Iأغنية النورس الأخيرة
قراءة في رواية "مفقود" آخر أعمال الكاتب "حيدر حيدر"
بقلم الكاتب التونسي عماد قيدة
يعتبر الأديب السوري حيدر حيدر أحد أهم الأصوات الروائية العربية منذ ستينات القرن الماضي، مذ ظهرت رائعته "الزمن الموحش" التي صنفها اتحاد الكتاب العرب في المرتبة السابعة بين أفضل مائة رواية عربية كُتبت.
و إن كانت التصنيفات و التتويجات في العالم العربي لا تملك من المؤمنين بنزاهتها بقد ما تملك من مشككين و متحفّظين كل من الزاوية التي يحكم منها، فإن القيمة الإبداعية لحيدر حيدر لا يمكن لعارفيْن بالمدوّنة السردية العربية أن يختلفا حول أهمّيتها.
حيدر حيدر، هذا الكاتب العنيف في كلمته الصادم بجرأته و الآسر بلغته، و المقنع بسوداويته كان دائما بمثابة ماكينة للصراخ الدائم و التنديد على طريقته بكل مواطن القبح و الظلم و التخلّف و التبعيّة و الاستكانة و التضليل، كما لطالما كان أول المنحازين للقضايا العادلة الراهنة، على رأسها الصراع العربي الإسرائيلي، و مقاومة الدكتاتوريات العسكرية العربية و دعم الثورات التحررية في مختلف البلدان العربية كلبنان و الجزائر و العراق و غيرها. و كان أن جلب له التزامه هذا ويلات جمّة لعل أهمها التضييق و النفي و الغربة و المصادرة و كل ما يمكن أن يصيب مثقفا ملتزما في بلاد عربية ترزح تحت قوى القهر الداخلي و الهيمنة الخارجيّة، وتتربص بها الفتن فما تفتأ إحداها تخمد حتى تشتعل شرارة أخرى.
و أنا أعيد قراءة كتابه "حكايا النورس المهاجر" قبل حوالي أربع سنوات من الآن، تساءلت بيني و بين نفسي:
كل هذا التشاؤم و السّوداوية و النزيف كتبته أيها الكاتب في زمن معتلّ ولا شك، لكنه كان قبل زمان الخراب هذا الذي تعيشه سوريا و البلاد العربية، حيث أتى الانفلات الأناركي و التسيّب البربري على الأخضر القليل الذي كان و معه اليابس، فماذا لو أنك أعدت كتابة "الزمن الموحش" أو "وليمة لأعشاب البحر" في هذا الزمن، ما الذي كنت ستقوله و بأي حبر ستخط كلماتك، أ بدم البلاد المستباحة من كل قوى العالم الصديق منها قبل العدو، أم بنزيف أبناء الشعب الواحد الذين قتّلوا و صلبوا بعضهم حتّى الاندثار التشتت و ملامسة الانقراض ؟
جاء تساؤلي ذلك لمعرفتي مسبقا أن حيدر كان قد وضع حدّا لمسيرته الأدبية طوعا بعد أن أصدر "هجرة السنونو" سنة 2008 ، فكنت أشعر بأسى حقيقي لفقدان الساحة الأدبية لقلم أساسي كان ليوثّق أفضل من غيره للخراب الذي طال بلاده منذ اشتعال شرارة هذا الخريف العربي.
"لعلّني هجست داخليّا، أو قالت النفس: آن للمغني أن يصمت أخيرا. أو كما تقول العامّة "كسرنا الدّف و بطلنا الغِني".
لكن لأن أصوات الحق و أبواق الجمال و النور ليس في مقدورها أن تحال، أو تحيل نفسها إلى التقاعد، خرج كابنا أخيرا عن صمته ليغنّي أغنية أخيرة، و هي رواية "مفقود" التي صدرت كالعادة عن "دار ورد" العريقة.
و في التوطئة لهذا العمل كتب حيدر حيدر بأسوبه المؤلم و الجميل في آن:
[...] و كان أن جاءت الحرب فكانت ثالثة الأثافي. الحرب التي بدأتْ روايتها بالدم و الجنون و الوحشية. بدت الحرب كصدمة عبر ربيع دموي أسود, خلخل الروح و العقل و اطمئنان السراب البرّاق الذي كنا نحيا في ظلاله الخادعة ...
