يقول رولان بارت في "الكتابة في درجة الصفر" ، إن "الكتابة التي أومن بها..تكشف ماضيّ واختياراتي، تمنحني تاريخا، تعلن عن وضعيتي، تجعلني ألتزم دون أن أقول ذلك". هو إذن التزام ضمني قد لا نصرح به، لكن بماذا؟ التزام بتضميد جراح الإنسان والأوطان، التزام بكشف المستور وتنوير العقول، وسبر أغوار اللامألوف، لأنه "لكيلا نموت من الحقيقة، اخترعنا الفن" بتعبير نيتشه.
أعتقد أن السؤال الذي يجب أن يُطرح على الكاتب، كيفما كان شأنه وقيمته، هاويا كان أو "محترفا".. ليس هو لماذا تكتب؟ أو كيف تكتب؟ بل من أين تأتي بهذه القوة كلها؟
الكُتّاب في العالم أقوياء، وفي بلدنا عظماء جدا، يعيشون في الظل بعيدا عن الأضواء ودون ضجيج، وينسحبون من هذه الحياة في صمت وبكبرياء، دون أن يلتفت لهم في الغالب أحد، قبل أو بعد رحيلهم..
يكتب المبدع، القاص أو الشاعر أو الروائي... في بلدنا، عن الناس كافة؛ الأقوياء والضعفاء، النخبة والعامة..ومن عبث الأقدار أن يجني النكرانَ والتجاهل من الجميع وقتَ ضعفه وذبوله، إذا استثنينا تعاون وتعاطف بعض الأصدقاء والأقرباء.
يكتب المبدع، القاص أو الشاعر أو الروائي... في بلدنا، عن كل الأشياء، يمنحها خيالُه الرّحب والمعطاء أرواحا وألسنة ومواقف..يكتب عن الأشياء الجامدة والأمكنة الخالدة في ذاكرته، يكرمها ويحييها. يُنطق الشمعة والجدار والورقة والشجرة والدمية وكل شيء.. يصنع رصيدا رمزيا، أدبيا وفكريا، هو رأس المال اللامادي للمجتمع. ومن سخرية الأقدار، أن يموت بما أحيى وخلّد؛ أن يخطف روحه ميكرفون طائش، أو تترك ابرة لعينةٌ يدَهُ وقتَ وهنه واستنجاده بها.
هي ربما "أشياء تتحرك"، نحركها لنبني بها وعيا وجمالا وانفتاحا وتقدما، لكنها ليست كلها بارّة، ومن العقوق ما قتل.
"أشياء تتحرك" هو عنوان مجموعة قصصية للكاتب الكبير ميلودي شغموم، الذي عانى ويعاني صحيا، ولم يجد، كما أسلفت، إلا تعاون أسرته الصغيرة، وأسرة الأدب الكبيرة، ما دفع أصدقاءه وعائلته لإصدار بيان السنة الماضية، يستنكرون فيه الإهمال الذي قوبل به روائي من طينته، رجل بمسار علمي وإبداعي كبير، " أعطى الشيء الكثير للأدب والرواية والفكر داخل وطنه وخارجه، وقضى جزءا كبيرا من عمره يلقن أبناء المغاربة المعرفة في المدارس والمدرجات الجامعية، وظل ينتج ويبدع في صمت بعيدا عن الجوائز والصالونات الأدبية ولم يطلب في يوم من الأيام شيئا" يقول ذلك البيان. ومثل هذا الرجل كثيرون وكثيرات، تقلبوا ويتقلبون وحيدين على أسرة المرض، كان آخرهم محمد البغوري قبل أيام.
هذه الكلمات نابعة من حزن عميق لقاصّ يتلمس طريقه، يشاغب لاكتشاف ذاته والحياة. حزن ينبعث في روحي كلما رأيت كاتبا مبدعا يعاني في غياب تغطية صحية خاصة، وهو الذي ينتج لنا، في تقديري، الإنسانَ، وينشر القيم الإنسانية التي بها، نتقدم ونتطور على جميع الأصعدة.
أعاد رحيل الدكتور الباحث والقاص محمد البغوري تهييج تلك المواجع، صحيح أن الأعمار بيد الله، لكن لا يمكننا أن ننكر واقع الصحة في بلادنا، سيما في الظرفية الحالية، حيث تُحتَكَر بعض أدوية كورونا من طرف بعض المصحات الخاصة، أو تباع في السوق السوداء..
معاناة الكُتاب مع المرض، تعكس المكانة الاعتبارية للثقافة والمثقف، الذي له الحق في الاستفادة من عناية صحية ومصاحبة نفسية مجانية، لما أنتجه من فكر وأدب، كيفًا، ليس بالضرورة كمًّا.
تبقى في نظري، مأسسة القطاع الثقافي وتأطيره قانونيا ضرورة ملحة، وذلك يبدأ من البيت الداخلي، إذ من المحبذ تخطي كل اختلاف، وضخ دماء جديدة في الجسم الثقافي المغربي، في سبيل دفاع حقيقي عن حقوق الكتاب والمبدعين، لكي نتجاوز الاقتصار في كل نائبة، على تضامن معنوي خجول من قِبل بعض المنتسبين إلى "المجتمع الأدبي". أدعو بالرحمة والمغفرة للقاص محمد البغوري، اللهم ارحمه وأسكنه فسيح جناتك، وألهم أسرته الصغيرة الصبر. كما أجدد الرحمات على صديقنا محسن أخريف وكل الذين رحلوا عنا من أهل الإبداع في كل الأزمنة والأمكنة.
أحمد شرقي
مقال نشرته من قبل في جريدة المساء المغربية
إرسال تعليق