عباس محمود العقاد: من المُصادَفَةِ اتفاقُ والدي ووالدتي.
يكادُ الجميعُ يتفقون على أن "عباس محمود العقاد" هو الأديب الفذُّ الذي صنع لنفسِه مجْداً أدبياً كبيراً عن طريق الأدب وحده، مجرَّداً عن الألقاب والمناصب، ومستغْنِياً عن العناوين العلمية والشارات الرسمية...
هو كاتبٌ جبارٌ.. عملاقٌ.. طلبَ الكرامةَ من طريق الأدب والثقافة، فكانت له في حياته وبعد حياتِه، ذلك لأنه كان يعتبرُ «الأدب والثقافة رسالةً مقدَّسَةً، يحقُّ لصاحبِها أَنْ يُصانَ شرفُهُ بين أعلى الطبقات الاجتماعية، بل بين أرفع المقامات الإنسانية بغير استثناء».
وإذْ قال "العقاد" بغير استثناء، فهو يعنيها حقيقَةً، والتاريخُ يذْكُرُ له صيْحَته الشهيرة في مجلس النواب، وقد قال على رؤوس الأشهاد من أعضائه: «إنَّ الأمَّةَ على استعدادٍ لأنْ تسْحقَ أكبرَ رأسٍ في البلد يخونُ الدستورَ ولا يصونُهُ»... فكانَ أنْ قضى في السجن تسعة أشهر بتهمة العيْبِ في الذات الملكيَّةِ.
وحكاياتٌ كثيرةٌ تُرْوى عنه، أبانَ فيها عن عِزَّةِ نفْسٍ شديدةٍ، نظرَ إليها البعْضُ، فقالوا إنها كبْرِياءٌ، وما هي بكبرياءٍ، لكنها (التحدي الخصوصي)، كما قال.
شخصيَّةٌ فذَّةٌ، اكتسب مكانته الأدبية الرفيعةَ، بكفاحِه المتصل العنيف الذي يُعدُّ به أُعْجوبَةً من أعاجيب عصرنا النادرة، كما قال الدكتور "شوقي ضيف".
من أين اكتسب "العقاد" هذه الشخصية؟
من تجارب الحياة، ومن الناس والكتب، ومن أبويْه...
ولعلَّ أثَرَ الأبويْن أسبقُ من كل أَثَرٍ، فكما يكونُ الآباءُ يكُونُ أبناؤهم في غالب الحالات، وقد كان أبوه وأُمّه شخصيْنِ متدينيْنِ فكان "العقادُ" شخْصاً متديِّناً كذلك.
حين أرادَ "العقاد" أن يتحدَّثَ عن أبيه في سيرته الذاتية (أنا)، أول ما ذكره صورةَ أبيه «على مصلاه يؤدي صلاة الصبْحِ ويجلس على سجادة الصلاة، من مطلع الفجْرِ إلى ما قبل الإفطار، ليتلو سُوَراً خاصة من القرآن الكريم ويعقبها بتلاوة الأدعية».
لقد انطبعت هذه الصورةُ في ذاكرته إلى آخر عمره، «لأنها كانت أول ما استقبله من الدنيا».
هذه الصورة جعلتْه يكتبُ عنها في (آخر كلماته):
«صلاةُ الصبحِ مع الفجْرِ إيذاناً للإنسانِ بأنَّ التوجُّهَ إلى الله حريَّةٌ له أمامَ سلطان الطبيعة: يَخْتِمُ بيدِه غاشِيَةَ الليلِ ويغلب بإرادتِه غالبَ النَّوْمِ، ولا ينتظرُ الإذْنَ بِخِتامِ الظلامِ منْ شمس النهار!»
وليس الصلاة ما يذكره عن أبيه فقط، وإنما يذكُرُ جلساتِه مع «شيوخٍ فيما بين الأربعين والسبعين، كانوا يسْمرون معه (...) ويقضون الوقْتَ في أحاديث... وقلَّما يمزحون أو يتفكَّهون إلا ثابوا إلى وقارِهم كالمعتذرين...».
هذه الجلساتُ أفادتْه كثيراً، ومن بين هذه الفوائد المطالعةُ والإقبال على الكتب والدواوين.
ثم فوائد نفسية، وأخلاقية، منها «احتقارُ المال الذي يُكْسَبُ عن طريق الإساءة إلى الناس»، ومحاسبة النفس عليه، والأخذ بالجِدِّ في الواجِبِ، والغضب للكرامة، والنزعة الدينية.
وأُمُّ "العقاد" كيف كانت؟
من المُصادفَةِ أنها تتفق مع أبيه في خصْلَةِ التديُّنِ؛ فقد كانت امرأَةً «تُصلِّي وتؤدِّي الصلاةَ في مواقيتِها»، وتصومُ وتطعمُ المساكين، وتصْبِرُ على الصمت والاعتكاف، حتى حسبَه الناسُ عن كبرياءٍ!
نفسُ ما قالوه عن "العقاد" عندما لمع في دنيا الأدب والفكر والسياسة والصحافة...
اشتهر "العقاد" بعبقرياته التي تناول فيها النبي محمداً (ص) وخلفاءه، كما اشتهر بكتب أخرى تتناول قضايا إسلامية، وشخصيات دينيَّةً، و«كان منْ أمانيه الكبرى أن يخْتِمَ حياتَه بتأليف كتابٍ عن (الإمام الغزالي وفلسفته)»… وما كلُّ هذا إلا بقية من أثرِ الإيمان الذي اكتسبَه من أبويْه قبل أن يُدَعِّمَه بالشعور والتأمل والقراءة والتفكير الطويل.
لم يتزوَّجْ "العقادُ"، ولوْ وَجَدَ زوْجَةً مثل أُمِّهِ لتزوج فوْراً... هكذا قال لأُمِّه ذات يوم!
الخضر الورياشي
إرسال تعليق