فَـــنُّ السَّــــرْد

منبـر أدبـي ثقافي مغربي

recent

آخر المقالات

recent
recent
جاري التحميل ...

سلامة موسى: قالت لي أُمِّي تُخيفُني، دلوقت أختك تزعل منك وتضربك.

سلامة موسى: قالت لي أُمِّي تُخيفُني: دلوقت أختك تزعل منك وتضربك.
مجلة فن السرد




حين أراد النبيُّ "محمد" (ص) أن يتحدث عن النبي "عيسى" عليه السلام، قال:
«الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاتٍ ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ، وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ...».
ومفسرو الحديث يشرحون كلمة (إخوة لعلات) بأنهم إخوة إذا كانت أمهاتهم مختلفات وأبوهم واحداً. أما إذا كان الآباءُ مختلفين والأم واحدةً قيل: هم إخوة الآحاد، وفي قول آخر هم الأخياف.
استحضرتُ هذا الحديث وأنا أعتزمُ أن أكتب عن "سلامة موسى"، (وهو من الأقباط وليس من المسلمين)، في سلسلتي (آباؤهم وأمهاتهم)، التي خصصتُها للحديث عن آباء المشهورين وأمهاتهم، فوضْعُ "سلامة موسى" يقتضي أن أذْكُرَ أُمَّه كثيراً، وأذكرَ أباه قليلاً؛ لأنه عاشَ يتيم الأبِ؛ فقد مات أبوه وهو دون السنتيْن في 1889، «لكنَّ جوَّ البيتِ كان حافلاً بذِكْراه»، وذلك بفضْلِ أمِّه الوفيَّةِ لذكرى والده، حيث كانت تسردُ القصص عنه، «وبقيت بذلته معلَّقَةً إلى الحائط جُمْلَةَ سنواتٍ كما كانت يوم وفاته. حتى القميص المنشى بياقتِه المتصلة»!
ولم يترك الأبُ البذْلَةَ والقميصَ فقط، وإنما تركَ معاشاً لأهل بيتِه، وأكثر من مئة فدّانٍ، مِمَّا جعل الابْنَ "سلامة موسى" لا يحْتاجُ قطُّ إلى الكسْبِ.
 وإلى جانب هذا الأمْنِ الماديِّ وجدَ الحنانَ من والدتِه، فقد تركت أُمُّه في نفسه ذكرياتٍ من الحنان لا تزالُ تعودُ إلى ذهنه فتغمره بلذَّةٍ أليمةٍ، وحين تفرَّغَ لكتابة سيرته الذاتية (تربية سلامة موسى)، كتب: 
«فما زلْتُ أذكُرُها وأنا في طفولتي، وأنا في الحُمَّى، أتقلب وأستيقظ في فتراتٍ، فأراها قاعدةً إلى جنبي وتدعو وتصلي كأنها قد نسيت النوم. وكانت في سذاجة عقائدها، حين كنتُ أُودِّعُها للسفر إلى القاهرة وأنا بالمدرسة الثانوية، تُناديني عقب خروجي من الباب، وتصرُّ على أن أدخل البيتَ ثانيةً، كأنَّ في هذا رمزاً إلى عودتي سالماً بعد السفر»!.. يا لفؤادِ أُمِّ "سلامة موسى"!!
 «كانت امرأةً متديِّنَةً، تعنى بالصلاة والدعاء وقت مرضي أيام الطفولة أكثر مما تعنى باستشارة الطبيب. وقد قضيْتُ طفولتي وأنا في ملابس سوداء، أحملُ عِبْئاً من التعاويذ يعوقُ الحركةَ الحُرَّةَ. بل لا تزالُ في أذُني علامةُ الخرم الذي علق به قُرْطٌ، إيهاماً بأني لستُ غلاماً بل بنْتاً، حتى تتَّقي بذلك العيْنَ...»!
أُمٌّ مثل أكثر أمهات ذلك الزمن، وربما إلى زمننا هذا، تهيْمِنُ عليها الأمِّيَّةُ والإيمانُ بالخرافات واحترام التقاليد، ومع ذلك فلم تكن الطيبةُ تنقُصُهنَّ.
ومما يذكره "سلامة موسى" أنه حين كان طفْلاً لم يتجاوز السابعة أو السادسة، وكان قد غضبَ وصرخ ورفس وهو على العشاء، قالت له أمه تخيفُه: دلوقت أختك تزعل منك وتضربك.
والأخت هنا تعني (القرينة)، وهي عقيدةٌ خرافية، تستمد جذورها من زمن الفراعنة.
صحيحٌ أنَّ "سلامة موسى" نشأ متعلِّقاً بأمِّه الطيبة هذه، لكنه في نفس الوقت نفض عن نفسه معتقدات أمه، وسار في حياته على عكس ما كان بارزاً في الحياة الدينية، والحياة الاجتماعية، التي وجد عليها العائلات القبطية، وربّى نفسه بنفسه، وكون شخصيته بقراءاته، واختار آباءه من المفكرين والفلاسفة، وعلى أيديهم تعلَّمَ، وكانوا كثيرين، تحدث عنهم في كتابه (هؤلاء علَّموني)، إلا أنَّ أكثرهم تأثيراً في ذهْنِه الدكتور "شبلي شميل".. الدكتور "يعقوب صروف".. "فرح أنطون".. "أحمد لطفي السيد"... وفي كتابه (تربية سلامة موسى) قال بصريح العبارة:
«وقد كان هؤلاء الثلاثة: يعقوب صروف، وفرح أنطون، ولطفي السيد، من القوات التي صاغت شخصيتي الثقافية الذهنية».
وهؤلاء الثلاثة كانوا آباءه في مصر، وحين رحل إلى أوربا، وعزم أن يربي نفسه، ويولدَ من جديدٍ، اختارَ آباء آخرين، وكان منهم "برنارد شو" و"ولز" و"إبسن" و"نيتشه"... ويأتي "فرويد" بعد "داروين" و"ماركس"، في إيجاد المركبات الذهنية التي عملت في توسعه وتعمقه...
وبفضل هؤلاء الآباء المختلفين صنع "سلامة موسى" شخصيته، وإن فقدَ أباه الحقيقي وهو دون السنتيْن، لكن بفضل ما ترك له من ميراثٍ لم يجعله محتاجاً إلى الكسب أو الوظيفة، جعله يرتبط بآباء ممتازين، صنعوه على ثقافتهم وأفكارهم ومبادئهم وفلسفتهم في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والنفس والأدب والعلوم، وتأثر بهم، وأحبَّهم، ووجدَ فيهم النور والتوجيه، فكانت وظيفتُه بعد ذلك الثقافة ومحاربة الجهل والتخلف والظلم والظلام...

الكاتب المغربي الخضر الورياشي

عن الكاتب

مجلة فن السرد

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

فَـــنُّ السَّــــرْد