الخُدْعَة
لكل واحد منا ولع غريب بشيء ما، وكالبقية
كنت مغرما بزيارة الأسواق التقليدية، وفي الغالب ما يؤدي الآخرون ضريبة ولعك
وغرامك، لهذا كان صديقي "محسن" مجبرا على مرافقتي، لنقل أني كنت أقوم
بدعوته حتى لا يبدو ذلك إكراها. وكالعادة كنا نقصد
بائع السمك، نتناول شرائح سمك "الراية" بالتوابل بمعية إبريق شاي منسم
بالنعناع "البروج".
وبينما نحن في طريقنا نحو محل
"الحمري" بائع السمك، وقعت عيني على قطعة نقدية من فئة عشرة دراهم،
لكنني لم أفكر في التقاطها البتة، أوقفت صديقي والتفت بحذر يمنة ويسرة وأنا أبتسم
ابتسامة المدرك للمكيدة المدبرة. انتبه صديقي هو الآخر لوجودها، حاول انتشالها
بحركة خطافية، لكنني منعته بالقوة حتى بدا عليه الاستغراب، ثم أجبرته على الترجل
نحو وجهتنا، وقد اختلطت عليه ملامح الدهشة بالغضب وهو يسألني:
ــــ ما بالك يا رجل..؟! دعنا نأخذها! لقد وجدناها! ما الضير في ذلك؟!
فابتسمت وأنا أربت على كتفه حتى أخفف وطأة غضبه وقلت:
ــــ لا تنطلي عليك حيلهم يا صديقي.. إنهم يريدون اقتناصنا وجعلنا مسخرة..
إنها مكيدة مدبرة.. حتما إنها مكيدة مدبرة!
ــــ كيف..!! ألم يفقدها أحدهم دون أن يدري!! كان يبدو جادا فأجبت ساخرا:
ــــ يا لحظك السعيد يا صديقي، من بين مئات العابرين ستجدها أنت بالتحديد!!
ــــ ولماذا لا! فأنا محظوظ هيء.. هيء..
ــــ بل إنهم الضاحكون على الذقون، ينصبون فخاخهم ليسخروا من كل محاولة
التقاط قطعة أصبحت جزءا من الأرض نفسها، وإليك قصة في هذا الشأن:
حدث ذلك منذ حوالي عشرين سنة
تقريبا، حين دخلت الخالة "هنية" محل بيع الأواني البلاستيكية، وهي تلهث
وكأن جماعة من الذئاب الرمادية قد طاردتها، لم تجد غير ظهر صاحب المحل لتحتمي به،
لكن الشابين كانا ينتظران الفرصة السانحة لكي ينقضا عليها، وكأنهما يترقبان ظهور فريسة
اندست هنا أو هناك، وخاطبها أحدهما:
ــــ حسن، أيتها العجوز الشمطاء لنقتسم محتويات المحفظة وسنغفر لك هذا
العناء..
لكن العجوز "هنية"
رفضت ذلك وواصلت التمسك بالمحفظة كطفل متعلق بلعبة جديدة وسط حشد من الأطفال
المتربصين.. انتفض الشاب الثاني يعربد مترنحا:
ــــ لقد وجدناها سوية! أليس كذلك أيتها البخيلة؟!
وجد التاجر نفسه في حيص بيص، لا يعرف كيف يتصرف؛ أيتنكر للعجوز ويتركها
طريدة سهلة لهذين الشابين الشرسين، أم ينبري لهما مهددا استقرار دكانه. كاد يغتم،
إلى أن أنقدته فكرة برقت في ذهنه، فخاطب المرأة:
ــــ لماذا لا نفتح المحفظة ونرى ما فيها، وبعد ذلك سنرى ماذا سنفعل، لنحل
هذا المشكل، هيا..!!
لكن العجوز رفضت من جديد، وصممت على موقفها.. في الوقت الذي كان فيه الشاب
يشغل الممر ذهابا وجيئة، وهو يكيل وابلا من السباب الفاحش ! بينما مزق المترنح قميصه محتجا
ومهددا بنزع سرواله وفي أي لحظة..
لم تجد العجوز بدا من الانصياع،
خصوصا أن الشاب كان مستعدا لفعل أي شيء، إلا أنها اشترطت بكثير من الحزم:
ــــ سيكون الهاتف من نصيبي!؟
فانتفض الشاب المترنح صارخا:
ــــ بل سنقتسمه هو الآخر، لن تنعمي به!
لكن صديقه لكزه فأغلق
فمه مرغما بعد وعى بما تلفظ به لسانه. سلمت العجوز المحفظة والتردد يسيطر عليها،
فتح التاجر المحفظة مسرعا بعد أن بدأ الناس في التكاثر وساد الهرج والمرج. لم
يجدوا في المحفظة غير قطعة حجر مستطيلة، وقد لفت بخرقة من التوب، فبدت كمحفظة
مليئة بالنقود تسيل لعاب مرتادي السوق.
وقف الجميع وقد علتهم الدهشة، بينما انطلقت قهقهة هستيرية من حنجرة الشاب
وهو يسند رفيقه إلى كتفه ويغادر المحل..
كان على "الخالة هنية" أن تفعل شيئا،
لهذا مررت يدها المفتوحة على مقدمة رأسها لتمسح عرقا لم يكن موجودا، وكأنها تريد
أن تخفي وجهها من نظرات صاحب المحل وبعض الفضوليين.. وقبل أن تنصرف اقتربت من صاحب
المحل، ورجته بأن يظل ما حصل سجين هذه الجدران الأربعة، فحرك رأسه وهو يبتسم
ابتسامة ساخرة، لتختفي من أمامه ومن السوق إلى الأبد.
كنا عندها قد جلسنا.. في انتظار تجهيز طبق السمك، وحدق فيَّ صديقي محسن
مصدوما وهو يقول:
ــــ وطبعا لم يحافظ على السر! وإلا لما كانت القصة لتصلك!
لكنني نفيت ذلك وأكدت أنه وفى بعهده، فرد صديقي متهكما:
ــــ لأنه حكى لك القصة في المحل هيء..هيء.. لهذا رفضت التقاط القطعة النقدية! يا ويلي كدت أصير أضحوكة في آخر أيامي!؟
حسن كشاف
إرسال تعليق