تحت ظلال قناعاتي بجوهر ما يجري من توحش و دمار و تحت وطأة الزلزال الداخلي للروح و العقل, بدت لي الكتابة غثاءً نافلا مرمى على شاطئ مهجور , كما تراءت لي على شاشة الذاكرة, أن سنوات الحفر عن التبشير بالتنوير خلال نصف قرن , نوع من العبث و اللاجدوى, بدت كمن يحفر في صحراء "النفوذ" عن نهر مفقود.
في هذه الرواية الجديدة يروي حيدر قصة واقعية لجندي نظامي سوري يدعى "يحيى بركات" نجا بأعجوبة من كمين نفذته ضدهم جبهة النصرة ليتسّلل إلى داخل مدينة الرقة، معقل الإرهابيين الأول، حيث كان له صديق آواه من ملاحقة المسلحين لمدة طويلة رغم أنه من طائفة مختلفة عنه، و بين لحظة حدوث الكمين وصولا إلى لحظة الانفراج، يمضي الكاتب في وصف الخراب و التدمير الممنهج لكل ما يمت للحضارة بصلة في المدينة، و شناعة التنكيل بكل مواطن الاختلاف عن عقيدة السواد و التعصّب، و ازدراء الذات البشرية و الحرمة الجسدية للإنسان من قبل مليشيات لا تملك ولاء سوى للطائفة و العشيرة.
يمكن اعتبار هذه الرواية هي الأولى التي يصرح الكاتب أنها سيرة واقعية، فقد كانت معظم أعماله السابقة، خاصة تلك التي صنعت شهرته، مستوحاة من سيرة حيدر حير الذاتية، فجاءت "الزمن الموحش" كعصارة لتجربة الصراع مع النظام الدكتاتوري و الحكم البوليسي الإستخباراتي في دمشق، و التجاذبات السياسية للمعارضة اليسارية المنقسمة أصلا فيما بينها، و جاءت "وليمة لأعشاب البحر" كنتاج لتجربة حيدر في المشاركة في حملة تعريب التعليم و المؤسسات الجزائرية إبان الاستقلال, كما كتب بعض الأعمال عندما هاجر إلى قبرص حيث عمل صحفيّا.
اليوم و قد تجاوز العقد الثامن من العمر, لازال بإمكان هذا العجوز المتشائم أن يضرب بقبضته على الطاولة و يعاتب, كونه ماانفكّ ينبهنا منذ عقود أن ما نعيشه اليوم كان آت لا محالة, عندما أفنى عمرا منددا بآليات الحكم بالقبضة البوليسية و فاضحا أكذوبة السّلم المدني و التعايش الطائفي الزائف المفروض بمنطق الكل سواسية أمام الجلاد. و من قرأ أعمال حيدر حيدر و فهم مقاصدها و تشرّب جماليتها الفنية, بمقدوره أن يفهم صرخات التنديد التي يصدح بها أدبه, حتى من خلال اللغة وحدها التي جعل منها صاحبها تعويذة مريرة ضلّت تكرر نفسها في جميع أعماله, قصة و رواية و مقالة, كدليل على الإصرار و العناد الشديدين.
الوحول, المستنقعات, الدّم الفاسد, الظلام, القتل, الغدر, العطب الخلقي, السلالة الموبوءة, الليل الطويل, العفن, النفق, السراب و الجنون و الديدان و الدمار و العبث ... تلك هي الوصفة اللغوية التي أسكن بها حيدر جميع نصوصه و شيد بها عالمه السردي و فرض من خلالها فلسفته و تأملاته, فلسفة لم تكن يوما مؤمنة بأن العربي قد وصل إلى مرتبة الكائن المتحضّر بأن نزع من دمّه لوثة اغتصاب الآخر و إقصائه, بل و فسخه.
و إن كان الجسد قد شاخ و وهن اليوم, لا يملك أن يهيم في الأرض الواسعة لينبش وراء الظلم أينما كان و يفضحه, فإن بمقدور العقل و القلم الحرّين أن يصدحا بأنغام الحرّية حتى من خلال رواية سيرة أناس آخرين.
"مفقود" هي رواية التنديد الدائم و الرفض لطغيان التوحّش و الكراهية و هي صوت المثقف المقاوم الذي يقاتل من أجل مبادئ النور و الإنعتاق حتى و إن كان على بعد أمتار من اليأس, أو من القبر.
عماد قيدة/ تونس
إرسال تعليق