك أن تواصل، لم تعد بعيدا عن الدوار..".
الجوع الشديد يزيد من هذه العزيمة ويقويها، قبل أن تحبطها الخطوات العرجاء. فيقف ملتفتا إلى الوراء، علَّه يرقب عربة قادمة، تقله إلى وجهته، لكنه يعود في كل مرة خائبا، ينفث الآهات.
من بعيد تراءت له شجرة باسقة، إنها علامة على قرب الدوار، سَرَّعَ الخطى حتى اقترب منها، كان ظلها يمتد ليصل إلى بئر بارزة، اضطجع بجانبها يلهث كالكلب، كاد النوم يأخذه، إلا أن العطش أحرقه، فأخذ يزحف على ركبتيه، ليشرب شرب البعير من حوض خصصه فلاحو الدوار لسقي ماشيتهم.
ملأ بطنه ثم تراجع إلى ظل الشجرة، حيث بدأ يفكر في جوعه الكبير، وهو الذي لم يأكل شيئا منذ يومين. مسترجعا الطرق التي لفظته بها كل الدواوير، رافضة إطعامه، إلى أن وصل بها الأمر أن بخلت عليه بكسرة خبز يتيمة.
لم يستطع إيجاد تبرير لسلوكهم، لكنه توصل إلى أنه صار منبوذا مرفوضا، ولم يبق له غير هذا الدوار، بعد أن عاش على عطايا الناس وإكرامياتهم، قبل أن تتحول إلى جفاء ونظرات شزراء.
تململ من مكانه نافضا عنه أعباء التعب، قاصدا أول خيمة تصادفه، لم يصل إلى الباب إلا بعد كر وفر مع كلاب البيت، طرق الباب مطولا ثم فتحه طفل، لكنه رده: "أبي ليس هنا.." مقفلا الباب بكل قوة.
لم يستسلم وتحرك نحو الباب الموالي، لا خيار لديه، كان التعب والجوع يحدث في رأسه هلوسات غريبة، فيقف للحظات متسمرا في مكانه ينظر إلا اللاشيء. "باب آخر .. يا ربي أطعمنا.." هكذا همهم وهو ينظر إلى السماء مستسلما. قوبل بالرفض مجددا، وبعلامات الارتياب .. كانت امرأة، فكر في أن ينفجر في وجهها .. ويشفي غليله.. وليأت الموت. لكن خوفا دفينا غير مبرر منعه، فكتم غيضه ومضى نحو الخيمة المقبلة، وهو يفكر في قساوة هؤلاء الناس، وكيف أنهم اتفقوا على لفظ رجل أعرج عاجز ..
رفع رأسه إلى السماء مجددا، وقرر هذه المرة أن يشتمها لتركه ضائعا جائعا .. لكنه تذكر أن السماء جادت هذه السنة بأمطار كثيرة، هلل لها الفلاحون ورقصوا على وقعها شهورا.
أرهقه التفكير .. فاستند إلى أحد الحيطان، يراقب قطعان الأغنام عائدة من المرعى، بعد أن نالت نصيبها من الكلأ والماء. كانت تسير وكأنها جيوش جرارة، تخلف حوافرها زوبعة من الأتربة.. كان يتخيلها مشوية، فسال لعابه ..
حرمه من لذة هذا الحلم صوت خروف تائه، كان وحيدا، فالتفت يمنة ويسرة، لم يكن هناك أحد، فتذكر على الفور الشواء والمرق، وقبل أن يسيل لعابه، وقف بخفة وتناول عكازه بحذر، ثم رفعه في الهواء وصوبه بقوة إلى رأس الخروف، الذي ترنح كسكران، قبل أن يسقط دون حراك.
انتابه مزيج من الخوف والريبة، وأحس أن كل الأعين ترمقه، لكنه شجع نفسه مبرزا حقده، ثم ترجل وكأنه ليس بأعرج نحو الخروف، بعد أن أزال جلبابه الأول في رمشة عين، وجعل الخروف داخله، عاد إلى مكانه منتظرا إسدال الليل ستائره.
جر الخروف لمسافة ليست بالقصيرة، هناك حيث خيمة مهجورة، كانت وجبة شواء يتمناها كل محتضر قبل موته، أكل حتى انتفخ بطنه، واستسلم للنوم.
في الصباح استفاق على نباح الكلاب، إنها نفس الكلاب التي نَازَلَهَا قبالة أول باب يطرقه، تأكد من ذلك بعد أن سمع صوتا يقترب:
ـــ هل رأيت وجهه.. ؟
ــــ نعم يا أبي، كان يلبس جلبابا، ويستعين بعكاز ..
ــــ ابن الكلبة .. أين سيهرب مني .. ؟
كانت بقايا أعضاء الخروف تحيط به، فانزوى في إحدى جنبات الغرفة مرعوبا..
حسن كشاف
إرسال تعليق